[41]
القطب الشعراني([1])
(... - 973)
الإمام العامل، والهمام الكامل، إنسان عين ذوي الفضائل، وعين إنسان الواصلين، من ذوي الفضائل، العابد، الزاهد، الفقيه، المحدث، الصوفي، المربي المسلك، قطب دائرة فلك المتقين، قدوة الأولياء والعارفين، فريدةُ الأتقياء والواصلين، ووارث علوم الأنبياء والمرسلين، المنتظم بسلسلة «علماء أُمَّتي كأنبياء بني إسرائيل»([2])، مرشدُ الخلائق إلى سواء السبيل، المختصُّ بشرائف عواطف الملك التواب، المفيض عليه من كمال الأسرار والمعارف من لدن العليم الوهاب، قطب الأنجاب والأبدال والأقطاب، أستاذ أهل الإرشاد والتسليك الشريف حسًّا ومعنى، حسبًا ونسبًا، بلا تحقيق، طاهر النسبتين، المتمتع بمشاهدة جمال الحضرتين، تاج الدين، وغوث المسلمين، وأستاذ المتصرفين، وملاذ أهل التمكين، صاحب المدد الأكبر، والفضل الذي لا يحصر، أبو المواهب شرف الدين سيدنا ومولانا عبد الوهاب ابن سيدنا أحمد ابن سيدنا شهاب الدين علي الشعراني الأنصاري الشافعي، المحمدي ذاتًا وصفاتًا، الشاذلي طريقة وحقيقة، المجاهد الغازي، قطب الطريقة الشعرانية الشاذلية، وعين أعيان أهل الدوائر العلية.
كان رضى الله عنه من أصحاب الدوائر الكبرى المتمكنين في الولاية من يوم ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 172]، وكان باطنه وظاهره محمديًّا، وإن شئت قلت خضريًّا نورانيًّا.
تربى رضى الله عنه يتيمًا بكفالة نبي الله سيدنا الخضر عليه السلام، وبنظرات جده سيدي شهاب الدين رضى الله عنه، فولد ونشأ رضى الله عنه وليًّا من أولياء الله تعالى، ولما ترعرع، وصار في ريعان شبابه، ظهرت فيه علامات النجابة([3])، ومخايل الولاية، فاجتهد في طلب العلوم، وحفظ القرآن، وبعض المتون، وحاز العلوم والفنون، وتستر بالفقه حتى كمل رشده، وطار ذكره، اشتغل بالطريق فلاحت عليه بشارات أهل التحقيق، وصار ركنًا من أركان الطريق يعتمد عليه، وقد أقامه الله رحمة للعباد، لما اجتمع بسيد العباد، وجاهد جهاد الأبطال حتى عد من فحول الرجال.
ومكث سنين طوالًا لا يتضجع على الأرض ليلًا ولا نهارًا، بل اتخذ له حبلًا في سقف خلوته، فجعله في عنقه ليلًا حتى لا يسقط، وكان يطوي الأيام المتوالية، ويديم الصوم، ويفطر على أوقية([4]) من الخبز، ويجمع الخرق من الكيمان، فيتخذها مرقعة فيستتر بها، وكانت عمامته من شراميط الكيمان، وقصاصة الجلود.
واستمر على ذلك حتى قويت روحانيتُهُ، فصار يطير من صحن جامع الغمري إلى سطوحه، ورأى في مجلسه الجنة والنار، والصراط والحشر، والحوض، وكشف عنه الحجاب، فشاهد الأمور العجاب، ورأى ما خلف جبل قاف، وتكلم بسائر اللغات، واستأنست به الوحوش، وتكلم بما يُبهر العقول، وشهدت بفضله الأئمة الأعلام، ودانت له رقاب الأنام، وخدمته الإنس والجان، والوحوش من جميع الآكام([5])، واطلع على عجائب مخلوقات الله، وبلغ به الورع والزهد منتهاه، حتى إذا مشى رحمه الله في الأسواق، تندلق([6]) عليه الناس أيَّ اندلاق، واعتقدته جميع الخلائق، حتى اليهود والنصارى، وأسلم على يديه الكثير منهم، وتاب على يديه من العصاة ما لا يُحصر عدده، وصاروا من فقرائه، لما أمدَّهم بمدده، وكان يُسمعُ لزاويته دويٌّ كدوي النحل ليلًا ونهارًا من خارج أبواب مصر.
خدم المشايخ والأولياء، فخدمته أهل الأرض والسماء، وسعوا له حبوًا على وجوههم، وأذعنت له الأمراء رغم أنوفهم، كانت تأتي إليهم الشفاعات، فيقبلونها صاغرين، ويجبرون أصحابها ويردُّونهم سالمين.
وكان رضى الله عنه مُجاب الدعوة، عظيم السمعة، لين الجانب، بسامًا متواضعًا متقشفًا([7]).
وكان يلبس في بدايته الملابس الغالية، ويجالس العلماء ويلاطفهم، وكان مُواظبًا على السنة المحمدية، مراعيًا للمذاهب الأربعة لا يفرق بينهم وقد أطلعه الله سبحانه وتعالى على مقاماتهم، وكان يقول: جزاهم الله عنا خيرًا.
وكان رضى الله عنه موزِّعًا أوقاته على العبادة؛ ما بين تأليف وتصنيف، وذكرٍ وتذكير، وصلاة على البشير النذير، وتربية بالدلال والكمال.
أُعطي رضى الله عنه ناطقةَ جميع الأولياء، وكانت تنبت الأولياء بساحه، كما تنبت الأرض بماء السماء.
وكان رضى الله عنه متخلقًا بأخلاق أهل الله، مؤثرًا على نفسه، كريمًا، يُعطي عطايا الملوك، ويُنفق على الفقراء وذوي الحاجات، وكان يجتمع عنده بالزاوية نحو مئة من الفقراء، فكان يقوم بهم نفقةً وكسوة.
وكان عظيم الهيبة، وافر الحرمة، يأتي إلى بابه أكابر الأمراء، فتارة يجتمعون به، وتارة لا يجتمعون.
وكان رضى الله عنه ذا همةٍ عالية، فكان يأتيه الكتابُ الكبير الحجم، فيطالعه ويراجعه، ويضع عليه تقريراته في ليلة واحدة، وأرسل له ناصر الدين اللقاني «مدونة الإمام مالك» رضى الله عنه مع النقيب، ليراجع فيها مسألة أشكلت عليه في الظاهر، فلما أتى بها النقيب، وصل إليه في الزاوية مساءً، فأعطاها له، وأراد الانصراف، فقال له: حتى تأخذها في الصباح، وبات عندنا هذه الليلة، فبات النقيب، وأخذ «المدونة» سيدي عبد الوهاب، ودخل خلوته، وبعد مضي زمن يسير، خرج من الخلوة، وردَّها إليه، فأصبح الرجل، ومضى إلى سيدي ناصر الدين، و «المدونة» معه، ففتحها سيدي ناصر الدين اللقاني، فوجد عليها تقريرات وتصليحات، فتعجب غاية العجب، فسأل نقيبه عن ذلك، فقال: لا أعلم غير أن سيدي عبد الوهاب لمَّا أخذها منّي، ودخل خلوته، ردَّها إليَّ بعد عشرين درجة، فلم أفتحها، وأحضرتها إليك كما هي، ولقد رأيته يا سيدي والله ما ترك وردًا من أوراده، ولا تهجُّداته.
وكانت الأمراء، وأرباب الجاه يحبونه محبة شديدة، ويعتقدونه لصلاحه وورعه، وكان السلطان الغوري رحمه الله يحبه محبَّةً شديدة، ويعتقده اعتقادًا جازمًا، وأهدى له مرة سجادة وشاشًا عرضُه سبعة أذرع، وطوله ثلاثون ذراعًا، أهداه له سلطان الهند في قشرة الجوزة، فأعطى رضى الله عنه الشاش لأخيه سيدي مولانا عبد القادر وأبقى السجادة ولم يستعملها مدة حياته، ولم يردها على السلطان أدبًا منه، وكان هذا ديدنه([8])، ومشربه الأدب مع ولاة الأمور، ومن دونهم، يُراعي حرمة الفقير والغني، والكبير والصغير، وهذه قطرةٌ من بحر فضائله.
وكيف لنا أن نقوم بحصر مناقبه؟! فهو إمام المحققين على الإطلاق، ومربي المريدين بأقوى قواعد التمكين، وفاتح أقفال غوامض معنويات إشارات المحققين، ومُعّبرُ رموز محلات مشكلات العارفين، واسطة عقد السالكين، وريحانة وجود الواصلين، الذي أقامته القدرة الإلهية، ورتَبته العناية الربانية، واللطائف الرحمانية، فسلك الطريقة الإلهية، مُتَّبعًا للكتاب العزيز والسنة المحمدية، وتفقَّه حتى وصل إلى الغاية، في مذهب السادة الشافعية، وفتح الله عليه بالافتتاحات الربانية.
ولم يزل مُعظّمًا في صدور الصدور، مُبجَّلًا في عيون الأعيان، حتى نقله الله تعالى إلى دار كرامته، عام تسع مئة وثلاثة وسبعين، ودُفن بزاويته بين الصورين، وحضر جنازته جمعٌ حافل من العلماء والفقهاء والأمراء والفقراء، وكان يومًا مشهودًا في مصر، وصُلّي عليه بالأزهر الشريف، وقُرئ نسبه الشريف على الدكَّة([9])، وحملوه على الأعناق، حيث مدفنه، وحضرت جنازته الأولياء الأحياء والأموات، ورجال الدوائر من الإنس والجن من سكان البراري والوديان وما وراء البحار، حتى لم تُر قطُّ جنازةٌ بمصر مثل جنازته، وعكفت الطيورُ تحوم حول نعشه، وبكتْ عليه الجمادات، وتقطعت القلوب أسفًا عليه.
وخلَّف رحمه الله ذكرًا باقيًا، وثناءً عطرًا زاكيًا، وبعد وفاته تناثرت الخيرات على زاويته من كلِّ فج عميق، فأوقفوا العقارات والأطيان، وشيدوا له مسجدًا جامعًا يليق بمقامه، وضريحًا خاصًّا له، وبعاليه قبَّةٌ معقودةٌ ومقصورة، ورتَّبوا له المرتبات.
وصارَ مسجده يُعدُّ من أعظم مساجد مصر، وضريحه من أجلِّ الأضرحة التي يستجاب عندها الدعاء، ومدَدُه فائضٌ بين العباد، تقصدُه ذوو الحاجات والمتعسرين، فيقفون بين يديه، ويتوسَّلون إلى الله بكشف الكروب، وما زاره أحدٌ إلا ورُدَّ مجبورَ الخاطر.
وهو رضى الله عنه نصيرُ الضعفاء حيًّا وميتًا، تزدحم الناس عليه، وينذرون له النذور والشموع، وما من أحد حلَّ ساحته إلا وأفاض عليه من مدده، رحمه الله، وتقصدُه أهالي مصر قاطبةً، من كل ملة، ويؤملون عنده خيرًا كثيرًا، اللهم أمدنا بمدده الفياض، واحشرنا تحت لوائه، وأدم علينا بركاته. آمين.
([1]) عبد الوهاب بن أحمد بن علي الحنفي، نسبة إلى محمد ابن الحنيفية، الشعراني، أبو محمد: من علماء المتصوفين. ولد في قلقشندة بمصر سنة 898 هـ، ونشأ بساقية أبي شعره (من قرى المنوفية) وإليها نسبته: (الشعراني، ويقال الشعراوي) وتوفي في القاهرة سنة 973 هـ له تصانيف منها: «أدب القضاة» و «الأجوبة المرضية عن أئمة الفقهاء والصوفية» وغير ذلك. [«الأعلام» (4/180، 181)، و«شذرات الذهب» (8/3، 5)].