أخبرنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب السهروردي -رحمه الله- قال: أنا أبو منصور بن خيرون -إجازة- قال: أنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري -إجازة- قال: أنا أبو عمرو محمد بن العباس بن محمد قال: أنا أبو محمد يحيى بن صاعد قال: أنا الحسين بن الحسن المروزي قال: أنا عبد الله بن المبارك قال: أنا الهيثم بن حميل قال: أنا كثير بن سليم المدائني قال: سمعت أنس بن مالك رضى الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، إني رجل ذرب اللسان وأكثر ذلك على أهلي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَيْنَ أَنْتَ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ، فإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللهَ في اليوم والليلة مئة مَرَّةٍ».
(وروى) أبو هريرة رضى الله عنه في حديث آخر: «فإني لأستغفر الله وأتوب إليه في كل يوم مئة مرة».
(وروى) أبو بردة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فأستغفر اللهَ فِي الْيَوْمِ مئة مَرَّةٍ».
وقال الله تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31].
وقال الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ [البقرة: 222].
وقال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ [التَّحريم: 8].
التوبة أصل كل مقام، وقوام كل مقام، ومفتاح كل حال، وهي أول المقامات، وهي بمثابة الأرض للبناء، فمن لا أرض له لا بناء له، ومن لا توبة له لا حال له ولا مقام له، وإني بمبلغ علمي وقدر وسعي وجهدي اعتبرت المقامات والأحوال وثمرتها، فرأيتها يجمعها ثلاثة أشياء بعد صحة الإيمان وعقوده وشروطه فصارت مع الإيمان أربعة، ثم رأيتها في إفادة الولادة المعنوية الحقيقة بمثابة الطبائع الأربع التي جعلها الله تعالى بإجراء سننه مفيدة للولادة الطبيعية، ومن تحقق بحقائق هذه الأربع يلج ملكوت السماوات، ويكاشف بالقدر والآيات، ويصير له ذوق وفهم لكلمات الله تعالى المنزلات، ويحظى بجميع الأحوال والمقامات، فكلها من هذه الأربع ظهرت، وبها تهيأ وتأكدت.
فأحد الثلاث بعد الإيمان: التوبة النصوح، والثاني: الزهد في الدنيا، والثالث: تحقيق مقام العبودية بدوام العمل لله تعالى ظاهرًا وباطنًا من الأعمال القلبية والقالبية من غير فتور وقصور، ثم يستعان على إتمام هذه الأربعة بأربعة أخرى بها تمامًا، وقوامها وهي: قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام، والاعتزال عن الناس، واتفق العلماء الزاهدون والمشايخ على أن هذه الأربع بها تستقر المقامات وتستقيم الأحوال، وبها صار الأبدال أبدالًا بتأييد الله تعالى وحسن توفيقه.
ونبين بالبيان الواضح أن سائر المقامات تندرج في صحة هذه، ومن ظفر بها فقد ظفر بالمقامات كلها، أولها بعد الإيمان التوبة، وهي في مبدأ صحتها تفتقر إلى أحوال، وإذا صحت تشتمل على مقامات وأحوال، ولا بد في ابتدائها من وجود زاجر، ووجدان الزاجر حال؛ لأنه موهبة من الله تعالى، على ما تقرر أن الأحوال مواهب، حال الزجر مفتاح التوبة ومبدؤها.
قال رجل لبشر الحافي: ما لي أراك مهومًا؟ قال: لأني ضال ومطلوب؛ ضللت الطريق والمقصد، وأنا مطلوب به، ولو تبينت كيف الطريق إلى المقصد لطلبت، ولكن سنة الغفلة أدركتني، وليس لي منها خلاص إلا أن أزجر فأنزجر.
وقال الأصمعي: رأيت أعرابيًّا بالبصرة يشتكي عينيه، وهما يسيل منهما الماء، فقلت له: ألا تمسح عينيك؟ فقال: لا؛ لأن الطبيب زجرني، ولا خير فيمن لا ينزجر.
فالزاجر في الباطن حال يهبها الله تعالى ولا بد من وجودها للتائب، ثم بعد الانزجار يجد العبد حال الانتباه، قال بعضهم: من لزم مطالعة الطوارق انتبه.
(وقال) أبو يزيد: علامة الانتباه خمس: إذا ذكر نفسه افتقر، وإذا ذكر ذنبه استغفر، وإذا ذكر الدنيا اعتبر، وإذا ذكر الآخرة استبشر، وإذا ذكر المولى اقشعر.
(وقال) بعضهم: الانتباه أوائل دلالات الخير إذا انتبه العبد من رقدة غفلته أداه ذلك الانتباه إلى التيقظ، فإذا تيقظ ألزمه تيقظه الطلب لطريق الرشد فيطلب، وإذا طلب عرف أنه على غير سبيل الحق، فيطلب الحق، ويرجع إلى باب توبته، ثم يعطى بانتباهه حال التيقظ.
(قال) فارس: أو في الأحوال التيقظ والاعتبار.
(وقيل): التيقظ تبيان خط المسلك بعد مشاهدة سبيل النجاة.
(وقيل): إذا صحت اليقظة كان صاحبها في أوائل طريق التوبة.
(وقيل): اليقظة خردة من جهة المولى لقلوب الخائفين، تدلهم على طلب التوبة، فإذا تمت يقظته نقل بذلك إلى مقام التوبة، فهذه أحوال ثلاثة تتقدم التوبة، ثم التوبة في استقامتها تحتاج إلى المحاسبة، ولا تستقيم التوبة إلا بالمحاسبة.
(نقل) عن أمير المؤمنين علي رضى الله عنه أنه قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر على الله، ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾ [الحاقة: 18]؛ فالمحاسبة بحفظ الأنفاس، وضبط الحواس، ورعاية الأوقات، وإيثار المهمات، ويعلم العبد أن الله تعالى أوجب عليه هذه الصلوات الخمس في اليوم والليلة رحمة منه لعلمه سبحانه بعبده، واستيلاء الغفلة عليه كي لا يستعبده الهوى وتسترقه الدنيا، فالصلوات الخمس سلسة تجذب النفوس إلى مواطن العبودية لأداء حق الربوبية، ويراقب العبد نفسه بحسن المحاسبة من كل صلاة إلى صلاة أخرى، ويسد مداخل الشيطان بحسن المحاسبة والرعاية، ولا يدخل في الصلاة إلا بعد حل العقد عن القلب بحسن التوبة والاستغفار؛ لأن كل كلمة وحركة على خلاف الشرع تنكت في القلب نكتة سوداء وتعقد عليه عقدة، والمتفقد المحاسب يهيئ الباطن للصلاة بضبط الجوارح، ويحقق مقام المحاسبة، فيكون عند ذلك لصلاته نور، يشرق على أجزاء وقته إلى الصلاة الأخرى، فلا تزال صلاته منورة تامة بنور وقته، ووقته منورًا معمورًا بنور صلاته، وكان بعض المحاسبين يكتب الصلوات في قرطاس ويدع بين كل صلاتين بياضًا، وكلما ارتكب خطيئة من كلمة غيبة أو أمر آخر خط خطًّا، وكلما تكلم أو تحرك فيما لا يعنيه نقط نقطة؛ ليعتبر ذنوبه وحركاته فيما لا يعنيه لتضيق المحاسبة مجاري الشيطان والنفس الأمارة بالسوء لموضع صدقه في حسن الافتقاد، وحرصه على تحقيق مقام العباد، وهذا مقام المحاسبة والرعاية يقع من ضرروة صحة التوبة.
(قال) الجنيد: من حسنت رعايته دامت ولايته.
وسئل الواسطي: أي الأعمال أفضل؟ قال: مراعاة السر، والمحاسبة في الظاهر، والمراقبة في الباطن، ويكمل أحدهما بالآخر، وبهما تستقيم التوبة والمراقبة. والرعاية حالان شريفان، ويصيران مقامين شريفين، يصحان بصحة مقام التوبة، وتستقيم التوبة على الكمال بهما، فصارت المحاسبة والمراقبة والرعاية من ضرورة مقام التوبة.
(أخبرنا) أبو زرعة -إجازة- عن ابن خلف أبي بكر الشيرازي قال: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت الحسن الفارسي يقول: سمعت الجريري يقول: أمرنا هذا مبني على فصلين: وهو أن تُلْزِمَ نفسك المراقبة لله تعالى، ويكون العلم على ظاهرك قائمًا.
(قال) المرتعش: المراقبة مراعاة السر لملاحظة الحق في كل لحظة ولفظة.
قال الله تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد: 33].
وهذا هو علم القيام، وبذلك يتم علم الحال، ومعرفة الزيادة والنقصان هو أن يعلم معيار حاله فيما بينه وبين الله، وكل هذا ملازم لصحة التوبة، وصحة التوبة ملازم لها؛ لأن الخواطر مقدمات العزائم، والعزائم مقدمات الأعمال؛ لأن الخواطر تحقق إرادة القلب، والقلب أمير الجوارح، ولا تتحرك إلا بتحرك القلب بالإرادة، وبالمراقبة حسم مواد الخواطر الرديئة، فصار من تمام المراقبة تمام التوبة؛ لأن من حصر الخواطر كفي مؤنة الجوارح؛ لأن بالمراقبة اصطلام عروق إرادة المكاره من القلب، وبالمحاسبة استدراك ما انفلت من المراقبة.
(أخبرنا) أبو زرعة عن ابن خلف عن السلمي قال: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: أفضل ما يلزم الإنسان في هذا الطريق المحاسبة والمراقبة، وسياسية العمل بالعلم، وإذا صحت التوبة صحت الإنابة. قال إبراهيم بن أدهم: إذا صدق العبد في توبته صار منيبًا؛ لأن الإنابة ثاني درجة التوبة.
(وقال) أبو سعيد القرشي: المنيب: الراجع عن كل شيء يشغله عن الله إلى الله.
وقال بعضهم: الإنابة الرجوع منه إليه، لا من شيء غيره، فمن رجع من غيره إليه ضيع أحد طرفي الإنابة، والمنيب على الحقيقة من لم يكن له مرجع سواه، فيرجع إليه من رجوعه، ثم يرجع من رجوع رجوعه، فيبقى شبحًا لا وصف له، قائمًا بين يدي الحق، مستغرقًا في عين الجمع، ومخالفة النفس ورؤية عيوب الأفعال والمجاهدة تتحقق بتحقيق الرعاية والمراقبة.
قال أبو سليمان: ما استحسنت من نفسي عملًا فأحتسبه.
(وقال) أبو عبد الله السجزي: من استحسن شيئًا من أحواله في حال إرادته فسدت عليه إرادته إلا أن يرجع إلى ابتدائه فيروض نفسه ثانيًا، ومن لم يزن نفسه بميزان الصدق فيما له وعليه لا يبلغ مبلغ الرجال. ورؤية عيوب الأفعال من ضرورة صحة الإنابة، وهو في تحقيق مقام التوبة، ولا تستقيم التوبة إلا بصدق المجاهدة، ولا يصدق العبد في المجاهدة إلا بوجود الصبر.
(وروى) فضالة بن عبيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ». ولا يتم ذلك إلا بالصبر، وأفضل الصبر: الصبر على الله بعكوف الهم عليه، وصدق المراقبة له بالقلب، وحسم مواد الخواطر، والصبر ينقسم إلى فرض وفضل، فالفضل كالصبر على أداء المفترضات، والصبر عن المحرمات، ومن الصبر الذي هو فضل الصبر على الفقر، والصبر عند الصدمة الأولى، وكتمان المصائب والأوجاع، وترك الشكوى، والصبر على إخفاء الفقر، والصبر على كتم المنح والكرامات، ورؤية العبر والآيات، ووجوه الصبر فرضًا وفضلًا كثيرة، وكثير من الناس من يقوم بهذه الأقسام من الصبر، ويضيق عن الصبر على الله بلزوم صحة المراقبة والرعاية ونفي الخواطر، فإذن حقيقة الصبر كائنة في التوبة كينونة المراقبة في التوبة، والصبر من أعز مقامات الموقنين وهو داخل في حقيقة التوبة.
(قال بعض العلماء:) أي شيء أفضل من الصبر؟ وقد ذكره الله تعالى في كلامه في نيف وتسعين موضعًا، وما ذكر شيئًا بهذا العدد، وصحة التوبة تحتوي على مقام الصبر مع شرفه.
ومن الصبر: الصبر على النعمة، وهو ألَّا يصرفها في معصية الله تعالى، وهذا أيضًا داخل في صحة التوبة.
وكان سهل بن عبد الله يقول: الصبر على العافية أشد من الصبر على البلاء.
(وروي) عن بعض الصحابة: بلينا بالضراء فصبرنا، وبلينا بالسراء فلم نصبر. ومن الصبر: رعاية الاقتصاد في الرضا والغضب، والصبر عن محمدة الناس، والصبر -على الخمول والتواضع والذل- داخل في الزهد، وإن لم يكن داخلًا في التوبة، وكل ما فات من مقام التوبة من المقامات السنية والأحوال وجد في الزهد، وهو ثالث الأربعة التي ذكرنا، وحقيقة الصبر تظهر من طمأنينة النفس، وطمأنينتها من تزكيتها، وتزكيتها بالتوبة، فالنفس إذا تزكت بالتوبة النصوح زالت عنها الشراسة الطبيعية، وقلة الصبر من وجود الشراسة للنفس وإبائها واستعصائها، والتوبة النصوح تلين النفس وتخرجها من طبيعتها وشراستها إلى اللين؛ لأن النفس بالمحاسبة والمراقبة تصفو وتنطفئ نيرانها المتأججة بمتابعة الهوى، وتبلغ بطمأنينتها محل الرضا ومقامه، وتطمئن في مجاري الأقدار.
(قال أبو عبد الله) النباجي: لله عباد يستحيون من الصبر، ويتلقفون مواضع أقداره بالرضا تلقفًا.
(وكان) عمر بن عبد العزيز يقول: أصبحت وما لي سرور إلا مواقع القضاء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس حين وصاه: «اعمل لله باليقين في الرضا، فإن لم يكن فإن في الصبر خيرًا كثيرًا».
(وفي الخبر) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مِن خيرِ ما أعطي الرجل الرضا بما قسم الله تعالى له».
فالأخبار والآثار والحكايات في فضيلة الرضا وشرفه أكثر من أن تحصى، والرضا ثمرة التوبة النصوح، وما تخلف عبد عن الرضا إلا بتخلفه عن التوبة النصوح، فإذن تجمع التوبة النصوح حال الصبر ومقام الصبر وحال الرضا ومقام الرضا.
والخوف والرجاء مقامان شريفان من مقامات أهل اليقين وهما كائنان في صلب التوبة النصوح؛ لأن خوفه حمله على التوبة، ولولا خوفه ما تاب، ولولا رجاؤه ما خاف، فالرجا والخوف يتلازمان في قلب المؤمن، ويعتدل الخوف والرجا للتائب المستقيم في التوبة.
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في سياق الموت فقال: «كيف تجدك؟»، قال: أجدني أخاف ذنوبي وأرجو رحمة ربي. فقال: «ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما رجا، وآمنه مما يخاف».
وجاء في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]. هو العبد يذنب الكبائر، ثم يقول: قد هلكت، لا ينفعني عمل، فالتائب خاف، فتاب، ورجا المغفرة، ولا يكون التائب تائبًا إلا وهو راجٍ خائف، ثم إن التائب حيث قيد الجوارح عن المكاره، واستعان بنعم الله على طاعة الله فقد شكر النعم؛ لأن كل جارحة من الجوارح نعمة، وشكرها قيدها عن المعصية، واستعمالها في الطاعة، وأي شاكر للنعمة أكبر من التائب المستقيم؟ فإذا جمع مقام التوبة هذه المقامات كلها فقد جمع مقام التوبة حال الزجر وحال الانتباه وحال التيقظ ومخالفة النفس والتقوى والمجاهدة ورؤية عيوب الأفعال والإنابة والصبر والرضا والمحاسبة والمراقبة والرعاية والشكر والخوف والرجا.
وإذا صحت التوبة النصوح وتزكت النفس انجلت مرآة القلب وبان، قبح الدنيا فيها، فيحصل الزهد، والزاهد يتحقق فيه التوكل؛ لأنه لا يزهد في الموجود إلا لاعتماده على الموعود، والسكون إلى وعد الله تعالى هو عين التوكل، وكلما بقي على العبد بقية في تحقق المقامات كلها بعد توبته يستدركه بزهده في الدنيا، وهو ثالث الأربعة.
(أخبرنا) شيخنا قال: أنا أبو منصور محمد بن عبد الملك بن خيرون قال: أنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري -إجازة- قال: أنا أبو عمرو محمد بن العباس قال: أنا أبو محمد يحيى بن ساعدة قال: حدثنا الحسين بن الحسن المروزي قال: حدثنا عبد الله بن المبارك قال: حدثنا الهيثم ابن جميل قال: أنا محمد بن سليمان عن عبد الله بن بريدة قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر، فبدأ بفاطمة -رضي الله عنها- فرآها قد أحدثت في البيت سترًا وزوائد في يديها، فلما رأى ذلك رجع ولم يدخل، ثم جلس فجعل ينكت في الأرض، ويقول: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا لِي وَلِلدُّنْيَا»، فرأت فاطمة أنه إنما رجع من أجل ذلك الستر، فأخذت الستر والزوائد وأرسلت بهما مع بلال، وقالت له: اذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقل له: قد تصدقت به فضعه حيث شئت. فأتى بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قالت فاطمة: قد تصدقت به فضعه حيث شئت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بأبي وأمي قد فعلت، بأبي وأمي قد فعلت، اذهب فبعه».
(وقيل) في قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف: 7]. قيل: الزهد في الدنيا.
سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضى الله عنه عن الزهد فقال: هو ألَّا تبالي بمن أكل الدنيا مؤمن أو كافر.
(وسئل) الشبلي عن الزهد فقال: ويلكم! أي مقدار لجناح بعوضة أن يزهد فيها؟.
وقال أبو بكر الواسطي: إلى متى تصول بترك كنيف؟ وإلى متى تصول بإعراضك عما لا تزن عند الله جناح بعوضة؟.
فإذا صح زهد العبد صح توكله أيضًا؛ لأن صدق توكله مكنه من زهده في الموجود، فمن استقام في التوبة وزهد في الدنيا، وحقق هذين المقامين استوفى سائر المقامات وتكون فيها وتحقق بها، وترتيب التوبة مع المراقبة وارتباط إحداهما بالأخرى أن يتوب العبد، ثم يستقيم في التوبة حتى لا يكتب عليه صاحب الشمال شيئًا، ثم يرتقي من تطهير الجوارح عن المعاصي إلى تطهير الجوارح عما لا يعني، فلا يسمح بكلمة فضول ولا حركة فضول، ثم ينتقل للرعاية والمحاسبة من الظاهر إلى الباطن، وتستولي المراقبة على الباطن وهو التحقق بعلم القيام بمحو خواطر المعصية عن باطنه، ثم خواطر الفضول، فإذا تمكن من رعاية الخطرات عُصِم عن مخالفة الأركان والجوارح وتستقيم توبته.
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾ [هود: 112]. أمره الله تعالى بالاستقامة في التوبة أمرًا له ولأتباعه وأمته.
(وقيل): لا يكون المريد مريدًا حتى لا يكتب عليه صاحب الشمال عشرين سنة، ولا يلزم من هذا وجود العصمة، ولكن الصادق التائب في النادر إذا ابتلي بذنب ينمحي أثر الذنب من باطنه في ألطف ساعة؛ لوجود الندم في باطنه على ذلك، والندم توبة فلا يكتب عليه صاحب الشمال شيئًا، فإذا تاب توبة نصوحًا ثم زهد في الدنيا حتى لا يهتم في غدائه لعشائه، ولا في عشائه لغدائه، ولا يرى الادخار، ولا يكون له تعلق هم بغدٍ، فقد جمع في هذا الزهد والفقر، والزهد أفضل من الفقر، وهو فقر وزيادة؛ لأن الفقير عادم للشيء اضطرارًا، والزاهد تارك للشيء اختيارًا، وزهده يحقق توكله، وتوكله يحقق رضاه، ورضاه يحقق الصبر، وصبره يحقق حبس النفس وصدق المجاهدة، وحبس النفس لله يحقق خوفه، وخوفه يحقق رجاءه ويجمع بالتوبة والزهد كل المقامات، والزهد والتوبة إذا اجتمعا مع صحة الإيمان وعقوده وشروطه يعوز هذه الثلاثة رابع به تمامها وهو دوام العمل؛ لأن الأحوال السنية ينكشف بعضها بهذه الثلاثة، وتيسير بعضها متوقف على وجود الرابع وهو دوام العمل، وكثير من الزهاد المتحققين بالزهد المستقيمين في التوبة تخلفوا عن كثير من سني الأحوال؛ لتخلفهم عن هذا الرابع.
ولا يراد الزهد في الدنيا إلا لكمال الفراغ المستعان به على إدامة العمل لله تعالى، والعمل لله أن يكون العبد لا يزال ذاكرًا أو تاليًا أو مصليًا أو مراقبًا، لا يشغله عن هذه إلا واجب شرعي أو مهم لا بد منه طبيعي، فإذا استولى العمل القلبي عن القلب مع وجود الشغل الذي أداه إليه حكم الشرع لا يفتر باطنه عن العمل، فإذا كان مع الزهد والتقوى متمسكًا بدوام العمل فقد أكمل الفضل وما آلى جهدًا في العبودية.
(قال أبو بكر الوراق): من خرج من قالب العبودية صُنِعَ به ما يصنع بالآبق.
(وسئل) سهل بن عبد الله التستري: أي منزلة إذا قام العبد بها قام مقام العبودية؟ قال: إذا ترك التدبير والاختيار، فإذا تحقق العبد بالتوبة والزهد ودوام العمل لله يشغله وقته الحاضر عن وقته الآتي، ويصل إلى مقام ترك التدبير والاختيار، ثم يصل إلى أن يملك الاختيار، فيكون اختياره من اختيار الله تعالى لزوال هواه ووفور علمه وانقطاع مادة الجهل عن باطنه.
(قال) يحيى بن معاذ الرازي: ما دام العبد يتعرف يقال له: لا تختر، ولا تكن مع اختيارك حتى تعرف، فإذا عرف وصار عارفًا يقال له: إن شئت اختر وإن شئت لا تختر؛ لأنك إن اخترت فباختيارنا اخترت، وإن تركت الاختيار فباختيارنا تركت الاختيار؛ فإنك بنا في الاختيار وفي ترك الاختيار، والعبد لا يتحقق بهذا المقام العالي والحال العزيز الذي هو الغاية والنهاية، وهو أن يملك الاختيار بعد ترك التدبير والخروج من الاختيار إلا بإحكامه هذه الأربعة التي ذكرناها؛ لأن ترك التدبير فناء، وتمليك التدبير والاختيار من الله تعالى لعبده ورده إلى الاختيار تصرف بالحق، وهو مقام البقاء وهو الانسلاخ عن وجودٍ كان بالعبد إلى وجودٍ يصير بالحق، وهذا العبد ما بقي عليه من الاعوجاج ذرة واستقام ظاهره وباطنه في العبودية، وعمر العلم والعمل ظاهره وباطنه، وتوطن حضرة القرب بنفس بين يدي الله عز وجل متمسكة بالاستكانة والافتقار، متحققة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ فأهلك، ولا إلى أحد من خلقك فأضيع، اكلأني كلاءة الوليد، ولا تخل عني».