(فصل) ومما أنكر عليهم قديما أمر الخضر واجتماعهم به, وحياته. وممن أنكر ذلك ابن الجوزي, وقال: إنه لو كان حيًا لاجتمع بالنبي -صلى الله عليه وسلم-, ولو اجتمع به لورد.
وقد رد الناس على من أنكر ذلك. قال ابن الصلاح: الخضر حي عند جماهير العلماء والصالحين, وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين.
وقال النووي في شرح مسلم: جمهور العلماء أنه حي موجود بين أظهرنا, وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة. انتهى.
وألف غير واحد كتبا في ذلك, آخرهم شيخ الإسلام ابن حجر([1]).
وقد ورد في عدة أحاديث اجتماعه بالنبي -صلى الله عليه وسلم-. وعندي أنها وإن كانت ضعيفة فكثرة الطرق والأخبار تقويها, وتعزيته للصحابة عند موت النبي -صلى الله عليه وسلم-, وقول علي: هذا الخضر, وسكوت الصحابة على ذلك يكاد يكون إجماعًا. وقصة اجتماعه بعمر بن عبد العزيز إسنادها صحيح([2]). والأخبار في شأنه كثيرة, وقد سقتها في كتاب (حلية الأولياء) وفي التفسير المأثور.
(فصل) وأنكر عليهم بعض العلماء ذكر الأبدال والنجباء والأوتاد والأقطاب, قائلا: إنه لا أصل لذلك في الحديث. وليس كما زعمه؛ فقد وردت الأحاديث والآثار بذلك, وقد جمعتها في مؤلَّف([3]), فأغنى عن ذكرها هنا.
(فصل) قال القونوي: قد يقع في كلام بعض العارفين ما يوهم الجبر من نفيهم الاختيار والغفلة عن أنفسهم, ومرادهم عدم الملاحظة لذلك, لاستغراقهم في النظر إلى ما منه تعالى, لا إلى ما منهم.
(فصل) ومما أُنكر عليهم قولهم في (الروح), فاعلم أن في ذلك ثلاث فرق:
فالأولى (وهي الفرقة المرتضاة) الوقوف عن الخوض فيها تأدبًا مع الله, وهذه طريقة الجنيد. قال الجنيد: الروح شيء استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدًا من خلقه, ولا يجوز العبارة عنه بأكثر من موجود, لقوله تعالى: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء: من آية 85].
وقال السهروردي بعد ذكره أن الناس تكلموا في الروح وكان الأولى الإمساك عن ذلك والتأدب بأدب النبي -صلى الله عليه وسلم-, وذكر ما قاله الجنيد, ثم قال: ويجوز أن يكون كلامهم في ذلك بمتابعة التأويل لكلام الله, حيث حُرِّم تفسيره وجُوِّز تأويله, والتأويل ذكر المحتمل من غير القطع بذلك. وهؤلاء هم الفرقة الثانية. وقد أطبقوا على القول بأنها حادثة.
وشذت فرقة ثالثة غلاة فذهبت إلى القول بقِدَمِها, وهذه نزعة فلسفية نعوذ بالله منها.
وحَسَّن بعضهم العبارة فقال: الروح موجود عظيم لا يوصف بأنه محدث ولا قديم. وزعم أن الأرواح الجزئية أشعة ورقائق من ذلك الروح الأعظم. وهذا أيضًا فاسد.
قال القونوي: وأكثر ما وقع ذلك في عبارة المتأخرين, والحق أن القديم هو الله تعالى وصفاته, وكل ما سواه من الأرواح والأجسام حادث. انتهى.
قلت: أتقن هذا الفصل وأحكمه جيدًا واعتقد حدوث الروح, وكرره في ذهنك حتى يختلط بحلمك ودمك, وإياك أن تغتر وتقبل قول من حرَّف فإن أكثر ما وقع الزلل للمتأخرين وغيرهم من هنا. والله الموفق.
(فصل) وأما السماع, فإن كان بغير آلة فمذهبنا أنه ليس بحرام, فلا إنكار فيه, وقد كان يحضره الأئمة من كل مذهب في كل عصر. روى الحافظ محمد بن طاهر المقدسي بسنده عن مصعب بن الزبير قال: حضرت مجلس مالك بن أنس, فسأله أبو مصعب عن السماع, فقال مالك: أهل العلم ببلدنا لا ينكرون ذلك, ولا يقعدون عنه, ولا ينكره إلا غبي جاهل أو ناسك عراقي غليظ الطبع.
وروى أيضًا بسنده عن صالح بن أحمد بن حنبل انه كان يحب السماع, وأنه أحضر رجلا يغنيه فسمعه أبوه.
وقال ابن طاهر أيضا: أخبرنا أبو محمد التميمي قال: سألت الشريف أبا علي محمد بن أحمد بن أبي موسى الهاشمي عن السماع, فقال: ما أدري ما أقول فيه, إلا أني حضرت في دار شيخنا أبي الحسن عبد العزيز بن الحارث التميمي شيخ الحنابلة سنة سبعين وثلثمئة في دعوة عملها لأصحابه حضرها أبو بكر الأَبْهُرِي شيخ المالكيين, وأبو القاسم الدَّارِي شيخ الشافعيين, وأبو الحسن طاهر بن الحسين شيخ أصحاب الحديث, وأبو الحسين بن سَمْعُون شيخ الوعاظ والزهاد, وأبو عبد الله بن مجاهد شيخ المتكلمين, وصاحبه أبو بكر البَاقِلَّاني, حتى قال بعض الحاضرين: لو سقط سقف عليهم لم يبق في العراق من يفتي في حادثة بسنة, وكان رجل حاضرًا يقرأ بصوت حسن, فقالوا له: قل شيئا. فقال وهم يسمعون:
خطت أناملها في بطن قرطاس |
* | رسالة بعبير لا بأنفاسِ |
أبرز فديتك قف لي غير محتشم |
* | فإن حبك لي قد شاع في الناسِ |
فكان قولي لمن أدَّىٰ رسالتها |
* | قِفي لأمشي علىٰ العينين لا الراسِ |
قال ابن طاهر: وآخر من كان يبيح استماعه من الأئمة المقتدى بهم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي, وكان في ورعه وزهده وتقشفه بالمحل الذي لا يخفى. انتهى.
قال البيهقي في شعب الإيمان: قرأت على أبي عبد الرحمن محمد بن الحسين السُّلمي قال: سألت الإمام أبا سهل محمد بن سليمان عن السماع فقال: يستحب ذلك لأهل الحقائق, ويباح ذلك لأهل الورع, ويكره ذلك للفساق ومن يسمعه تطربًا.
وقال القَوْنَوِيّ في شرح التعرف: قد حضره من المتأخرين عز الدين بن عبد السلام والشيخ تقي الدين بن دَقِيق العيد وغيرهما من العلماء الأعلام أئمة الإسلام.
وذكر الأسْنَوِي في الطبقات أن الشيخ تاج الدين بن الفُرْكَاح كان يحب السماع ويحضره. وممن استحسنه أيضا القطب القُسْطَلَّاني.
وذكر الماوري في (الحاوي) أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كان يستكثر من سماع الغناء, ويشتري الجواري لذلك([4]).
إذا تقرر ذلك فهاهنا أمور لا بد منها:
(الأول): أنه لا يلزم مما ذكرناه أن ذلك حال كمال, فقد قال الجنيد: إذا رأيت المريد يطلب السماع فاعلم أن فيه بقية من البطالة.
وكان الشيخ أبو الحسن الشاذلي -رضي الله عنه- ليس من طريقه السماع.
(الثاني): قال القونوي: محل ما ذكرناه من الترخص في أمر السماع ما لم يستكثر منه. فأما من اتخذه ديدنه وهجيراه, وقصر عليه أكثر أوقاته فمذموم. نص عليه الغزالي. وذلك لأنه إنما فُسح فيه لترويح القلب, وربما يصير المباح عبادة محضة بالنية إذا نوى اجتمام النفس, كما قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: إني لأستجم نفسي بشيء من الباطل ليكون ذلك عونًا على الحق.
قال صاحب العوارف: ولموضع الترويح كُرِهَت الصلاة في أوقات لتستريح عمال الله, وترتفق النفوس ببعض مآربها من ترك العمل.
وفي كلام سهل بن عبد الله: الصادق يكون جهلُه مُزيدًا لعلمه, وباطله مزيدًا لحقه, ودنياه مزيدًا لآخرته, ولهذا المعنى حبب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- النساء, ليكون حظ نفسه الشريفة, الموهوب لها حقوقها لموضع طهارتها.
(الثالث): قال صاحب العوارف: قد كثرت الفتنة في السماع, وزالت العصمة فيه, وتصدى للحرص عليه أقوام قَلَّت أعمالهم, وفسدت أحوالهم, وأكثروا الاجتماع للسماع فصار السماع معلولاً تركن إليه النفوس طلبا للشهوات, واستحلاء لمواطن اللهو والفضلات, وينقطع بذلك على المريد طلب المزيد, ويكون طريقه به تضييع الأوقات وقلة الحظ من العبادات. فلا يخفى أن هذا الاجتماع مردود عند أهل الصدق, ولا سيما إذا انضم إلى ذلك المراءاة والتودد إلى بعض الحاضرينَ, وغير ذلك من الأمور التي لا يعتمدها من المتصوفة إلا من ليس له من التصوف إلا مجرد زي وصورة, بأن يكون القوَّال أمرد تنجذب النفوس إليه, أو يكون للنساء إشراف على الجمع, وتتراسل البواطن المملوءة من الهوى, فيكون ذلك عين الفسق المجمع على تحريمه, وأهل المعاصي أحسن حالاً ممن هذا حاله, لأنهم يرون فسقهم, وهذا لا يراه, ويراه عبادة لمن لا يعلم ذلك.
(الرابع): قال صاحب العوارف: كان يقال: لا يصلح السماع إلا لعازف مكين, ولا يصلح لمريد مبتدئ.
وقال القونوي: قد كرهه المشايخ للمريدين في مبادئ إرادتهم قبل أن تتمرن نفوسهم بصدق المجاهدات.
قال بعضهم: لا يصلح السماع إلا لمن كانت له نفس ميتة وقلب حي, فنفسه ذبحت بسيوف المجاهدة, وقلبه حي بنور الموافقة والمشاهدة.
(الخامس): قال صاحب العوارف: كانوا لا يسمعون إلا من أهل مع أهل, فلما فقدوا الإخوان تركوه.
وقيل: إن الجنيد ترك السماع, فقيل له: لم لا تسمع؟ قال: مع من؟ قيل له: أنت تسمع لنفسك, قال: ممن؟
(السادس): قال أبو نصر السراج في كتاب اللمع في التصوف: لا يصلح السماع لمريد حتى يعرف أسماء الله وصفاته, ليضيف إلى الله ما هو أولى به, ولا يكون قلبه ملوثًا بحب الدنيا وحب المحمدة والثناء, ولا يكون في قلبه طمع للمخلوقين, ويكون مراعيًا لقلبه حافظًا لحدوده متعاهدًا لوقته.
(السابع): قال صاحب العوارف: إن أنصف المنصفُ وتفكر في اجتماع أهل الزمان وقعود المغني بدفه والمشبب بشبابته, وتصور في نفسه, هل وقع مثل هذه الجلسة والهيئة بحضرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وهل استحضروا قَوَّالاً وقعدوا مجتمعين لسماعه؟ فلا شك أنه ينكر ذلك من حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه, ولو كان ذلك فضيلةً تطلب ما أهملوها.
قال: فمن يشير بأنه فضيلةٌ تطلب ويجتمع لها, لم يحظ بذوق معرفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعين, ويستروح إلى استحسان بعض المتأخرين ذلك.
قال: وكثيرًا ما يُغَلِّظ الناس في هذا كلما احتج عليهم بالسلف الماضين احتجوا بالمتأخرين, وكان السلف أقرب إلى عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وهديهم أقرب إلى هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. انتهى.
وقد وقفت على فصل([5]) في أحكام السماع للشيخ عز الدين بن عبد السلام قال فيه ما نصه:
السماع يَخْتَلِف باختلاف السامعين والمسموع منهم, وهم أقسام:
(القسم الأول): العارفون بالله, ويختلف سماعهم باختلاف أحوالهم, فمن غلب عليه الخوف أثَّر فيه السماع عند ذكر المخوِّفات, وظهرت آثاره عليه من الحزن والبكاء وتغير اللون والخوف على أقسام:
أحدها: خوف العقاب.
القسم الثاني: خوف فوات الثواب.
القسم الثالث: خوف فوات الحظ من الأنس والقرب بالملك الوهاب. وهذا من أفضل الخائفين وأفضل السامعين. فمثل هذا لا يتصنع في السماع ولا يصدر عنه إلا ما غلب عليه من آثار الخوف, لأن الخوف وازع عن التصنع والرياء, وهذا إذا سمع القرآن كان تأثيره فيه أشد من النشيد والغناء.
(القسم الثاني) من غلب عليه الرجاء, فهذا يؤثر فيه السماع عند ذكر المُطْمِعات والمُرَجِّيَات, فإن كان رجاؤه الانس والقرب كان سماعه أفضل, سماع الراجين, وإن كان رجاؤه للثواب كان في المرتبة الثانية. وتأثير السماع في الأول أشد من تأثيره في الثاني.
(القسم الثالث): من غلب عليه الحب. وهو قسمان:
أحدهما: من أحب الله لإنعامه وإحسانه إليه, فهذا يؤثر فيه سماع الإنعام والأفضال والإحسان والإكرام.
الثاني: من غلب عليه حب الله لشرف ذاته وكمال صفاته. فهذا يؤثر فيه ذكر شرف الذات وكمال الصفات, ويشتد تأثيره عند ذكر الإقصاء والإبعاد, وهو أفضل من الذي قبله, لأن سببه أفضل الأسباب.
(القسم الرابع): من غلب عليه التعظيم والإجلال, فهذا أفضل من الأقسام الثلاثة, إذ لا حَظَّ في سماعه لنفسه, فإن النفس تتضاءل وتتصاغر للتعظيم والإجلال, فلا حَظَّ لنفسه في هذا السماع, بخلاف من تقدم ذكره في الأقسام, فإنهم واقفون مع ربهم من وجه, ومع أنفسهم من وجه أو وجوه, وشتان بين ما هو خالص لله, وبين ما شاركته فيه النفوس, فإن المحب يلتذ بجمال محبوبه, وهو حظ نفسه, والهائب ليس كذلك.
وتختلف أحوال هؤلاء بالمسموع منه, فالسماع من الأولياء أكثر تأثيرًا من السماع من الجهلة الأغبياء, والسماع من الأنبياء أشد تأثيرًا من السماع من الأولياء, والسماع من رب الأرض والسماء أشد تأثيرًا من السماع من الأنبياء, لأن كلام الرب أشد تأثيرًا في الهائب, من كلام غيره, كما أن تأثير المحبوب أشد تأثيرًا في المحب من كلام غيره. ولهذا لم يشتغل الأنبياء والصديقون وأصحابهم بسماع الملاهي والغناء, واقتصروا على سماع كلام ربهم, لشدة تأثيره في أحوالهم.
ولقد غَلَّظَ كثير من الناس في سماع النشيد والغناء, من جهة أن أصوات الملاهي وطيب النشيد وطيب الغناء فيها حظ للنفوس, فإذا سمع أحدهم شيئا مما حرك حاله التذت نفسه بأصوات الملاهي ونغمات الغناء, وذكره النشيد بما يقضيه حاله من الحب والخوف والرجاء, فتثور فيه تلك الأحوال فتلتذ النفس من وجه مؤثره, ويؤثر السماع بما يشتمل عليه الغناء من الحب والخوف فيحصل له الأمران: لذة نفسه والتعلق بأوصاف ربه, فيظن أن الكل متعلق بالله, وهو غالط.
(القسم الخامس): من يغلب عليه هوى مباح, كمن يعشق زوجته أو سريته, فهذا يهيجه السماع, ويؤثر فيه الشوق وخوف الفراق ورجاء التلاق, فيطرب لذلك فسماع مثل هذا لا بأس به.
(القسم السادس): من يغلب عليه هوى محرم كهوى المُرَّاد, ومن لا يحل له من النساء, فهذا يهيجه السماع إلى السعي في الحرام, وما أدى إلى الحرام حرام.
(القسم السابع): من قال: لا أجد في نفسي شيئا مما ذكرتموه في الأقسام الستة, فما حكم السماع في حقي؟
قلنا: هو مكروه من جهة أن الغالب على العامة إنما هي الأهواء الفاسدة, فربما هاجه السماع على صورة محرمة, فيتعلق بها ويميل إليها, ولا يحرم عليه ذلك, لأنا لا نتحقق السبب المحرم, وقد يحضر السماع قوم من الفجرة فيبكون وينزعجون لأغراض خبيثة انطووا عليها, ويراؤون الحاضرين بأن سماعهم للأسباب المذكورة في الأقسام الستة, وهذا قد جمع بين المعصية وبين إيهام كونه من الأولياء.
وقد يحضر السماع قوم قد فقدوا أهاليهم, ومن يعز عليهم, ويذكرهم النشيد فراق الأحبة وعدم الأنس بهم, فيبكي ويوهم الحاضرين أن بكاءه لأجل رب العالمين. وهذا مرائي بأمر غير محرم.
(فصل) لا يحصل السماع المحمود إلا عند ذكر الصفات الموجبة للأحوال السنية والأفعال المرضية، ولكل صفة من الصفات حال يختص بها، فمن ذكر صفة الرحمة أو ذُكِّر بها كانت حاله حال الراجين، وسماعه سماع الراجين، ومن ذَكَر شدة النقمة أو ذُكِّر بها كان حاله حال الخائفين وسماعه سماع الخائفين.
ومن كان حاله المحبة فذكر جمال المحبوب, أو ذكر به, كانت حاله حال المحبين, وسماعه سماع المحبين.
ومن كانت حاله حال المعظمين الهائبين فذكر العظمة, أو ذكّر بها, كانت حاله حال المعظمين, وسماعه سماع الهائبين المعظمين.
ومن كان حاله التوكل فذكر تفرد الرب بالضر والنفع, والخفض والرفع, والتقريب والإبعاد, فذكر ذلك, أو ذُكِر له في السماع, كان حاله حال المتوكلين المفوضين, وسماعه سماعهم. وقد يتنقَّل كثير من الناس في السماع بين هذه الأحوال, فينتقل من حال إلى حال على حسب اختلاف التذكير. وقد يغلب الحال على بعضهم, بحيث لا يصغي إلى ما يقوله المنشد, ولا يلتفت إليه لغلبة حاله الأولى عليه.
وقال صاحب كتاب (معيار المريدين): أما بعد: فهذا ذكر الفِرَق التي غلطت في الإباحة والحلول والاتحاد والتجسيم وبيان عوارهم والرد عليهم: اعلم أن منشأ أغاليطهم جهلهم بأصول الدين وفروعه, حيث تركوا العلم ومتابعته, واتبعوا شهوات النفوس, قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: من آية 43].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ»([6]).
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»([7]).
اعلم أن من ليس معه سراج العلم ومشعلة العلم فلا تشكَّنّ في إغواء الشيطان اللعين إياه. وقد حذر الله تعالى عباده من موالاةٍ لشيطان في كثير من الآيات: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ [فاطر: من آية6]. فيجب على طالب العلم اتباع الحق الذي يصح به الإيمان واعتقاده وتوحيده وعلمه, حتى يكون عارفًا بالله تعالى, وعاملاً في الله, ومخلصًا لله. والعلم النافع المنجي هو علم الشريعة والطريق.
قال -صلى الله عليه وسلم-: «الْعِلْمُ عِلْمَانِ: فَعِلْمٌ بِاللِّسَانِ فَذَلِكَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْعِبَاد، وَعِلْمٌ فِي الْقَلْبِ فَذَلِكَ هو النَّافِع»([8]).
قال -صلى الله عليه وسلم-: «خير الدنيا والآخرة مع العلم, وشر الدنيا والآخرة مع الجهل»([9]).
وقال في كتاب الفردوس: روى أبو أمامة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «رب عابد جاهل, ورب عالم فاجر, فاحذروا الجهال من العباد, والفجار من العلماء»([10]).
وقال علي -رضي الله عنه-: (ما قطع ظهري في الإسلام إلا رجلان: عالم فاجر، وناسك مبتدع؛ فالعالم الفاجر يَزْهَد الناس في علمه, لما يرون من فجوره, والناسك المبتدع يَرْغَب الناس في بدعته لما يرون من نسكه)([11]).
وعن الشَّعْبِي -رحمه الله- أنه قال: (اتقوا الفاجر من العلماء, والجاهل من المتعبدين, فإنهما آفةُ كل مفتون).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «هلاك أمتي عامل فاجر وعابد جاهل, وشر الشرار شرار العلماء, وخير الخيار خيار العلماء»([12]).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «يكون في آخر الزمان عباد جهّال وعلماء فسّاق»([13]).
قال صاحب العوارف: قوله: «عباد جهال» أراد أصحاب الرستاق, فغالبًا يحصل لهم أقل ضوء في الباطن, بسبب سلامة النفس وترك الفضول وكثرة الكلام, ولا يكون لهم سابقة علم, ولا يطيعون أمر شيخ رباني, عالم صمداني, فمثالهم كالشجرة الدقلة غير المثمرة مع الأزهار, لانتشائها بنفسها, ولم يصل إليها ضروب التربية, فإنها الأصل في العبودية حتى لا يغتر بحاله, ولا يعجب بنفسه, ويكون مثال عبادتهم مع الجهل كالبنيان على الرماد, ولا يكمل حالهم أصلا, ولا يكون لهم علم الولاية أبدا, لأنه ليس مبنيا على قانون الشريعة وآداب الطريقة, فيغلب عليهم وساوس الشيطان وهواجس النفس, فيدلهم على التلبس وترك الأسباب واكتساء الخلقان, وإظهار الأشكال الغريبة والأفعال العجيبة, والإقامة في المواضع المنكرة مع السكوت, ليغتر الناس بها, فتفضي بهم هذه الأحوال والأفعال والأشكال إلى اصطياد الناس والصيت بينهم بطريق الرياء والسمعة استجلابًا للرزق. فهم الدجالون الشاذون لهذه الأمة اختاروا الدنيا الفانية على الآخرة الباقية.
وقال صاحب العوارف: لا شك أن النفس مجبولة على الباطل ومتنفرة عن الحق, والدليل على ذلك حكاية نوح عليه السلام, ودعوته الناس تسعمائة وخمسين سنة, فلم يتبعه إلا تسعون نفسًا, والسامري كان كافرا وعالما بالسحر, فعمل بيده عجلا من الحلي, ونفخ فيه وظهر فيه صوت رعد, فدعا الناس إليه, قال: ﴿هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى﴾ [طه: من آية 88] فقبل منه سبعون ألفًا واتبعوه.
فعُلِمَ من هذا البيان أن أصل العرفان لا يظهر إلا ﴿ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: من آية 37], حتى يرى الحق بالحق والباطل بالباطل.
وقال صاحب العوارف: ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما اتخَذَّ الله وليًا جاهلاً»([14]).
قال: فإن قيل: رأينا من لا يكون له علم الصورة واصلاً إلى حقيقة العلم, قلنا: مُسَلَّم له, هو نادر, ولا حكم للنادر. فإن تبين ذلك فلا بد من لوازمه أن يوفقه الله بالعبودية على وفق أساس الشريعة, لأن الجهل نتيجةً للنفس الأمارة بالسوء.
ومن لوازم أصحاب الولاية النفس المطمئنة.
ومن شرائط أهل الولاية أن يكون عالما بالأوامر الشرعية, وسالكا فيها, وكاملا في عرفان الحقيقة, وواصلاً إليها, ومحصلاً لجميع ذلك, حتى يتم له السلوك ويشرف بعالم الوصال. فالله الله أيها الطالب, الحذر الحذر من صحبة الأشرار, فإنهم قطاع طريق, واعتصموا بحل القرآن والأحاديث النبوية.
وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى: اجتنبوا صحبة ثلاثة أصناف من الناس: الجبابرة الغافلون, والقراء المداهنون, والمتصوفة الجاهلون.
فافهم ولا تغلط, فالدين واضح.
([4]) ذكر هذا أيضًا ابن عبد البر في (الاستيعاب)، والإدفوي في (الإمتاع)، وروى الزبير بن بكَّار بإسناده أن عبد الله بن جعفر -رضي الله عنه- ما راح إلى منزل جميلة يستمع منها لما حلفت أنها لا تغني لأحد إلا في بيتها وغنَّت له، وأرادت أن تُكَفِّر عن يمينها وتأتيه لتسمعه، فمنعها.
([6]) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث حذيفة -رضي الله عنه-، وقال الترمذي: حديث حسن، وأعلَّه البزار وابن حزم، ورد عليهما الحافظ في التلخيص، ورواه الطبراني في الكبير من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- وزاد فيه «فإنهما حبل الله الممدود، من تمسَّك بهما فقد تمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها» وفي إسناده مجاهيل.
([7]) رواه الدارقطني في غرائب مالك، وابن عبد البر في العلم من حديث جابر بإسنادين ضعيفين، ورواه عبد بن حميد في مسنده من حديث ابن عمر بإسناد واه، والقضاعي في مسند الشهاب من حديث أبي هريرة بإسناد فيه كذَّاب، وأبو ذر الهروي في السنة من طريق الضحاك معضلاً، وإسناده ضعيف جدًا، وقد ثبت ما يؤدي معنى صدره كما قال البيهقي، وهو ما في صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعًا: «النُّجُومُ أَمَنَةُ أهل السَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَ النُّجُومُ أَتَى أهل السَّمَاءَ مَا يوعدون، وَأَصْحَابِي أَمَنَةُ أُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَىٰ أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ». وفيه كما قال الحافظ الإشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة.
([10]) رواه ابن عدي في الكامل، قال: حدثنا موسى بن عيسى الجزري، ثنا صهيب بن محمد، ثنا بشار بن إبراهيم، ثنا ثور عن خالد بن معدان عن أبي أمامة -رضي الله عنه- مرفوعًا به، وبشار بن إبراهيم وَضَّاع.
([12]) لم أجد صدره، وفي معناه ما رواه الديلمي في مسند الفردوس بإسناد ضعيف عن ابن عباس مرفوعًا: «آفة الدين ثلاثة: فقيه فاجر، وإمام جائر، ومجتهد جاهل»، وفي تاريخ الحاكم بإسناد فيه مجهول من حديث أنس: «ويل لأمتي من علماء السوء»، وأما آخره فرواه الدارمي في سننه من طريق بَقِيَّة عَنِ الأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الشَّرِّ، فَقَالَ: «لاَ تَسْأَلُونِي عَنِ الشَّرِّ وَاسْأَلُوني عَنِ الْخَيْرِ». يَقُولُهَا ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ: «أَلاَ إِنَّ شَرَّ الشَّرِّ شِرَارُ الْعُلَمَاءِ، وَخَيْرَ الْخَيْرِ خِيَارُ الْعُلَمَاءِ». وهو مرسل ضعيف لعنعنة بَقِيَّة وضعف الأحوص، وفي مسند البزار والحلية بإسناد ضعيف عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: تَعَرَّضْتُ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَطُوفُ بالبيت، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغفر، سَلْ عَنِ الْخَيْرِ، وَلاَ تَسْأَلْ عَنِ الشَّرِّ، شِرَارُ النَّاسِ شِرَارُ الْعُلَمَاءِ فِي النَّاسِ».
([13]) رواه الحاكم في الرقاق من المستدرك، وأبونعيم في ترجمة ثابت من الحلية، وابن عدي في الكامل، وابن النجار في التاريخ من طريق يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس مرفوعًا به، قال أبو نعيم: هذا حديث غريب من حديث ثابت لم نكتبه إلا من حديث يوسف بن عطية، وهو قاضٍ بصري في حديثه نكارة، وقال الذهبي في تلخيص المستدرك: يوسف بن عطية هالك.