[29]
أبو محمد عبد الله اليافعي الشاذلي([1])
(...- 768)
نزيلُ الحرمين الشريفين، ووارثُ السرّيْنِ العظيمين، الذي كان يُقتدى بآثاره، ويهتدى بأنواره. شهرتُه تُغني عن إقامة البرهان، لا يحتاجُ واصفُها إلى بيان، شيخ الطريقين، وإمامُ الفريقين، مولانا أبو محمد عبد الله بن أسعد اليافعي العدني الشاذلي شيخُ الحرم، وقدوة أهل الكرم.
ولد رضى الله عنه بمدينة عدن، ونشأ بها، واشتغل بالعلم حتى برع فيه، ثم حجَّ، ورجع الشام، وحُبِّب إليه الخلوة فانقطع للعبادة ولازم الأذكار.
وصحب في بدايته الشيخ عليَّ الطواشي قطبَ مدينة حلا ودفينها، ثم ارتحل إلى مكَّة شرفها الله تعالى، واشتغلَ فيها بالعلم مدةً، ثم تجرَّدَ وأقامَ في مقام التجريد نحو عشر سنين، وكان في هذه المدة يتردَّدُ ما بين مكة والمدينة، ثم ارتحلَ إلى بيت المقدس لزيارة الأماكن المقدسة، ثم قدم مصر، وكان بها الشيخُ الكبير إمامُ الأئمة، وقدوة ذوي الهمَّةِ القطبُ الرباني، والغوثُ الصمداني مولانا الشيخ ناصر الدين أبو عبد الله بن عبد الدائم الشهير بابن المَيْلَق القُرشي الشاذلي، ثم المصري ثالثُ الخلفاء، وقطبُ أهل الحقيقة الغرَّاء، وقد كان مولانا الشيخ ناصر الدين هذا صاحبَ الوقت، وشيخَ الزمان، وواحد الأوان، وكان في زمنه قاضيَ القضاة، وتولَّى مشيخةَ الشافعية، وكان يتكلَّمُ في الوعظ، وكان لوعظِهِ تأثيرٌ في القلوب، انتفعتِ الناس بعلومه دهرًا طويلًا، وكانت وفاته عام سبع مئة وتسعين عن ستينَ عامًا، ودفن في قَرَافة الشَّاذلية الكُبرى، وخلَّفَ أصحابًا لا يُحصى لهم عدد، كلّهم واصلين إلى الله سبحانه وتعالى، فلمَّا سمع مولانا أبو عبد الله اليافعي بذكره أقبلَ إليه، وجلسَ بين يديه، وأخذ عنه طريقَ الشاذلي، ولقَّنه العهودَ والأوراد، وأمدَّه بالأمداد، فلاحت عليه أنوارُه، وتحقَّقت علومه وأسراره، وانقطعَ إلى شيخه، ولازمه مدَّةً، وسلك على يديه، وانتفعَ به في سلوك طريق القوم.
ثم توجَّه إلى المدينة، ودخلها بإذن من حضرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقضى أوقاته في نهايته بين المدينة ومكة، وكان مع ذلك مُشتغلًا بالعبادة، ملازمًا للذكر، مؤثرًا للفقراء، محبًّا للمساكين يعطفُ عليهم ويُواسيهم.
وقد أجمعت الناسُ على ولايته، وتُحكى عنه كراماتٌ ومكاشفات، وقبل وفاته بسبعة أيام تقطَّبَ، ونال درجةَ الغوث التي لم يُشاركه فيها أحد.
وكانت وفاته بمكة المكرمة عام سبع مئة وثمانٍ وستين، ودفن بباب المُعلّى إلى جنب الفُضيل بن عياض([2]).
ومناقبه رضى الله عنه مشهورة، ترجمه الجمال الإسنوي في «طبقاته»، وأثنى عليه، وترجمَه غيرُ واحد.
ولما تُوفّي بيعت أشياؤه بأغلى الأثمان، مع أنها لم تكن ذاتَ قيمةٍ، حتى قيل: إنه بيع له مئزر([3]) عتيقُ بثلاث مئة درهم، وطاقيةٌ عتيقة بمئة درهم.
وترك من مؤلفاته الحسنة «تاريخه الكبير»([4]) وكتاب «روض الرياحين» نفعنا الله به وبعلومه. آمين.
([1]) عبد الله بن أسعد بن علي اليافعي، عفيف الدين: مؤرخ، باحث متصوف من شافعية اليمن. نسبته إلى يافع من حمير، ومولده سنة 698هـ بعدن ونشأ بها، وتوفي في مكة سنة 768هـ. [«الأعلام» (4/333)].
([2]) الفضيل بن عياض بن مسعود التميمي اليربوعي، أبو علي: شيخ الحرم المكي، من أكابر العلماء الصلحاء، كان ثقة في الحديث، أخذ عنه خلق منهم الإمام الشافعي، ولد بسمرقند سنة 105هـ، ونشأ بأبيورد، ودخل الكوفة وهو كبير، وأصله منها. ثم سكن مكة وتوفي بها سنة 187هـ. [«الأعلام» (5/153)، و«تهذيب التهذيب» (8/294)].