وقد نص على أن أبواب التصوف من الفقه جماعة من أهل الأصول حيث ذكروا حَدّ الفقه, ووافقهم ابن السبكي في (جمع الجوامع), وضم إليه مسائل أصول الدين التي يجب اعتقادها, فقال: إنها عندي فقه.
واعلم أن دقائق علم التصوف لو عرضت معانيها على الفقهاء, بالعبارة التي ألفوها في علومهم لاستحسنوها كل الاستحسان وكانوا أول قائل بها, وإنما ينفرهم منها إيرادها بعبارة مستغربة لم يألفوها, ولهذا قال بعضهم: الحقيقة أحسن ما تعلم, وأقبح ما يقال. وأنا أورد لك مثالا تعرف صحة ذلك.
قال في (منازل السائرين): حقيقة التوبة ثلاثة أشياء: تمييز الثقة من العزة, ونسيان الجناية, والتوبة من التوبة أبدًا. فإذا سمع الفقيه هذا اللفظ, وهو (التوبة من التوبة) استغربه جدًا, وقال: كيف يتاب من التوبة, وهي عمل صالح, وإنما يتاب من المعاصي.
وتقرير معناه: أن العبد إذا كمل في رجوعه إلى الله لم يلتفت إلى أعماله, ولم يسكن إليها بقلبه, توبة كانت أو غيرها, فيتوب من سكونه إلى توبته.
ويزاد إيضاحًا أن التوبة -وإن كانت من كسب العبد- فهي من خلق الله وتوفيقه, فهو التائب عليه, ولو لم يتب عليه لما تاب, قال تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ﴾ [التوبة:118] فأي صنع للعبد في التوبة أو غيرها, وهو الذي وفقه الله لفعلها؟ فرؤية العبد التوبة من نفسه ذنب يستغفر منه, بل عليه أن يشهد محض منة الله عليه بها, وتوفيقه لها, ويلغي نفسه أصلاً عن درجة الاعتبار. وهذا مقام الفناء في التوبة, وهي أول منازل السائرين, ويقاس به مقام الفناء في التوحيد, فلا يشهد في توحيده صنعا, بل محض منة الله عليه به, وتوفيقه.
وهذا المعنى إذا عرض على الفقيه بهذه العبارة المألوفة كان أول قائل به وناصر له, لأن الفقيه السني يقاتل على إثبات الأفعال لله ونفيها عن العبد, مخالفة للمعتزلة والقدرية ونحوهم, ممن زعم أن العبد يخلق أفعاله, وأن الانتقال مخالفة.
(فصل) كان الشيخ أبو الحسن الشاذلي يقول: إذا عرضت لكم إلى الله حاجة فتوسلوا إليه بالإمام أبي حامد الغزالي. وكان يقول: كتاب الإحياء يورثك العلم, كتاب القوت يورثك النور. وكان يقول: عليكم بالقوت فإنه قوت. وكان يعظم الإمام أبا عبد الله محمد بن علي الترمذي, ويقول: إنه أحد الأوتاد الأربعة وكان لكلامه عنده الحظوة التامة.