قال الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2].
وقال تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾ [العصر: 3]، ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ [البلد: 17]. وقال في وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29]، وكل هذه الآيات تنبيه من الله تعالى للعباد على آداب حقوق الصحبة، فمن اختار صحبة أو أخوة فأدبه في أول ذلك أن يسلم نفسه وصاحبه إلى الله تعالى بالمسألة والدعاء والتضرع، ويسأل البركة في الصحبة؛ فإنه يفتح على نفسه بذلك إما بابًا من أبواب الجنة، وإما بابًا من أبواب النار.
فإن كان الله تعالى يفتح بينهما خيرًا فهو باب من أبواب الجنة، قال الله تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزُّخرف: 67]. وقيل: إن أحد الأخوين في الله تعالى يقال له: ادخل الجنة، فيسأل عن منزل، فإن كان دونه لم يدخل الجنة حتى يعطى أخوه مثل منزله، فإن قيل له: لم يكن يعمل مثل عملك، فيقول: إني كنت أعمل لي وله، فيعطى جميع ما يسأل لأخيه، ويرفع أخوه إلى درجته.
وإن فتح الله تعالى عليهما بالصحبة شرًّا فهو باب من أبواب النار، قال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (٢٧) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾ [الفرقان: 27، 28]، وإن كانت الآية وردت في قصة مشهورة، ولكن الله تعالى نبه بذلك عباده على الحذر من كل خليل يقطع عن الله، واختيار الصحبة والأخوة اتفاقًا من غير نية في ذلك وتثبت في أول الأمر شأن أرباب الغفلة الجاهلين بالنيات والمقاصد والمنافع والمضار.
وقد قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما، في كلام له-: وهل يفسد الناس إلا الناس؟ فالفساد بالصحبة متوقع، والصلاح متوقع، وما هذا سبيله كيف لا يحذر في أوله؟ ويحكم الأمر فيه بكثرة اللجأ إلى الله تعالى، وصدق الاختيار، وسؤال البركة والخيرة في ذلك، وتقديم صلاة الاستخارة، ثم إن اختيار الصحبة والأخوة عمل، وكل عمل يحتاج إلى النية وإلى حسن الخاتمة، وقد قال عليه الصلاة والسلام -في الخبر الطويل-: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تعالى». فمنهم اثنان تَحَابَّا فِي اللهِ، فعاشا عَلَى ذَلِكَ، وماتا عليه، إشارة إلى أن الأخوة والصحبة من شرطهما حسن الخاتمة حتى يكتب لهما ثواب المؤاخاة، ومتى أفسد المؤاخاة بتضييع الحقوق فيها فسد العمل من الأول.
(قيل): ما حسد الشيطان متعاونين على بر حسده متآخيين في الله متحابين فيه، فإنه يجهد نفسه ويحث قبيله على إفساد ما بينهما.
(وكان) الفضيل يقول: إذا وقعت الغيبة ارتفعت الأخوة، والأخوة في الله تعالى مواجهة، قال الله تعالى: ﴿إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: 47]. ومتى أضمر أحدهما للآخر سوءًا أو كره منه شيئًا، ولم ينبهه عليه حتى يزيله أو يتسبب إلى إزالته منه فما واجهه، بل استدبره.
(قال الجنيد) -رحمه الله-: ما تواخى اثنان في الله واستوحش أحدهما من صاحبه إلا لعلة في أحدهما، فالمؤاخاة في الله أصفى من الماء الزلال، وما كان لله فالله مطالِب بالصفاء فيه، وكل ما صفا دام، والأصل في دوام صفائه عدم المخالفة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تُمَارِ أَخَاكَ، وَلَا تُمَازِحْهُ، وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخْلِفَهُ».
(قال أبو سعيد الخراز:) صحبت الصوفية خمسين سنة ما وقع بيني وبينهم خلاف، فقيل له: وكيف ذلك قال: لأني كنت معهم على نفسي.
(أخبرنا) شيخنا أبو النجيب السهروردي -إجازة- قال: أنا عمر بن أحمد الصفار قال: أنا أبو بكر أحمد بن خلف قال: أنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت عبد الله الداراني قال: سمعت أبا عمرو الدمشقي الرازي يقول: سمعت أبا عبد الله بن الجلاء يقول وقد سأله رجل: على أي شرط أصحب الخلق؟ فقال: إن لم تبرهم فلا تؤذهم، وإن لم تسرهم فلا تسؤهم.
(وبهذا الإسناد) قال أبو عبد الله: لا تضيع حق أخيك بما بينك وبينه من المودة والصداقة؛ فإن الله تعالى فرض لكل مؤمن حقوقًا لم يضيعها إلا من لم يراع حقوق الله عليه، ومن حقوق الصحبة أنه إذا وقع فرقة ومباينة لا يذكر أخاه إلا بخير.
(قيل:) كان لبعضهم زوجة، وكان يعلم منها ما يكرهه فكان يقال له استخبارًا عن حالها، فيقول: لا ينبغي للرجل أن يقول في أهله إلا خيرًا، ففارقها وطلقها.
فاستخبر عن ذلك فقال: امرأة بعدت عني وليست مني في شيء، كيف أذكرها؟ وهذا من التخلق بأخلاق الله تعالى أنه سبحانه يظهر الجميل ويستر القبيح.
وإذا وجد من أحدهما ما يوجب التقاطع فهل يبغضه أو لا؟ اختلف القول في ذلك، كان أبو ذر يقول: إذا انقلب عما كان عليه أبغضه من حيث أحببته. وقال غيره: لا يبغض الأخ بعد الصحبة، ولكن يبغض عمله.
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [الشعراء: 216]. ولم يقل إني بريء منكم.
(وقيل): كان شاب يلازم مجالس أبي الدرداء، وكان أبو الدرداء يميزه على غيره، فابتلي الشاب بكبيرة من الكبائر، وانتهى إلى أبي الدرداء ما كان منه، فقيل له: لو أبعدته وهجرته. فقال: سبحان الله! لا يترك الصاحب بشيء كان منه.
(قيل): الصداقة لحمة كلحمة النسب.
(وقيل) لحكيم مرة: أيما أحب إليك أخوك أو صديقك؟ فقال: إنما أحب أخي إذا كان صديقًا. وهذا الخلاف في المفارقة ظاهرًا وباطنًا. وأما الملازمة باطنًا إذا وقعت المباينة ظاهرًا فتختلف باختلاف الأشخاص، ولا يطلق القول فيه إطلاقًا من غير تفصيل؛ فمن الناس من كان تغيره رجوعًا عن الله، وظهور حكم سوء السابقة، فيجب بغضه، وموافقة الحق فيه، ومن الناس من كان تغيره عثرة حدثت، وفترة وقعت، يرجى عوده، فلا ينبغي أن يبغض، ولكن يبغض عمله في الحالة الحاضرة، ويلحظ بعين الود منتظرًا له الفرج والعود إلى أوطان الصلح، فقد ورد أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لما شتم القوم الرجل الذي أتى بفاحشة قال: «مه». وزجرهم بقوله: «ولا تكونوا عونًا للشيطان على أخيكم».
(وقال) إبراهيم النخعي: لا تقطع أخاك ولا تهجره عند الذنب يذنبه؛ فإنه يركبه اليوم ويتركه غدًا.
(وفي الخبر): «اتَّقُوا زَلَّةَ الْعَالِمِ، ولا تقطعوه، وَانْتَظِرُوا فَيْئَتَهُ».
(وروي) أن عمر رضى الله عنه سأل عن أخ له، كان أخاه، فخرج إلى الشام، فسأل عند بعض من قدم عليه، فقال: ما فعل أخي؟ فقال له: ذاك أخوه الشيطان، قال له: مه. قال له: إنه قارف الكبائر حتى وقع في الخمر. فقال: إذا أردتَ الخروج فآذني، قال: فكتب إليه: ﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾ [غافر: 1- 3]. ثم عاتبه تحت ذلك وعذله، فلما قرأ الكتاب بكى فقال: صدق الله تعالى، ونصح عمر، فتاب ورجع.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ابن عمر يلتفت يمينًا وشمالًا، فسأله فقال: يا رسول الله، آخيت رجلًا فأنا أطلبه ولا أراه، فقال: «يا عبد الله، إذا آخيت أحدًا فاسأله عن اسمه واسم أبيه، وعن منزله، فإن كان مريضًا عدته، وإن كان مشغولًا أعنته».
وكان يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: ما اختلف رجل إلى مجلسي ثلاثًا من غير حاجة تكون له فعلمت ما مكافأته في الدنيا. وكان يقول سعيد بن العاص: لِجليسي عَلَيَّ ثلاث: إذا دنا رحبت به، وإذا حَدَّث أقبلت عليه، وإذا جلس أوسعت له.
وعلامة خلوص المحبة لله تعالى ألَّا يكون فيها شائبة حظ عاجل من رفق أو إحسان، فإن ما كان معلولًا يزول بزوال علته، ومن لا يستند في خلته إلى علة يحكم بدوام خلته.
ومن شرط الحب في الله: إيثار الأخ بكل ما يقدر عليه من أمر الدين والدنيا.
قال الله تعالى: ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9]. فقوله تعالى: ﴿وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا_؛ أي لا يحسدون إخوانهم على ما لهم، وهذان الوصفان بهما يكمل صفو المحبة. أحدهما: انتزاع الحسد على شيء من أمر الدين والدنيا. والثاني: الإيثار بالمقدور.
وفي «الخبر» عن سيد البشر -عليه الصلاة والسلام-: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، ولا خير لك في صحبة من لا يرى لك مثل ما يرى لنفسه».
(وكان) يقول أبو معاوية الأسود: إخواني كلهم خير مني، قيل: وكيف ذاك؟ قال: كلهم يرى لي الفضل عليه، ومن فضلني على نفسه فهو خير مني، ولبعضهم نظمًا:
تذلل لمن إن تذللت له |
* | يرى ذاك للفضل لا للبله |
وجانب صداقة من لم يزل |
* | على الأصدقاء يرى الفضل له |