حدثنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب السهروردي قال: أنا الشريف أبو طالب الحسين بن محمد الزيني قال: أخبرتنا كريمة المروزية قالت: أخبرنا أبو الهيثم محمد بن مكي الكشميهني قال: أنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الفربري قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري قال: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص قال: سمعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول على المنبر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هوجر إِلَيْهِ».
النية: أول العمل، وبحسبها يكون العمل، وأهم ما للمريد في ابتداء أمره في طريق القوم أن يدخل طريق الصوفية، ويتزيا بزيهم، ويجالس طائفتهم لله تعالى؛ فإن دخوله في طريقهم هجرة حاله ووقته.
(وقد ورد) «الْمُهَاجِر مَنْ هَجَرَ مَا نهاه اللهُ عَنْهُ».
وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾ [النساء: 100].
فالمريد ينبغي أن يخرج إلى طريق القوم لله تعالى؛ فإنه إن وصل إلى نهايات القوم فقد لحق بالقوم بالمنزل، وإن أدركه الموت قبل الوصول إلى نهايات القوم فأجره على الله، وكل من كانت بدايته أحكم كانت نهايته أتم.
(أخبرنا) أبو زرعة -إجازة- عن ابن خلف عن أبي عبد الرحمن عن أبي العباس البغدادي عن جعفر الخلدي قال: سمعت الجنيد يقول: أكثر العوائق والحوائل والموانع من فساد الابتداء، فالمريد في أول سلوك هذا الطريق يحتاج إلى إحكام النية، وإحكام النية تنزيهها من دواعي الهوى، وكل ما كان للنفس فيه حظ عاجل حتى يكون خروجه خالصًا لله تعالى.
(وكتب) سالم بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز: اعلم يا عمر أن عون الله للعبد بقدر النية، فمن تمت نيته تم عون الله له، ومن قصرت عنه نيته قصر عنه عون الله بقدر ذلك.
(وكتب) بعض الصالحين إلى أخيه: أخلص النية في أعمالك يكفك قليل من العمل، ومن لم يهتد إلى النية بنفسه يصحب من يعلمه حسن النية.
قال سهل بن عبد الله التستري: أول ما يؤمر به المريد المبتدئ التبري من الحركات المذمومة، ثم النقل إلى الحركات المحمودة، ثم التفرد لأمر الله تعالى، ثم التوقف في الرشاد، ثم الثبات، ثم البيان، ثم القرب، ثم المناجاة، ثم المصافاة، ثم الموالاة، ويكون الرضا والتسليم مراده، والتفويض والتوكل حاله، ثم يمن الله تعالى بعد هذه بالمعرفة، فيكون مقامه عند الله مقام المتبرئين من الحول والقوة، وهذا مقام حملة العرش، وليس بعده مقام، هذا من كلام سهل، جمع فيه ما في البداية والنهاية، ومتى تمسك المريد بالصدق والإخلاص بلغ مبلغ الرجال، ولا تحقق صدقه وإخلاصه شيء مثل متابعة أمر الشرع وقطع النظر عن الخلق، فكل الآفات التي دخلت على أهل البدايات لموضع نظرهم إلى الخلق.
وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يكمل إيمان المرء حتى يكون الناس عنده كالأباعر، ثم يرجع إلى نفسه فيراها أصغر صاغر». إشارة إلى قطع النظر عن الخلق، والخروج منهم، وترك التقيد بعاداتهم.
(قال) أحمد بن خضرويه: من أحب أن يكون الله تعالى معه على كل حال فليلزم الصدق؛ فإن الله تعالى مع الصادقين.
وقد ورد في «الخبر» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصِّدْق يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ».
ولابد للمريد من الخروج من المال والجاه، والخروج عن الخلق بقطع النظر عنهم إلى أن يحكم أساسه، فيعلم دقائق الهوى وخفايا شهوات النفس، وأنفع شيء للمريد معرفة النفس، ولا يقوم بواجب حق معرفة النفس من له في الدنيا حاجة من طلب الفضول والزيادات أو عليه من الهوى بقية.
(قال) زيد بن أسلم: خصلتان هما كمال أمرك؛ تصبح لا تهم لله بمعصية، وتمسي ولا تهم لله بمعصية، فإذا أحكم الزهد والتقوى انكشفت له النفس، وخرجت من حجبها، وعلم طريق حركتها وخفي شهواتها ودسائسها وتلبيساتها، ومن تمسك بالصدق فقد تمسك بالعروة الوثقى.
(قال ذو النون): لله تعالى في أرضه سيف ما وضع على شيء إلا قطع وهو الصدق.
ونقل في معنى الصدق: أن عابدًا من بني إسرائيل راودته ملكة عن نفسه، فقال: اجعلوا إليَّ ماء في الخلاء أتنظف به، ثم صعد على موضع في القصر فرمى بنفسه، فأوحى الله تعالى إلى ملك الهواء: أن الزم عبدي، قال: فلزمه ووضعه على الأرض وضعًا رفيقًا، فقيل لإبليس: ألا أغويته؟ فقال: ليس لي سلطان على من خالف هواه وبذل نفسه لله تعالى.
(وينبغي) للمريد أن تكون له في كل شيء نية لله تعالى، حتى في أكله وشربه وملبوسه، فلا يلبس إلا لله، ولا يأكل إلا لله، ولا يشرب إلا لله، ولا ينام إلا لله؛ لأن هذه كلها أرفاق أدخلها على النفس كانت لله، لا تستعصي النفس وتجيب إلى ما يراد منها من المعاملة لله والإخلاص، وإذا دخل في شيء من رفق النفس لا لله بغير نية صالحة صار ذلك وبالًا عليه.
وقد ورد في الخبر: «من تطيب لله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أطيب من المسك الأذفر، ومن تطيب لغير الله -عز وجل- جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة».
(وقيل): كان أنس يقول: طيبوا كفي بمسك؛ فإن ثابتًا يصافحني ويقبل يدي.
وقد كانوا يحسنون اللباس للصلاة متقربين بذلك إلى الله بنيتهم، فالمريد ينبغي أن يتفقد جميع أحواله وأعماله وأقواله، ولا يسامح نفسه أن تتحرك بحركة أو تتكلم بكلمة إلا لله تعالى.
وقد رأينا من أصحاب شيخنا من كان ينوي عند كل لقمة ويقول بلسانه أيضًا: آكل هذه اللقمة لله تعالى. ولا ينفع القول إذا لم تكن النية في القلب؛ لأن النية عمل القلب، وإنما اللسان ترجمان، فما لم تشتمل عليها عزيمة القلب لله لا تكون نية.
(ونادى) رجل امرأته وكان يسرح شعره، فقال: هات المدرى، أراد الميل ليفرق شعره، فقالت له امرأته: أجيء بالمدرى والمرآة؟ فسكت. ثم قال: نعم. فقال له من سمعه: سكت وتوقفت عن المرآة، ثم قلت: نعم. فقال: إني قلت لها: هات المدرى بنية، فلما قالت: والمرآة؟ لم يكن لي في المرآة نية، فتوقفت حتى هيأ الله تعالى لي نية، فقلت: نعم.
وكل مبتدئ لا يحكم أساس بدايته بمهاجرة الأُلَّاف والأصدقاء والمعارف ويتمسك بالوحدة لا تستقر بدايته.
وقد قيل: من قلة الصدق كثرة الخطأ، وأنفع ماله لزوم الصمت، وألَّا يطرق سمعه كلام الناس؛ فإن باطنه يتغير ويتأثر بالأقوال المختلفة، وكل من لا يعلم كمال زهده في الدنيا وتمسكه بحقائق التقوى لا يعرفه أبدًا، فإن عدم معرفته لا يفتح عليه خيرًا، وبواطن أهل الابتداء كالشمع تقبل كل نقش، وربما استضر المبتدي بمجرد النظر إلى الناس، ويستضر بفضول النظر أيضًا وفضول المشي، فيقف الأشياء كلها على الضرورة، فينظر ضرورة حتى لو مشى في بعض الطريق يجتهد أن يكون نظره إلى الطريق الذي يسلكه، لا يلتفت يمينه ويساره، ثم يتقي موضع نظر الناس إليه وإحساسهم منه بالرعاية والاحتراز، فإن علم الناس منه بذلك أضر عليه من فعله، ولا يستحقر فضول المشي؛ فإن كل شيء من قول وفعل ونظر وسماع خرج عن حد الضرورة جر إلى الفضول، ثم يجر إلى تضييع الأصول.
(قال سفيان): إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول، فكل من لا يتمسك بالضرورة في القول والفعل لا يقدر أن يقف على قدر الحاجة من الطعام والشراب والنوم، ومتى تعدى الضرورة تداعت عزائم قلبه، وانحلت شيئًا بعد شيء.
(قال سهل بن عبد الله): من لم يعبد الله اختيارًا يعبد الخلق اضطرارًا، وينفتح على العبد أبواب الرخص والاتساع، ويهلك مع الهالكين، ولا ينبغي للمبتدئ أن يعرف أحدًا من أرباب الدنيا؛ فإن معرفته لهم سم قاتل.
وقد ورد: «الدنيا مبغوضة الله، فمن تمسك بحبل منها قادته إلى النار». وما حبل من حبالها إلا كأبنائها والطالبين لها والمحبين، فمن عرفهم انجذب إليها شاء أو أبى، ويحترز المبتدئ عن مجالسة الفقراء الذين لا يقولون بقيام الليل وصيام النهار؛ فإنه يدخل عليه منهم أشر ما يدخل عليه بمجالسة أبناء الدنيا، وربما يشيرون إلى أن الأعمال شغل المتعبدين، وأن أرباب الأحوال ارتقوا عن ذلك، وينبغي للفقير أن يقتصر على الفرائض وصوم رمضان فحسب، ولا ينبغي أن يدخل هذا الكلام سمعه رأسًا؛ فإنا اختبرنا ومارسنا الأمور كلها وجالسنا الفقراء والصالحين، ورأينا أن الذين يقولون هذا القول ويرون الفرائض دون الزيادات والنوافل تحت القصور مع كونهم أصحاء في أحوالهم، فعلى العبد التمسك بكل فريضة وفضيلة، فبذلك يثبت قدمه في بدايته.
ويراعي يوم الجمعة خاصة، ويجعله لله تعالى خالصًا، لا يمزجه بشيء من أحوال نفسه ومآربها، ويبكر إلى الجامع قبل طلوع الشمس بعد الغسل للجمعة، وإن اغتسل قريبًا من وقت الصلاة إذا أمكنه ذلك فحسن.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة، اغتسل للجمعة، ولو اشتريت الماء بعشائك، وما من نبي إلا وقد أمره الله تعالى أن يغتسل للجمعة؛ فإن غسل الجمعة كفارة للذنوب ما بين الجمعتين». ويشتغل بالصلاة والتضرع والدعاء والتلاوة وأنواع الأذكار من غير فتور إلى أن يصلي الجمعة، ويجلس معتكفًا في الجامع إلى أن يصلي فرض العصر، وبقية النهار يشغله بالتسبيح والاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يرى بركة ذلك في جميع الأسبوع حتى يرى ثمرة ذلك يوم الجمعة.
وقد كان من الصادقين من يضبط أحواله وأقواله وأفعاله جميع الأسبوع؛ لأنه يوم المزيد لكل صادق، ويكون ما يجده يوم الجمعة معيارًا يعتبر به سائر الأسبوع الذي مضى، فإنه إذا كان الأسبوع سليمًا يكون يوم الجمعة فيه مزيد الأنوار والبركات، وما يجده في يوم الجمعة من الظلمة وسآمة النفس وقلة الانشراح فَلِمَا ضيع في الأسبوع، يعرف ذلك ويعتبره، ويتقي جدًّا أن يلبس للناس، أما المرتفع من الثياب أو ثياب المتقشفين ليرى بعين الزهد ففي لبس المرتفع للناس هوًى، وفي لبس الخشن رياء، فلا يلبس إلا لله.
بلغنا أن سفيان لبس القميص مقلوبًا، ولم يعلم بذلك حتى ارتفع النهار، ونبهه على ذلك بعض الناس فهم أن يخلع ويغير، ثم أمسك وقال: لبسته بنية لله، فلا أغيره فألبسه بنية للناس.
فليعلم العبد ذلك وليعتبره، ولا بد للمبتدئ أن يكون له حظ من تلاوة القرآن ومن حفظه، فيحفظ من القرآن من السبع إلى الجميع إلى أقل أو أكثر كيف أمكن، ولا يصغي إلى قول من يقول: ملازمة ذكر واحد أفضل من تلاوة القرآن؛ فإنه يجد بتلاوة القرآن في الصلاة وفي غير الصلاة جميع ما يتمنى بتوفيق الله تعالى، وإنما اختار بعض المشايخ أن يديم المريد ذكرًا واحدًا ليجتمع الهم فيه، ومن لازم التلاوة في الخلوة وتمسك بالوحدة تفيده التلاوة والصلاة أَوْفَى ما يفيده الذكر الواحد، فإذا سئم في بعض الأحايين يصانع النفس على الذكر مصانعة، وينزل من التلاوة إلى الذكر؛ فإنه أخف على النفس، وينبغي أن يعلم أن الاعتبار بالقلب، فكل عمل من تلاوة وصلاة، وذكر لا يجمع فيه بين القلب واللسان لا يعتد به كل الاعتداد؛ فإنه عمل ناقص، ولا يحقر الوساوس وحديث النفس؛ فإنه مضر وداء عضال، فيطالب نفسه أن تصير في تلاوة معنى القرآن مكان حديث النفس من باطنه، فكما أن التلاوة على اللسان هو مشغول بها، ولا يمزجها بكلام آخر هكذا يكون معنى القرآن في القلب لا يمزجه بحديث النفس، وإن كان أعجب لا يعلم معنى القرآن يكون لمراقبة حلية باطنه، فيشتغل باطنه بمطالعة نظر الله إليه مكان حديث النفس؛ فإن بالدوام على ذلك يصير من أرباب المشاهدة.
(قال مالك): قلوب الصديقين إذا سمعت القرآن طربت إلى الآخرة، فليتمسك المريد بهذه الأصول، وليستعن بدوام الافتقار إلى الله فبذلك ثبات قدمه.
(قال سهل): على قدر لزوم الالتجاء والافتقار إلى الله تعالى يعرف البلاء، وعلى قدر معرفته بالبلاء يكون افتقاره إلى الله، فدام الافتقار إلى الله أصل كل خير، ومفتاح كل علم دقيق في طريق القوم، وهذا الافتقار مع كل الأنفاس، لا يتشبث بحركة ولا يستقل بكلمة دون الافتقار إلى الله فيها، وكل كلمة وحركة خلت عن مراجعة الله، والافتقار فيها لا تعقب خيرًا قطعًا، علمنا ذلك وتحققناه.
وقال سهل: من انتقل من نفس إلى نفس من غير ذكر فقد ضيع حاله، وأدنى ما يدخل على من ضيع حاله دخوله فيما لا يعنيه وتركه ما يعنيه.
(وبلغنا) أن حسان بن سنان قال ذات يوم: لمن هذه الدار؟ ثم رجع إلى نفسه وقال: ما لي وهذا السؤال؟ وهل هذه إلا كلمة لا تعنيني؟ وهل هذا إلا لاستيلاء نفسي وقلة أدبها؟ وآلى على نفسه أن يصوم سنة كفارة لهذا الكلمة.
فبالصدق نالوا ما نالوا، وبقوة العزائم عزائم الرجال بلغوا ما بلغوا.
(أخبرنا) أبو زرعة -إجازة- قال: أنا أبو بكر بن خلف قال: أنا أبو عبد الرحمن قال: سمعت منصورًا يقول: سمعت أبا عمرو الأنماطي يقول: سمعت الجنيد يقول: لو أقبل صادق على الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة لكان ما فاته من الله أكثر مما ناله.
وهذه الجملة يحتاج المبتدئ أن يحكمها، والمنتهي عالم بها عامل بحقائقها، فالمبتدئ صادق، والمنتهي صديق.
قال أبو سعيد القرشي: الصادق: الذي ظاهره مستقيم، وباطنه يميل أحيانًا إلى حظ النفس، وعلامته أن يجد الحلاوة في بعض الطاعة، ولا يجدها في بعض، وإذا اشتغل بالذكر نَوَّر الروح، وإذا اشتغل بحظوظ النفس يحجب عن الأذكار. والصديق: الذي استقام ظاهره وباطنه يعبد الله تعالى بتلوين الأحوال، لا يحجبه عن الله وعن الأذكار أكل ولا نوم ولا شرب ولا طعام، والصديق يريد نفسه لله، وأقرب الأحوال إلى النبوة الصديقية.
(وقال أبو يزيد): آخر نهايات الصديقين أول درجات الأنبياء.
واعلم أن أرباب النهايات استقامت بواطنهم وظواهرهم لله، وأرواحهم خلصت عن ظلمات النفوس، ووطئت بساط القرب، ونفوسهم منقادة مطاوعة صالحة مع القلب، مجيبة إلى كل ما تجيب إليه القلوب، أرواحهم متعلقة بالمقام الأعلى، انطفأت فيهم نيران الهوى، وتخمر في بواطنهم صريح العلم، وانكشفت لهم الآخرة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق أبي بكر رضى الله عنه: «من أراد أن ينظر إلى ميت يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى أبي بكر». إشارة منه عليه الصلاة والسلام إلى ما كوشف به من صريح العلم الذي لا يصل إليه عوام المؤمنين، إلا بعد الموت حيث يقال: ﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق: 22]. فأرباب النهايات ماتت أهويتهم وخلصت أرواحهم.
(قال) يحيى بن معاذ -وقد سئل عن وصف العارف فقال-: رجل معهم بائن منهم، وقال مرة: عبد كان فبان، فأرباب النهايات هم عند الله بحقيقتهم معوقين بتوقيت الأجل، جعلهم الله تعالى من جنوده في خلقه، بهم يهدي، وبهم يرشد، وبهم يجذب أهل الإرادة، كلامهم دواء، ونظرهم دواء، ظاهرهم محفوظ بالحكم، وباطنهم معمور بالعلم.
(قال ذو النون): علامة العارف ثلاثة؛ لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، ولا يعتقد باطنًا من العلم ينقض عليه ظاهرًا من الحكم، ولا يحمله كثرة نعم الله وكرامته على هتك أستار محارم الله، فأرباب النهايات كلما ازدادوا نعمة ازدادوا عبودية، وكلما ازدادوا دينًا ازدادوا قربًا، وكلما ازدادوا جاهًا ورفعة ازدادوا تواضعًا وذلة؛ ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ﴾ [المائدة: 54]، وكلما تناولوا شهوة من شهوات النفوس استخرجت منهم شكرًا صافيًا، يتناولون الشهوات تارة رفقًا بالنفوس؛ لأنها معهم كالطفل الذي يلطف بالشيء ويهدى له شيء؛ لأنه مقهور تحت السياسة، مرحوم ملطوف به، وتارة يمنعون نفوسهم الشهوات تأسيًا بالأنبياء، واختيارهم التقلل من الشهوات الدنيوية.
قال يحيى بن معاذ: الدنيا عروس تطليها ماشطتها، والزاهد فيها يسخم وجهها، وينتف شعرها، ويخرق ثوبها، والعارف بالله مشتغل بسيده ولا يلتفت إليها.
(واعلم) أن المنتهي مع كمال حاله لا يستغني أيضًا عن سياسة النفس ومنعها الشهوات، وأخذ الحظ من زيادة الصيام والقيام وأنواع البر.
وقد غلط في هذا خلق وظنوا أن المنتهي استغنى عن الزيادات والنوافل، ولا على قلبه من الاسترسال في تناول الملاذ والشهوات، وهذا خطأ لا من حيث أنه يحجب العارف عن معرفته، ولكن يوقف عن مقام المزيد، وقوم لما رأوا أن هذه الأشياء لا تؤثر فيهم قسوة، ولا تورثهم حجبة ركنوا إليها واسترسلوا فيها، وقنعوا بأداء الفرائض، واتسعوا في المأكل والمشرب، وهذا الانبساط منهم بقية من سكر الأحوال، وتقيد بنور الحال، وعدم التخلص بالكلية إلى نور الحق، ومن تخلص من نور الحال إلى نور الحق يذهب عنه بقايا السكر، ويوقف نفسه مقام العبيد، كأحد عوام المؤمنين يتقرب بالصلاة والصوم وأنواع البر حتى بإماطة الأذى عن الطريق، ولا يستكبر ولا يستنكف أن يعود في صور عوام المؤمنين من إظهار الإرادة بكل بر وصلة، فيتناول الشهوات وقتًا رفقًا بالنفس المطهرة المزكاة المنقادة المطواعة؛ لأنها أسيرته، ويمنعها الشهوات وقتًا؛ لأن في ذلك صلاحها، واعتبر هذا سواء بحال الصبي؛ فإنه إن جاوز حد الاعتدال من إعطاء المراد وقتًا ومنعه وقتًا انفسد طبعه؛ لأن الجبلة لا بد من قمعها بسياسة العلم، وما دامت الجبلة باقية لا بد من سياسة العلم، وهذا باب غامض دخل في النهايات على المنتهي من ذلك دواخل، ووقع الركون وانسد به باب المزيد.
فالمنتهي ملك ناصية الاختيار في الأخذ والترك، ولا بد له من أخذ وترك في الأعمال والحظوظ، ففي الأعمال لا بد له من أخذ وترك، فتارة يأتي بالأعمال كآحاد الصادقين، وتارة يترك زيادة الأعمال رفقًا بالنفس، وتارة بأخذ الحظوظ والشهوات رفقًا بالنفس، وتارة يتركها افتقادًا للنفس بحسن السياسة، فيكون في ذلك كله مختارًا، فمن ساكن ترك الحظوظ بالكلية فهو زائد تارك بالكلية، ومن استرسل في أخذها فهو راغب بالكلية، والمنتهي شمل الطرفين؛ فإنه على غاية الاعتدال، واقف على الصراط بين الإفراط والتفريط، فمن ردت إليه الأقسام في النهاية فأخذها زاهدًا في الزهد فهو تحت قهر الحال من ترك الاختيار، وتارك الاختيار الواقف مع فعل الله تعالى مقيد بالحال، وكما أن الزاهد مقيد بالترك تارك الاختيار، فكذلك الزاهد في الزهد الآخذ من الدنيا ما سبق إليه لرؤيته فعل الله مقيدًا بالأخذ، وإذا استقرت النهاية لا يتقيد بالأخذ ولا بالترك، بل يترك وقتًا واختياره من اختيار الله، ويأخذ وقتًا واختياره من اختيار الله، وهكذا صومه النافلة وصلاته النافلة يأتي بها وقتًا، ويسمح للنفس وقتا؛ لأنه مختار صحيح في الاختيار في الحالين، وهذا هو الصحيح ونهاية النهاية، وكل حال يستقر ويستقيم يشاكل حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان رسول الله -عليه الصلاة والسلام- يقوم من الليل ولا يقوم الليل كله، ويصوم من الشهر كله غير رمضان، ويتناول الشهوات، ولما قال الرجل: إنني عزمت ألَّا آكل اللحم قال: «فإني آكل اللحم وأحبه، ولو سألت ربي أن يطمعني كل يوم لأطمعني». وذلك يدلك على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مختارًا في ذلك إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل، وكان يترك الأكل اختيارًا.
وقد دخلت الفتنة على قوم كلما قيل لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كذا، يقولون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرعًا، وهذا إذا قالوه على معنى أنه لا يلزمهم التأسي به جهل محض؛ فإن الرخصة: الوقوف على حد قوله، والعزيمة: التأسي بفعله، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأرباب الرخص، وفعله لأرباب العزائم، ثم إن المنتهي يحاكي حاله حال رسول الله -عليه الصلاة والسلام- في دعاء الخلق إلى الحق، فكل ما كان يعتمده رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يعتمده، فكان قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصيامه الزائد لا يخلو إما أنه كان ليقتدى به، وإما أنه كان لمزيد كان يجده بذلك، فإن كان ليقتدى به فالمنتهي أيضًا مقتدٍ به، ينبغي أن يأتي بمثل ذلك، والصحيح الحق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك لمجرد الاقتداء، بل كان يجد بذلك زيادة، وهو ما ذكرناه من تهذيب الجبلة.
قال الله تعالى خطابًا له: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99]؛ لأنه بذلك ازداد استمدادًا من الحضرة الإلهية، وقرع باب الكرم، والنبي -عليه الصلاة والسلام- مفتقر إلى الزيادة من الله تعالى غير مستغن عن ذلك، ثم في ذلك سر غريب، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برابطة جنسية النفس كان يدعو الخلق إلى الحق، ولولا رابطة الجنسية ما وصلوا إليه، ولا انتفعوا به، وبين نفسه الطاهرة ونفوس الأتباع رابطة التأليف، كما بين روحه وأرواحهم رابطة التأليف؛ إن النفوس ألفت آنفًا كما أن الأرواح ألفت أولًا، ولكل روح مع نفسه تأليف خاص، والسكون والتأليف والامتزاج واقع بين الأرواح والنفوس.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم العمل لتصفية نفسه ونفوس الأتباع، فما احتاج إليه نفسه من ذلك ناله، وما فضل من ذلك وصل إلى نفوس الأمة، وهكذا المنتهي مع الأصحاب والأتباع على هذا المعنى، فلا يتخلف عن الزيادات والنوافل، ولا يسترسل في الشهوات واللذات إلا بدلالة تخص النفس، ولا يعطي الاعتدال حقه من ذلك إلا بتأييد الله تعالى ونور الحكمة، وكل من يحتاج إلى صحة الجلوة للغير لا بد له من خلوة صحيحة بالحق حتى تكون جلوته في حماية خلوته، ومن يتراءى له أن أوقاته كلها خلوة، وأنه لا يحجبه شيء، وأن أوقاته بالله ولله، ولا يرى نقصانًا؛ لأن الله ما فطنه لحقيقة المزيد فهو صحيح في حاله غير أنه تحت قصور؛ لأنه ما نُبِّه لسياسة الجبلة، وما عرف سر تمليك الاختيار، وما وقف من البيان على البيضاء النقية.
وقد نقلت عن المشايخ كلماتٍ فيها موضع الاشتباه، فقد يسمعها الإنسان ويبني عليها، والأولى أن يفتقر إلى الله تعالى في أي كلمة يسمعها حتى يُسمعه الله من ذلك الصواب.
(نقل) عن بعضهم أنه سئل عن كمال المعرفة فقال: إذا اجتمعت المتفرقات، واستوت الأحوال والأماكن، وسقطت رؤية التمييز، ومثل هذا القول يوهم ألَّا يبقى تمييز بين الخلوة والجلوة، وبين القيام بصور الأعمال وبين تركها، ولم يفهم منه أن القائل أراد بذلك معنى خاصًّا؛ يعني أن حظ المعرفة لا يتغير بحال من الأحوال، وهذا صحيح؛ لأن حظ المعرفة لا يتغير ولا يفتقر إلى التمييز، وتستوي الأحوال فيه، ولكن حظ المريد يتغير، ويحتاج إلى التمييز، وليس في هذا الكلام وأمثاله ما ينافي ما ذكرناه.
(قيل) لمحمد بن الفضل: حاجة العارفين إلى ماذا؟ قال: حاجتهم إلى الخصلة التي كملت بها المحاسن كلها ألا وهي الاستقامة، وكل من كان أتم معرفة كان أتم استقامة، فاستقامة أرباب النهاية على التمام، والعبد في الابتداء مأخوذ في الأعمال محجوب بها عن الأحوال، وفي التوسط محفوظ بالأحوال، فقد يحجب عن الأعمال، وفي الانتهاء لا تحجبه الأعمال عن الأحوال، ولا الأحوال عن الأعمال، وذلك هو الفضل العظيم.
(سئل) الجنيد عن النهاية. فقال: هي الرجوع إلى البداية، وقد فسر بعضهم قول الجنيد فقال: معناه أنه كان في ابتداء أمره في جهل، ثم وصل إلى المعرفة، ثم رد إلى التحير والجهل، وهو كالطفولية، يكون جهل ثم علم ثم جهل. قال الله تعالى: ﴿لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ [النحل: 70].
وقال بعضهم: أعرف الخلق بالله أشدهم تحيرًا فيه، ويجوز أن يكون معنى ذلك ما ذكرناه أنه يبادئ الأعمال، ثم يرقى إلى الأحوال، ثم يجمع له بين الأعمال والأحوال، وهذا يكون للمنتهي المراد المأخوذ في طريق المحبوبين، تنجذب روحه إلى الحضرة الإلهية، وتستتبع القلب، والقلب يستتبع النفس، والنفس تستتبع القالب، فيكون بكليته قائمًا بالله، ساجدًا بين يدي الله تعالى، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سجد لك سوادي وخيالي».
وقال الله تعالى: ﴿وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ [الرعد: 15].
والظلال والقوالب تسجد بسجود الأرواح، وعند ذلك تسري روح المحبة في جميع أجزائهم وأبعاضهم، فيتلذذون ويتنعمون بذكر الله تعالى، وتلاوة كلامه محبة وودًّا، فيحبهم الله تعالى، ويحببهم إلى خلقه نعمة منه عليهم وفضلًا على ما أخبرنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي -رحمه الله- قال: أنا أبو طالب الزيني قال: أخبرتنا كريمة المروزية قالت: أنا أبو الهيثم الكشميهني قال: أنا عبد الله الفربري قال: أنا أبو عبد الله البخاري قال: حدثني إسحاق قال: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ تعالى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نادى جِبْرِيلَ: إِنَّ الله تعالى قد أحب فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فيحبه جبريل، ثم ينادي جِبْرِيلُ في السَّمَاءِ: إِنَّ الله قد أحب فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ». وبالله العون والعصمة والتوفيق.
تم بحمد الله المعيد المبدي كتاب عوارف المعارف
للإمام السهروردي، والحمد لله رب العالمين،
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى
آله وصحبه
أجمعين