قال }: الشوق على قسمين: شوق على الغيبة لا يسكن إلا بلقاء الحبيب وهو شوق النفوس, وشوق الأرواح على الحضور والمعاينة, فإذا رفعك إلى محل المحاضرة والشهود المسلوب عن العلل؛ فذاك مقام التعريف إيمانًا حقيقيًّا، وذاك ميدان تَنَزُّلِ أسرار الأزل, فإذا أنزلك إلى محل المشاغرة والجهاد؛ فذاك مقام التكليف المقيد بالعلل، وهو الإسلام الحقيقي وذلك ميدان تجلي حقائق الأبدية.
والمحقق من لا يبالي بأي صفة يكون؛ لأنَّ صفتك تميل لا أنت، والصفة من العين للعين وهو ظهورك، والاسم اللسان وهو نطقك, والاسم حقيقة الصفة، والصفة حقيقة الوجود, والأسرار متنزلة عن الوجودية للصديقية, والحقائق متجلية عن الصفات بالولاية لأهل العلوم الظاهرة عن الاسم بالدليل لأهل السعاية, وإليه بالإشارة بقوله —: «يا أبا جحيفة، سائلِ العلماء, وخالطِ الحكماء، وجالسِ الكبراء»([1])؛ فالعالم يدلك بالعلم من الأسماء ونهايته الجنة، والحكيم المقرب يحمله باليقين وبالحقائق من الصفات ونهايته منازل القرابة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿...اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ...﴾([2])، والكبير يَدُلُّك بالأسرار من الوجود على كبير الصفاء والنزاهة، ونهايته إلى الله.
وتجتمع المراتب الثلاثة في الكبير، فيحمل قومًا بالعلم، وقومًا بالحقائق، وقومًا بالأسرار، وهم الأنبياء, وأبدال الرسل وهم البصراء, ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي...﴾ [يوسف:108]؛ أي على معاينة يعاين لكل صنف طريقهم، فيحملهم عليها وهي النيابة، وأما هو فقد انفرد بحالة لا تُعرف لعظيم قربه.
وَغَنَّى لِي مُنَى قَلْبِي |
* | وَغَنَّيْتُ كَمَا غَنَّى |
وَكُنَّا حِينَمَا كَانُوا |
* | وَكَانُوا حِينَمَا كُنَّا |
وقال }: أوقات العبد أربعة لا خامس لها: النعمة، والبلية, والطاعة، والمعصية، ولله عليك في كل وقت منها سَهْمٌ من العبودية يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية؛ فمن كان وقته الطاعة فسبيله شهود المنة من الله
عليه؛ إذ هداه لها ووَفَّقَهُ للقيام بها، ومن كان وقته المعصية فسبيله الاستغفار والتوبة، ومن كان وقته النعمة فسبيله الشكر، وهو فرح القلب بالله، ومن كان وقته البَلِيَّةَ فسبيله الرضا بالقضاء والصبر, والرضا رضا النفس عن الشهوات، والصبر مشتق من الإصبار, وهو الغرض للسهام، وكذلك الصابر ينصب نفسه غرضًا لسهام القضاء, فإن ثبت لها فهو صابر، والصبر ثبات القلب بين يدي الرب، قال رسول الله >: «من أُعْطِيَ فشكر, وابْتُلِيَ فصبر, وظلم فغفر, وعمل فاستغفر» ثم سكت، فقال: يا رسول الله، ماذا له؟ فقال: ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام:82]؛ أي لهم الأمن في الآخرة، وهم مهتدون في الدنيا.
وقال }: الناس على قسمين: قوم وصلوا بكرامة الله إلى طاعة الله، وقوم وصلوا بطاعة الله إلى كرامة الله، قال سبحانه وتعالى: ﴿...يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾([3]).
ومعنى كلام الشيخ هذا: أن من الناس من حَرَّكَ اللهُ همته لطلب الوصول إليه، فصار يطوي بهما نفسه، ويبدأ طبعه إلى أن وصل إلى حضرة ربه، يصدق على هذا قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا...﴾([4]).
ومن الناس من فاجأته عناية الله من غير طلب ولا استعداد, ويشهد لذلك قوله: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاء...﴾ [آل عمران:74]، والأول حال السالكين، والثاني حال المجذوبين؛ فمن كان مبدأه المعاملهْ فنهايته المواصلهْ، ومن كان مبدأه المواصلهْ رد إلى وجود المعاملهْ.
ولا تظن أن المجذوب لا طريق له، بل له طريق طَوَتْهَا عناية الله له، فسلكها مسرعًا إلى الله عَجِلًا، وكثيرًا ما تسمع عند مراجعات المنتسبين للطريق أن السالك أَتَمُّ من المجذوب؛ لأن السالك عرف الطريق وما توصل إليه، والمجذوب ليس كذلك، وهذا بناء منهم على أن المجذوب لا طريق له, وليس الأمر كما زعموا؛ فإن المجذوب طُوِيَتْ له الطريق ولم تُطْوَ عنه، ومن طُوِيَتْ له الطريق لم تَفُتْهُ ولم تَغِبْ عنه, وإنما فاتَه متاعبها وطول أمدها، والمجذوب كمن طُوِيَتْ له الأرض إلى مكة، والسالك كالسائر إليها على أكوار المطايا.
وقال }: العارف لا دنيا له؛ لأن دنياه لآخرته وآخرته لربه.
وقال }: الزاهد جاء من الدنيا إلى الآخرة، والعارف جاء من الآخرة إلى الدنيا.
وقال }: الزاهد غريب في الدنيا؛ لأنَّ الآخرة وطنه, والعارف غريب في الآخرة؛ فإنه عند الله.
فإن قلت: ما معنى الغرابة في كلام الشيخ هذا؟ وما معناها في الحديث الوارد: «بدأ الدين غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء»؟.
فاعلم أن الغربة المذكورة في الحديث معناها قلة من يعين على القيام بالحق, فيكون القائم به غريبًا؛ لفِقدان المساعدة وعدم المعاضدة، ولا يُنهض القائمَ حينئذ إلا قوةُ إيمانه ووفور إيقانه؛ فلذلك قال رسول الله >: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء»([5])، يريد > أنهم قاموا بأمر الله في بلاده وعباده؛ حيث تقاعدت هِمَمُ النَّاسِ عن القيام به.
وأما الغربة في كلام الشيخ فمعناها أن الزاهد يكشف عن ملك الآخرة, فتبقى الآخرة موطن قلبه ومعشش روحه, فيكون غريبًا في الدنيا؛ إذ ليست وطنًا لقلبه، عاين الدار الآخرة فأخذ قلبه فيما عاين من ثوابها ونوالها, وفيما شهد من عقوبتها ونَكَالها، فاستغرب في هذه الدار.
وأما العارف فإنه غريب في الآخرة؛ فإنه كشف له عن صفات معروفة، فأخذ قلبه فيما هنالك؛ فصار غريبًا في الآخرة؛ لأن سِرَّه مع الله بلا أين؛ فهؤلاء العباد تصير الحضرة معشش قلوبهم، إليها يأوون وفيها يسكنون؛ فإن تَنَزَّلُوا إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ فبالإذن والتمكين والرسوخ في اليقين، فلم ينزلوا إلى الحظوظ بالشهوة والمتعة، ولا إلى الحقوق بسوء الأدب والغفلة، بل كانوا في ذلك كله بآداب الله وآداب رسله وأنبيائه متأدبين، وبما اقتضى منهم مولاهم عاملين.
وقال }: الخوف على قسمين: خوف العامة، وخوف الخاصة؛ فخوف العامة: على أجسادهم من النار، وخوف الخاصة: على خِلَعِهِم التي كساهم اللهُ أن تُدَنَّسَ بالمخالفة.
ومعنى كلام الشيخ هو: أن العامة لم تنفذ
بصائرهم إلى شهود خِلَع الحق عليهم، من: إيمان، وإسلام، ومعرفة، توحيد، ومحبة، وعلموا أن الله تعالى قد تواعد أهل معصيته بعقوبته، فخافوا من الوقع في المعصية؛ لِئَلَّا يكون ذلك سبب وقوع العقوبة بهم؛ فكان خوفهم إشفاقًا على نفوسهم من عقوبة الله، وأما أهل الخصوصية فأعطاهم الحق من نوره ما أشهدهم به ما كساهم من خِلَعِ مننه؛ فعملوا على صيانتها ليقدموا عليه بها، لم تدنس ولم تتغير، طاهرة نقية مشرفة بهية, وفهموا معنى قوله: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر:4]؛ فطهروا ملابس إيمانهم وإيقانهم من دنس غفلتهم وعصيانهم، وفهموا أيضًا قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾([6])؛ فعبروا الدنيا، وقد رفعوا ملابس المنن؛ خشية أن تدنس بأوساخها؛ كي يقدموا عليه بخلعه التي أنعم الله بها عليهم, وينهضوا له بالوفاء فيما انقضى منهم، وبالإمامة والصيانة فيما اسْتَأْمَنَهُم، وكان بعض العارفين ينشد شرعًا:
قَالُوا غَدًا الْعِيدُ مَاذَا أَنْتَ لَابِسُهُ
|
* |
فَقُلْتُ خِلْعَةَ سَاقٍ حُبُّهُ جَرَعَا
|
فَقْرٌ وَصَبْرٌ هُمَا ثَوْبَانِ تَحْتَهُمَا
|
* |
قَلْبٌ يَرَى إِلْفَهُ الْأَعْيَادَ وَالْجُمَعَا
|
الْعِيدُ لِي مَأْتَمٌ إِنْ غِبْتَ يَا أَمَلِي َ |
* |
وَالْعِيدُ مَا كُنْتَ لِي مَرْأًى وَمُسْتَمَعَا
|
أَحْرَى المَلَابِسِ أَنْ تَلْقَى الْحَبِيبَ بِهِ
|
* |
يَوْمَ التَّزَاوُرِ بِالثَّوْبِ الَّذِي خَلَعَا
|
وقال }: العامة إذا خُوِّفُوا خَافوا, وإذا رُجوا رَجَوْا, والخاصة متى خُوِّفوا رَجَوْا, ومتى رجوا خافوا.
ومعنى كلام الشيخ هذا: أنَّ العامة واقفون مع ظواهر الأمر, فإذا خوفوا خافوا؛ إذ ليس لهم نفوذ إلى ما وراء العبارة بنور الفهم كما لأهل الله، وأهل الله إذا خُوِّفُوا رَجُوا، عالِمِين أن من وراء خوفهم وما به خُوِّفُوا أوصاف المَرْجُوِّ الذي لا ينبغي أن يقنط من رحمته ولا أن يُؤَيِّسَ من منته، فاحتالوا على أوصاف كرمه؛ علمًا منهم أنه ما خَوَّفَهُم إلا لِيَجْمَعَهُم عليه, وليردهم بذلك إليه، وإذا رُجوا خافوا، يخافون غيب مشيئته الذي هو من وراء رجاهم, وخافوا أن يكون ما أظهر من الرجاء اختبار لعقولهم, هل تقف على ظاهر الرجاء، أو تنفذ إلى ما بطن في مشيئته؛ فلذلك استثارَ الرجاءُ خوفَهم وحكمَهم في القبض والبسط, كما قال الشيخ في الخوف والرجاء، غير أن البسط مَزِلَّةُ أقدام الرجاء؛ فهو موجب لمزيد حذرهم وكثرة لجأهم، قال بعضهم: «فتح لي باب من
البسط فانبسطت، فحجبت عن مقامي ثلاثين سنة».
وكان الشيخ أبو العباس } يُنشد شعرًا:
وَاقْطَعِ السَّيْرَ إِلَيْهِ وَمِيلَا
|
* | فَإِذَا مَا نِلْتَ مِنْهُ وُصُولَا |
فَاقْرَعِ الْبَابَ قَلِيلًا قَلِيلَا |
* |
وَاحْذَرِ الْبَسْطَ وَنَادِي يَا مُجِيبْ
|
مِنْ عَلَى بُعْدٍ يُنَادِي مِنْ قَرِيبْ
|
فقوله: «واحذر البسط»؛ لما قدمناه؛ فإنه رزق من الأنوار بسط، فيخشى على العبد أن يبغيه وجوده، قال الله سبحانه: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ...﴾([7]).
والقبض أقرب إلى وجود السلامة؛ لأنه وطن العبد؛ إذ هو في أَسْرِ قبضة الله، وإحاطة الحق محيطة به، ومن أين يكون للعبد البسط وهذا شأنه! والبسط خروج عن حكم وقته, والقبض هو اللائق بهذه الدار؛ إذ هي وطن التكليف وإبهام الخاتمة, وعدم العلم بالسابقة والمطالبة بحقوق الله تعالى.
وأخبرني بعض الصوفية، قال: رأى شيخنا شيخه في المنام بعد موته مقبوضًا, فقال له: «يا أستاذ، ما لَك مقبوضًا؟!» قال له: «يا بني، القبض والبسط مقامان، من لم يوفهما في الدنيا وَفَّاهُمَا في الآخرة», وكان هذا الشيخ الغالب عليه في حياته البسط, وقوله: «من على بعد»؛ أي من شهود عدم استحقاق الإجابة، أو «من على بعد من دعوا»؛ أي لأضاف الربوبية، أو «من على بعد»: بوجود شهود الإساءة.
وقال الشيخ الحسن: ما طلبت من الله حاجة إلا قطعت إساءتي أمامي.
فإن قلت: فحديث الثلاثة الذين دخلوا الغار, فانحطت عليهم صخرة فسدت باب الغار, فقالوا: «ليذكر كل واحد منكم أرجى عمله»؛ فذكر أحدهم بِرَّه بأبويه, والآخر عفافه عن ابنة عمه مع حبه إياها والتمكن منها، وذكر الآخر تثميره لأجر أجيرٍ أجرَه، فلما وجده دفع ذلك كله إليه؛ فكشف الله ما نزل بهم، وزالت الصخرة عن فم الغار فخرجوا، [هذا معنى الحديث مختصرًا، رواه مسلم والبخاري في صحيحيهما وغيرهما من الأئمة].
فالعلم أن هؤلاء الثلاثة لم يذكر طاعتهم إلا وقد شهدوها فضلًا من الله عليهم, فتوسلوا إلى نعمته بنعمته، كما أخبر الله عن زكريا: ﴿...وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾([8]).
فتوسل إلى الله بسابق حسن عوائده فيه، وسألت امرأة بعض الملوك فقالت: «إنك أحسنت إلينا عام أول, ونحن محتاجون لإحسانك إلينا العام»، فقال: «أهلًا بمنن توسل لإحساننا بإحساننا», وأعطاها وأجزل لها العطاء.
ومن فتح له هذا الباب جاز له الإخبار بطاعته ووجود معاملته؛ لأنه حينئذ متحدث بنعم الله سبحانه.
وقد كان بعض السلف يصبح, فيقول: «صليت البارحة كذا وكذا ركعة، وتلوت كذا وكذا سورة», فيقال له: «أما تخشى من الرياء؟»، فيقول: «ويحكم! وهل رأيتم من يرائي يفعل غيره!»، وكان يفعل مثل ذلك، فيقال له: «لم لا تكتم ذلك؟»، فيقول: «ألم يقل الحق سبحانه: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾([9]) وأنتم تقولون لا تتحدث!».
وقال }: كان الإنسان بعد أن لم يكن، وسيفنى بعد أن كان، ومن كلا طرفيه عدم؛ فهو عدم.
ومعنى كلام الشيخ هذا أن الكائنات لا يثبت لها رتبة الوجود المطلق؛ لأن الوجود الحق، إنما هو لله، وله الأحديه فيه, فالعدم وصفه في نفسه.
وقد قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي }: الصوفي من يرى الخلق لا موجودين ولا معدومين، حسب ما هم عليه في علم رب العالمين.
وقال أيضًا -وقد تقدم-: إنَّا لا نرى أحدًا من الخلق، هل في الوجود أحد سوى الملك الحق؟ وإن كان لا بد كالهباء في الهواء، إن فتشته لم تجدْ شيئًا.
وفي كتاب «الحكم»، من كلامنا: «العوالم ثابتة بإثباته، ممحوة لأحديته ذاته».
وقال الشيخ أبو الحسن }: كان لي صاحب كثيرًا ما يأتيني بالتوحيد, فقلت له: إن أردت التي لا لوم فيها؛ فليكن الفرق على لسانك موجودًا، والجمع في باطنك مشهودًا، وأشبه شيء بوجود الكائنات إذا نظرت إليها بعين البصيرة وجند الظلال، والظل لا موجود باعتبار جميع مراتب الوجود، ولا معدود باعتبار جميع مراتب العدم, وإذا ثبتت ظلية الآثار لم تنسخ أحديته المؤثر؛ إذ الشيء إنما يشنع بمثله, ويضم إلى شكله كذلك أيضًا من شهد ظلية الآثار لم تعوقه عن الله؛ فإن ظلال الأشجار في الأنهار لا تعوق السفن عن التَّسْيَار, من ها هنا يتبين لك أيضا أن الحجاب
ليس أمرًا وجوديًّا بينك وبين الله, ولو كان بينك وبينه حجاب وجودي؛ لَلَزِمَ أن يكون أقرب إليك منه، لا شيء أقرب من الله, فرجعت حقيقة الحجاب إلى توهم الحجاب، فما حجبك عن الله وجود موجود معه؛ إذ لا موجود معه، وإنما حجبك عنه توهم وجود معه, وذلك كرجل بات في مكان وأرد البراز, فسمع صوت الرياح في كُوَّةٍ هناك فظنه زئير الأسد, فمنعه ذلك عن البراز، فلما أصبح لم يجد هناك أسدًا، وإنما الريح انضغطت في تلك الكوة، فما حجبه وجود أسد, وإنما حجبه توهم الأسد.
وسمعته يقول: لو عذب الله الخلق أجمع لم ينلك من عذابهم شيء، ولو نَعَّمَهُم أجمع لم ينكل من نعيمهم شيء, فكأنك في الوجود وحدك.
ثم أنشد شعرًا:
أَنْتَ الْمُخَاطَبُ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ
|
* |
فَاجْنَحْ إِلَيْ يُلْمَحْ لَكَ الْبُرْهَانُ
|
وسمعته يقول: دخلت على الشيخ وفي نفسي أن آكل السخن وألبس الخشن، فقالي لي: «يا أبا العباس، اعرف الله وكن كيف شئت».
ودخل على الشيخ أبي الحسن فقير عليه ملابس شعر, فلما فرغ الشيخ من كلامه، دنا من الشيخ وأمسك ملبسه, وقال: «يا سيدي، ما عبد الله بهذا اللباس الذي عليك», فأمسك الشيخ ملبسه فوجد خشونته, فقال: «ولا عبد الله بهذا اللباس الذي عليك، لباسي يقول: أنا غني عنكم فلا تعطوني، ولباسك يقول: أنا فقير إليكم فأعطوني».
وهكذا طريق الشيخ أبي العباس } وشيخه أبي الحسن، وطريقة أصحابهما الإعراض عن لبس زي ينادي علي سِرِّ اللابس بالإفشاء, ويفصح عن طريقه بالإبداء، ومن لبس الزي فقد ادعى.
ولا تفهم -رحمك الله- أنَّا نعيب بهذا القول على من لبس زي الفقراء، بل قصدنا أنه لا يلزم كل من كان له نصيب مِمَّا للقول أن يلبس ملابس الفقراء؛ فلا حرج على اللابس ولا على غير اللابس إذا كان من المحسنين، ﴿...مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ...﴾ [التوبة:91]، وأما لبس اللباس اللين وأكل الطعام الشهي وشرب الماء البارد -فليس القصد إليه بالذي يوجب العتب من الله إذا كان معه الشكر لله.
وقد قال الشيخ أبو الحسن: «يا بني، برد الماء؛ فإنك إذا شربت الماء السخن، فقلت: الحمد لله. تقولها بكزازة، وإذا شربت الماء البارد، فقلت: الحمد لله؛ استجاب كل عضو فيك بالحمد لله», ﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ...﴾ [القصص:24]،
ألا ترى كيف تولى إلى الظل قصد الشكر لله على ما يناله من النعمة!.
وسمعته يقول: اختلف الناس في اشتقاق الصوف, فمنهم من قال: هو منسوب إلى الصوف؛ لأنه لباس الصالحين.
وقيل هو منسوب إلى الصُّفَّة؛ يعني صفة مسجد رسول الله > التي نسب إليها أهل الصفة, وهو نسب على غير قياس.
ثم قال: وأحسن ما قيل فيه انه منسوب لفعل الله به؛ أي صافاه الله فصوفي, فسمي صوفيًا.
ثم أنشد شعرًا:
تَخَالَفَ النَّاسُ فِي الصُّوفِيِّ وَاخْتَلَفُوا |
* | وَكُلُّهُم قَالَ قَوْلًا ًغَيْرَ مَعْرُوفِ |
وَلَسْتُ أَمْنَحُ هَذَا الاسْمَ غَيْرَ فَتًى |
* | صَافَى فَصُوفِيَ حَتَّى سُمِّيَ الصُّوفِي |
وسمعته يقول: الصوفي مركب من حروف أربعة: بالصاد والواو والفاء والياء:
- فالصاد: صبره، وصدقه، وصفاؤه.
- والواو: وجده، ووده، ووفاؤه.
- والفاء: فقده، وفقره، وفناؤه.
- والياء: ياء لنسبه، إذا تكمل فيه ذلك أضيف إلى حضرة مولاه.
وسألته } عن قول عيسى —: «يا بني إسرائيل، بحق أقول لكم، لا يلج ملكوت السماوات من لم يولد مرتين»، فقال }: «أنا -واللهِ- مِمَّن ولد مرتين، الإيلاد الأول إيلاد الطبيعة, والإيلاد الثاني إيلاد الروح في سماء المعارف».
وسمعته يقول: «ولن يصل الولي إلى الله حتى تنقطع عنه شهوة الوصول إلى الله تعالى».
وقال الشيخ أبو الحسن: «ولن يصل الولي إلى الله ومعه شهوة من شهواته، أو تدبير من تدبيراته, أو اختيار من اختياراته».
معنى كلام الشيخ أنه لن يصل الولي إلى الله حتى تنقطع عنه شهوة الوصول إلى الله؛ أي انقطاع أدب لا انقطاع ملل، يغلب عليه التفويض إلى الله, وشهود حسن الاختيار منه فيلقي القياد إليه, ويترك نفسه سَلَمًا بين يديه؛ فلا يختار مع مولاه شيئًا؛ لعلمه بما في الاختيار مع الله من الآفات، ولنا في هذا المعنى في قصية ذكرناها في كتاب «التنوير»([10]):
وَكُنْ عَبْدَهُ وَالْقِ القِيَادَ لِحُكْمِهِ |
* | وَإِيَّاكَ تَدْبِيرًا فَمَا هُوَ نَافِعُ |
أَتَحْكُمُ تَدْبِيرًا وَغَيْرُكَ حَاكِمٌ |
* | وَأَنْتَ لِأَحْكَامِ الْإَلهِ تُنَازِعُ! |
فَمَحْوُ إِرَادَاتٍ وُكُلِّ مَشِيئَةٍ
|
* |
هُوَ الْغَرَضُ الْأَقْصَى فَهَلْ أَنْتَ سَامِعُ؟
|
كَذَلِكَ سَارَ الْأَوَّلُونَ فَأَدْرَكُوا
|
* |
عَلَى إِثْرِهِمْ فَلْيَمْشِ مَنْ هُوَ تَابِعُ
|
وقال }: اعلم أنَّ الله خلق الآدمي وقسمه على ثلاثة أجزاء: لسانه جزء, وجوارحه جزء، وقلبه جزء، وجعل على كل جزء حفيظًا، فقال: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾([11])، وقال تعالى: ﴿...وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ...﴾([12])، وتولى حفظ القلب بنفسه، فقال: ﴿...وَاعْلَمُوا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ...﴾ [البقرة:235]، وسلط على الجوارح الشيطان, فاقتضى من كل جزء وفاء ما أُلْزِمَ به:
- فوفاء القلب ألَّا يشتغل بِهَمِّ الدنيا ولا بمكر ولا حسد.
- ووفاء اللسان ألَّا يغتاب ولا يكذب ولا يتكلم إلا بما يعنيه.
- ووفاء الجوارح ألَّا يسارع بها إلى معصية، ولا يؤذي أحدًا من المسلمين.
فم وقع من قلبه فهو منافق، ومن وقع في لسانه فهو كافر، ومن وقع من جوارحه فهو عاصٍ.
وقال }: صلاح العبد في ثلاثة أشياء: معرفة الله, ومعرفة النفس, ومعرفة الدنيا؛ فمن عرف الله خاف منه، ومن عرف الدنيا زهد فيها، ومن عرف النفس تواضع لعباد الله.
وقال: قال لي شيخي: لا تصحب إلا من يكون فيه أربع خصال: الجود في القلة, والصفح عن الظَّلَمَة, والصبر على البلية, والرضى بالقضية.
وقال }: من اشترى زيتًا من بياع, فلما فرغ قال: «زدني قليلًا» فزاده البياع خيطًا من زيت، فدينه أرق من ذلك الخيط، ومن اشترى فحمًا, فلما فرغ قال: «زدني» فزاده فحمة فقلبه أسود من تلك الفحمة.
قال }: الناس على ثلاثة أقسام: قوم غلبت حسناتهم سيئاتهم فهم في الجنة قَطْعًا، وقوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فلا يدخلون النار قطعًا، وقوم غلبت سيئاتهم حسناتهم فلا يخلدون في النار قطعًا.
وقال }: الدخول في الجنة بالإيمان، والخلود فيها بالنية، والدرجات فيها بالأعمال، والدخول في النار بالشرك، والخلود فيها بالنية، والدركات فيها بالأعمال.
وقال }: لا يدخل على الله إلا من بابين: من باب الفناء الأكبر وهو الموت الطبيعي، أو من باب الفناء الذي تعنيه هذه الطائفة.
وقال }: الكائنات على أربعة أقسام: جسم كثيف، وجسم لطيف,
وروح شفاف، وسر غريب.
فالجسم الكثيف بمجرده حيوان، والحسم اللطيف بمجرده جان, والروح الشفاف بمجرده ملك، والسر الغريب هو المعنى المسجود له.
فالآدمي بظاهر صورته جماد، وبوجود نفسه وتخليها وتشكلها جان, وبوجود روحه ملك، وأعطي زائدًا على ذلك السر الغريب؛ فلذلك استحق أن يكون خليفة.
وقال }: ليس العجب مِمَّن تاه في نصف ميل أربعين سنة، إنما العجب مِمَّن تاه في مقدار شبر ستين أو سبعين سنة، وهي البطن.
وقال }: الأدنى يشرف على الأعلى ولا يحيط به, والأعلى يحيط بالأدنى؛ فالأولياء لهم أشرف على مقامات الأنبياء, وما لهم الإحاطة بمقاماتهم، والأنبياء يحيطون بمقامات الأولياء.
وقال } في قول بعض السلف: «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينًا»: أي لو كُشِفَ الغطاء للنفس لم أَزْدَدْ يقينًا فيما طالعه القلب.
وقال }: جميع أسماء الله تعالى إذا أسقطت منه حرفًا أذهبت دلالته على الله، كـ «العليم» و«القادر» و«الرحيم», وغير ذلك من أسمائه الحسنى إلا اسم «الله»؛ فإنك إذا أسقطت الألف بقي «لله»، وإذا أسقطت اللام الأولى بقي «له»، وإذا أسقط اللام الثانية بقي «هو»، وهو النهاية في الإشارة، وأنشد الحسين بن منصور الحلاج شعرًا:
أَحْرُفٌ أَرْبَعٌ بِهَا هَامَ قَلْبِي
|
* | وَتَلَاشَتْ بِهَا هُمُومِي وَفِكْرِي |
أَلِفٌ أَلَّفَ الْخَلَائِقَ بِالصُّنْعِ
|
* | ثُمَّ لَامٌ عَلَى الْمُلًامَسَةِ تَجْرِي |
ثُمَّ لَامٌ زِيَادَةً فِي الْمَعَانِي
|
* | ثُمَّ هَاءٌ بِهَا أَهِيمُ أَتَدْرِي |
وقال }: كُشِفَ لي عن أرواح الصديقين صاعدة نحو الملأ الأعلى، فإذا «علي» يقال لي:
وَمَا جَبُنَتْ ْخَيْلِي وَلَكِنْ تَذَكَّرَتْ
|
* | مَرَابِضَهَا مِنْ بَرْبَعِيصَ ومَيْسَرَا |
أي إنها ما فَرَّتْ جبنًا من الخلق، ولكنها تذكرت أوطان تعريف، وقال }: «الوحي إلقاء معنى في خفاء».
وقال }: جميع أسماء الله للتخلق إلا اسمه «الله»؛ فإنه للتعلق.
ومعنى كلام الشيخ هذا:
أنك إذ ناديته: «يا حليم», خاطبك من اسمه «الحليم»: «أنا الحليم»؛ فكن عبدًا حليمًا.
وإذا ناديته من اسمه «الكريم» ناداك من اسمه «الكريم»: «أنا الكريم»؛ فكن عبدًا كريمًا.
وكذلك في سائر أسمائه إلا اسم «الله»؛ فإنه
للتعلق فحسب؛ إذ مضمونه الإلهية، والإلهية لا يُتَخَلَّقُ بها أصلًا.
وقال }: السماء عندنا كالسقف والأرض كالبيت، وليس الرجل عندنا من يحصره هذا البيت.
وقال }: نحن في الدنيا بأبداننا مع وجود أرواحنا، وسنكون في الآخرة بأرواحنا مع وجود أبداننا.
وسمعته يقول: الفرق بين معصية المؤمن ومعصية الفاجر، من ثلاثة أوجه:
- المؤمن لا يعزم عليها قبل فعلها.
- ولا يفرح بها وقت الفعل.
- ولا يُصِرُّ عليها بعد الفعل.
والفاجر ليس كذلك.
وقال } لبعض أصحابه: ليَكُنْ ذكرك «الله»، فإن هذا الاسم سلطان الأسماء، وله بساط وثمرة، وبساطه العلم، وثمرته النور، ثم النور ليس مقصودًا لنفسه، وإنما يقنع به الكشف والعِيان.
وجاء رجل فقيل له: يا سيدي، هذا فتى. فقال الشيخ: أنت فتى؟ قال: نعم. فقال الشيخ: ما تدري ما الفتوة، ليست الفتوة الماء والملح، وإنما الفتوة الإيمان والهداية، قال سبحانه وتعالى: ﴿...إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾([13]).
والفتى كما قال الله عن إبراهيم: ﴿...سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾([14])، فسمي فتى لأنه كسر الأصنام؛ فهو فتى.
الخليل — وجد أصنامًا حسية فكسرها، وأنت لك أصنام معنوية فإن كسرتها كنت فتى، ولك أصنام خمسة: النفس والهوى والشيطان والشهوة والدنيا، فإن كسرتها فأنت الفتى، وافهم ها هنا: «لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي».
وسئل }: لِمَ بدأ صاحب «الرسالة» بإبراهيم بن أدهم دون غيره، وربما كان غيره متقدمًا عليه في التاريخ؟.
فقال الشيخ }: لأنَّ إبراهيم كان من ملوك الدنيا، فأصبح وهو كذلك، فجاء وقت الظهر وهو من كبار الأولياء؛ فبدأ به صاحب الرسالة ليُعْلَمَ أن فضل الله ليس بعمل.
وقال }: عبد هو في الحال بالحال، وعبد هو في الحال بالمُحَوِّل، فالذي هو في الحال بالحال عبدُ الحال، والذي هو الحال بالمُحَوِّل عبد المحول، وأمارة من هو في الحال بالحال أن يأسى عليها إذا فقدها، ويفرح بها إذا وجدها، والذي هو في الحال بالمُحَوِّل لا يفرح إذا وُجِدَتْ، ولا يحزن عليها إذا فُقِدَتْ، ومعنى كلام الشيخ هذا أن من تحقق بالله ملك الأشياء،
ولم تملكه، فيصير الحال قهر تصريفه، وإنما يكون ذلك الرجل لرسوخه في العلم بالله، والعلم حاكم على الحال وبه يوزن، والحال إنما هو فرع من فروع العلم، والعلم قَارٌّ ثابت، والحال لا بقاء له؛ ولذلك قالوا:
لَوْ لَمْ تَحُلْ مَا سُمِّيتَ حَالَا |
* | وَكُلُّ مَا حَالَ فَقَدْ زَالَا |
انْظُرْ إِلَى الظِّلِّ إِذَا مَا انْتَهَى |
* | يَأْخُذُ فِي النَّقْصِ إِذَا مَالَا |
والأكابر مَلَّكَهُمُ الله أحوالهم، وجعلهم حاكِمِين عليها، ومن هنا لما قيل للجنيد }: «ما لنا نرى المشايخ يتحركون في السماع، وأنت لا تتحرك!».
فقال: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ...﴾ [النمل:88].
وقيل لبعضهم: «ما لَكَ لا تتحرك في السماع؟!».
فقال: «إنه إذا كان في الجمع كبير احتشمت منه فأمسكت على وجدي، فإذا خلوت وحدي أرسلت على وجدي فتواجدت».
فانظر كيف كان زمام حاله، يمسكها إذا شاء ويطلقها إذا شاء، اتسع القلب بمعرفة الله، غرقت فيه الواردات، وإنما يبدأ أثر الحال على من ضاق عن وسعها.
والعارف له وسيع المعرفة، فإذا ورد الوارد عليه غرق في وسيع معرفته، وهل رأيت بحرًا فاض بمطر سحاب!.
ولهذا جعلت أحوال الأكابر أرباب المقامات، واشتهر أهل الأحوال لظهور آثار المواهب عليهم لضعفهم عن كتمها لضيقهم عن وسعها، فربما كان صاحب الحال أحظى بإقبال الخلق من صاحب المقام، وبينه وبينه مثل ما بين السماء والأرض، وكلما تَمَكَّنَ الرجل في العلوم الإلهية والمعارف الربانية استغرب في هذا العالم، فيقال: «من يعرفه؟»، ويفقد من يحيط به فيصفه.
وقال }: كل سوء أدب يثمر لك أدبًا فهو أدب.
وقال }: المؤمن لا يرضى عن نفسه بالخير إذا كان فيه؛ لأن فوق الخير خيرات، أتراه يرضى بالشر!!.
وقال }: كان الجنيد قطبًا في العلم، وكان سهل بن عبد الله التُّسْتَرِىُّ قطبًا في المقام، وكان أبو يزيد البسطامي قطبًا في الحال.
وقال }: اللطف حجاب عن اللطف.
ومعنى كلام الشيخ هذا: أن اللطف إذا ورد على العبد؛ فإن كان في الدائرة النفسانية تلقته النفس بالبشاشة والفرح، وإذا كان في الدائرة المعنوية تلقته الروح بالمحبة والمتعة، ويقع الميل ويكون عن الميل السكون، ويكون مع السكون الأنس بالمسكون؛ أي والله لا يحب لك أن تسكن لغيره، ولا أن تأنس بشيء دونه؛ فلذلك قال الشيخ }: اللطف
حجاب عن اللطيف إلى السكون إليه والإقامة عنده، وهذا كما تقدم عن الشيخ أبي الحسن أنه دخل على بعض الرجال، فقال له: «كيف حالك؟»، فقال: «أشكو إلى الله من برد الرضى والتسليم، كما تشكو إليه من حر التدبير والاختيار»، فقال له الشيخ: «أما شكواك من حر التدبير والاختيار فقد ذقته، وأما شكواك من برد الرضى والتسليم، فكيف؟» فقال: «أخاف أن تشغلني حلاوتهما عن الله».
وأوحى الله إلى موسى —: «يا موسى، نعم العبد نوح لولا أنه يسكن لنسيم الأسحار، ومن عرفني لا يسكن لغيري».
وكان عندنا بالإسكندرية امرأة عارفة بالله، أخبرتني أنها سمعت يقال لها: «أعوذ بك من النور وفتنته، ومن الغيب وتلقنه».
وأخبرتني أيضًا قالت: كنت أمشي بالإسكندرية، وإذا بناس في لهوهم وطربهم؛ فقلت في نفسي: «هؤلاء في فرح ومسرة، وحلم الله من ورائهم، ونحن في مقاساة النوازل وقهر الأحكام»، قالت: فإذا علي يقال لي: «ليس أهل الحضرة والأدب كأهل اللهو والطرب».
وأخبرتني أيضًا قالت: كنت إذا كنت في حضرة أو موقف، وأرادني زوجي ليقضي أربه لا أمنعه، ولا يستطيع ذلك كلما أراد مني أمرًا عجز عنه، قالت: حتى يضيق خلقه، ويقول: «ما هذه إلا حسرة، هذه الشابة في حسنها بين يدي لا تمتنع عني، ولا أصل إليها»، فتقول له: «في ذلك الوقت من هو الرجل فينا، ومن هي المرأة فينا!»، قالت: «إذا وقت ستر أمكنه ما يريد».
وقال الواسطي: «استجلاء الطاعات سموم قاتلة»، وصدق }، وأقل ما في ذلك أنك إذا فتح لك باب حلاوة الطاعة، تصير قائمًا فيها متطلبًا لحلاوتها، فيفوتها صدق الإخلاص في نهوضك لها وتحت دوامها، لا قيامًا بالوفاء، ولكن لما وجدت فيها من الحلاوة والمتعة، فتكون في الظاهر قائمًا لله، وفي الباطن إنما قُمْتَ لحظ نفسك، ويخشى عليك أن تكون حلاوة الطاعة جزاءً تعجلته في الدنيا، فتأتي يوم القيامة ولا جزاء لك.
وقال }: لما قرأت عليه كتاب «الحقائق» للسلمي، فقال فيه: «انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة»، فقال الشيخ عن الشيخ أبي الحسن رضي الله عنهما: «ولا حيرة عند المحققين فيما فيه الحيرة عند المؤمنين».
وقال }: الناس على ثلاثة أقسام:
- عبد هو بشهود ما منه إلى الله.
- وعبد هو بشهود ما من الله إليه.
ومعنى كلام الشيخ هذا: أن من الناس من يكون الغالب عليه شهود تقصيره وإساءته، فيقوم مقام المعتذر بن يدي الله تعالى، وتلازمه الأحزان، وتحالفه الأشجان، ويستولي عليه الكمد كلما بدت منه سيئة، أو كشف له من نفسه عن أوصاف سوء.
- وعبد آخر الغالب عليه شهود ما من الله إليه من الفضل والإحسان والجود والامتنان؛ فهذا تلازمه المسرة بالله والفرح بنعمة الله، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾([15]).
فالأول: حال الزُّهَّاد والعُبَّاد. والثاني: حال أهل العناية والوداد.
الأول: شأن أهل التكليف. والثاني: شأن أهل التعريف.
الأول: حال أهل اليقظة. والثاني: حال أهل المعرفة.
فلذلك قال الشيخ أبو الحسن: العارف من عرف شدائد الزمان في الألطاف الجارية من الله عليه، وعرف إساءته في إحسان الله إليه، ﴿...فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾([16]).
وقال أيضًا: قليل العمل مع شهود المنة من الله، خير من كثير العمل مع رؤية التقصير من النفس.
وقال بعض أهل المعرفة: لا يخلو شهود التقصير من الشرك في التقدير.
وقال الشيخ أبو الحسن: قرأت ليلة من الليالي: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾([17]).
حتى ختمتها، فقيل لي: «شر الوسواس وسواس يدخل بينك وبين حبيبك، ينسيك الطاقة الحسنة، ويذكرك بأفعاله السيئة، ويقلل عندك ذات اليمين، ويكثر عندك ذات الشمال؛ ليعدل بك عن حسن الظن بالله ورسوله إلى سوء الظن بالله ورسوله.
فاحذر هذا الباب؛ فقد أخذ منه كثير من الزهاد والعباد، وأهل الجد والاجتهاد؛ ولذلك قَلَّ أن نجد الزاهد والعابد مكمودًا حزينًا؛ لأنه عَلِمَ أنَّ الله طالبه بالعبودية، وحَمَّلَه أعباءها، وألزمه ما أشفقت السماوات والأرض والجبال من حمله، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾([18]).
فعاين الزهاد ثقل ما حملوا، ولم ينفذوا إلى شهود لطف الله الحامل للأثقال عن عباده المتوكلين عليه؛ فلذلك لزمهم الكمد، واستولى عليهم
الحزن، وأهل المعرفة بالله علموا أنهم حُمِّلُوا من التكليف أمرًا عظيمًا، وعلموا ضعفهم عن حمله والقيام به متى وُكِّلُوا إلى نفوسهم، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿...وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾([19])، وعلموا أنهم إذا رجعوا إلى الله حمل عنهم ما حَمَّلَهُم، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿...وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ...﴾([20]).
فرجعوا إليه بصِدْقِ الرُّجْعَى، فحمل الأثقال عنهم، فساروا إلى الله محمولين في مَحَفَّاتِ المنن، مُرَوَّحٌ عليهم بنفحات اللطف، والآخرون ساروا إلى الله، لأثقال التكاليف حاملين، تلازمهم المشتقات، وتطول بهم المسافات، فإذا شاء أدركهم بلطفه، فأخذ بأيديهم من شهود معاملتهم إلى شهود سابق توفيقه لهم؛ فطابت لهم الأوقات، وأشرقت فيهم العنايات.
وأما القسم الثالث: وهم الذين مع الله بشهود ما من الله إلى الله؛ فهؤلاء هم أهل التوحيد، والداخلون إلى ميادين التفريد، رأوا أهل القسم الأول، وهم الذين غلب عليهم شهود ما منهم إلى الله، لم يخرجوا عن باطن الشرك وإن خرجوا عن ظاهره؛ لأنهم أقبلوا على أنفسهم موبخين لها، شاهدين لتقصيرهم وإساءتهم.
فلو لم يشهدوا الفعل لها أو منها ما توجهوا لها بالتوبيخ إذا قصرت؛ فلذلك قال ذلك العارف الذي سبق قولًا: «لا يخلو شهود التقصير من الشرك في التقدير»، فإن قلت: إذا كان توبيخ النفس وذمها يستلزم دقيقة شرك، فكيف تصنع والله قد ذَمَّ النفس وأمرنا بتوبيخها إذا قصرت، ووبخها هو إذا كانت كذلك؟.
فالجواب: أن ذَمَّهَا لأن الله تعالى أمرك بذَمِّهَا من غير أن تشهد لها قدرة، أو تضيف إليها فعلًا تراها هي الفاعلة.
وأما القسم الثاني: وهو الذي بشهود ما من الله إليه، وإن كان خيرًا من القسم الأول، لكنه ما سَلِمَ من إثبات نفسه؛ إذ رأى نفسه مهداة إليها هدايا الحق، فلولا إثباته لنفسه ما شهد ذلك، فلأجل هذين المعنيين آثر أهل الله القسمَ الثالث، وهو أن يكون بشهود ما من الله إلى الله، فافهم.
وقال }: «العارف إذا خُوِّفَ خاف»، قال الله تعالى حكاية عن موسى —: ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ...﴾ [الشعراء:21]، يريد الشيخ } أن العارف لا يقطعه نظره إلى فضل الله عن شهود عدله، ولا يحجبه شهود لطفه عن خوف ما بطن في مشيئته.
ويجب أن تعلم أن أهل المعرفة في نهاياتهم، ربما التبس حالهم بأهل البدايات في بداياتهم؛ فإن المريد في مبدأ إرادته تؤثر فيه المخاوف لعدم استيلاء سلطان الحقيقة عليه، فإذا تحقق فناؤه لم تُؤَثِّرْ فيه الواردات، ولم يدخل تحت حكم العادات، فإذا رُدَّ إلى حالة البقاء أَثَّرَتْ الأشياء فيه كحاله في بدايته، ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ...﴾([21]).
فتجد المريد يُخَوَّفُ فيخاف، والعارف يُخَوَّفُ فيخاف، وليسا -وإن استويا في الظاهر- سواء؛ فخوف المريد لأجل حجته، وخوف العارف لكمال معرفته، ومن هنا لا نُفَضِّلُ عبدًا واثقًا بلطفه ومنته على خائف من غيب مشيئته، وكذلك لا نفضل عبدًا وقف مع ظاهر الوعد على عَبْدٍ رُدَّ إلى وجود الأزلية، فاقتطع عن الوقوف مع الوعد الجميل والنعم، ورُدَّ إلى ما سبق في القدم.
وقد جاء أنَّ رسول الله > قال يوم بدر، ورفع يديه إلى السماء: «اللهم إن تُهلك هذه العصابة لا تُعْبَدَ»([22])، وما زال يناشد ربه حتى سقط الرداء عن منكبيه، فقال أبو بكر }: «يكفيك مناشدتك لربك يا رسول الله؛ فإنه مُنْجِزٌ لك ما وعدك».
فالرسول > لكمال علمه بالله كان بشهود المشيئة، وأبو بكر كان بشهود الوعد الجميل؛ فالرسول > علم ما علمه أبو بكر من الوعد الجميل، كيف والوعد إنما وصل لأبي بكر على يد رسول الله >! غير أنه سلك الله به المسلك الأتم من الرجوع إلى المشيئة التي لا تتوقف على شيء، ويتوقف عليها كل شيء.
وقال }: ليس الشأن من تطوى له الأرض، فإذا هو بمكة أو غيرها من البلدان، إنما الشأن من تطوى عنه أوصاف نفسه، فإذا هو عند ربه.
وقال } عن شيخه: خرج الزهاد والعباد من هذه الدار، وقلوبهم مقفلة عن الله.
وقال } عن شيخه: من لم يتغلغل في هذه العلوم مات مصرًّا على الكبائر وهو لا يعلم.
وسمعته يقول عن شيخه: كل شيء نهاك الله عنه فهو شجرة آدم، لَمَّا أكل من الشجرة نزل إلى الأرض للخلافة، وأنت إذا أكلت من شجرة النهي، لماذا تنزل إلى أرض القطيعة!.
وقال }: كان ببلاد المغرب ولي من الأولياء يتكلم على الناس، وكان باديًا، فجلس يومًا يتكلم على الناس، فقال له رجل مكشوف الرأس كبيره: «هذا يزهدنا في الدنيا، وهو كالدب!»، فكوشف به الشيخ، فقال من فوق المنبر: «يا أبا رويس ما سمتني الأحبة» ثم أنشد شعرًا:
وَقَائِلٍ لَسْتَ بِالْمُحِبِّ وَلَوْ |
* | كُنْتَ مُحِبًّا لَذُبْتَ مُذْ زَمَنِ |
أَحْبَبْتَهُ وَالْفُؤَادُ فِي حَرَقٍ |
* | لَمْ تَذُقِ الْحُبَّ كَيْفَ تَعْرِفُنِي |
أَحَبَّ قَلْبِي وَمَا دَرَى بَدَنِي |
* | وَلَو دَرَى مَا أَقَامَ فِي السِّمَنِ |
وقال }: عزم إنسان على الشيخ أبي الحسن }، فأتى إليه وأصحابه معه، فلما أكلنا عزمنا على الخروج ولم نشرب، فقال: «يا بخلاء! من بخل الصوفي أن يأكل ولا يشرب»، ثم قال: قال رسول الله >: «من سقى مؤمنًا شربة ماء مع وجود الماء؛ كان كمن أعتق سبعين من ولد إسماعيل»، ثم قال الشيخ: «إذا أكلتم طعام إنسان فاشربوا عنده؛ حتى ينال هذا الأجر العظيم».
قال }: دخلت يومًا على الشيخ أبي الحسن } فقال: إن أردت أن تكون من أصحابي فلا تسأل أحدًا، وإن أتاك شيء من غير المسألة فلا تقبلْه، فقلت في نفسي: كان النبي > يقبل الهدية، وقال: «ما أتاك من غير مسألة فخذه»، فقال الشيخ: كأنك تقول كان النبي > يقبل الهدية، وقال: ما أتاك من غير مسألة فقد أخذه النبي >، قال الله في ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالوَحْيِ﴾ [الأنبياء:45]، متى أوحى الله إليك! إن كنت مقتديًا به في الأخذ فكن مقتديًا به كيف تأخذ، كان > لا يأخذ شيئًا إلا ليثيب من يعطيه ويعوضه عليه، فإن تطهرت نفسك هكذا وتقدست فاقبل، وإلَّا فلا.
وقال لبعض أصحابه: لم تنقطع عني؟ قال: يا سيدي استغيث بك. فقال الشيخ }: ما استغنى أحد بأحد ما استغنى أبو بكر } بالنبي >، ولم ينقطع عنه يومًا واحدًا.
وقال }: إن الله لَمَّا خلق الأرض اضطربت، فأرساها بالجبال، قال
الله عز وجل: ﴿وَالجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾([23])، كذلك لما خلق الله النفس اضطربت ف أرساها بجبال العقل.
وقال } عن شيخه: الوقت ليل، والشأن في الليل الخمود والسكون حتى تطلع شمس المعرفة، أو قمر التوحيد، أو نجوم العلم؛ فيستضاء بها.
وقال }: يقول الله عز وجل: «ابن آدم، خلقت الأشياء كلَّها من أجلك، وخلقتك لأجلي؛ فلا تشتغل بما هو لك عَمَّنْ أنت له».
وقال }: الأكوان كلها عبيد مسخرة وأنت عبد الحضرة.
وسمعته يقول: حقيقة النية عدم غير المنوي.
وسمعته يقول: قال عيسى —: «يا بني إسرائيل، لا تقولوا العلم في السماء فمن ينزل به، ولا في الأرض فمن يصعد به، تأدبوا بآداب الروحانيين، وتخلقوا بأخلاق النبيين؛ أنبع لكم العلمُ من قلوبكم ما يغمركم ويغطيكم».
وقال }: نحن إذا أتانا مريد يدله شيء من الدنيا، لا نقول له: «اخرج عن دنياك وتعال»، ولكن ندعه حتى تترشح فيه أنوار المنة، فيكون هو الخارج عن الدنيا بنفسه، ومثل ذلك: قوم ركبوا سفينة، فقال لهم رئيسها: «غدًا تهب ريح شديدة، ولا ينجيكم منها إلا أن ترموا بعض أمتعتكم فارموا بها الآن»، فلا يسمع أحد قوله، فإذا هَبَّت العواصف كان الكَيِّسُ من يرمى متاعه بنفسه، كذلك إذا هبت عواصف اليقين يكون المريد هو الخارج عن الدنيا بنفسه.
وكان يحكي عن الشيخ عبد الرزاق الولي الكبير }: أن رجلًا من أهل المهدية أتاه، فقال الشيخ: «أرى عليك أثر نعمة، فمن أين أنت؟ وما قصتك؟»، فقال: «يا سيدي، كنت من أكابر المهدية وأعيانها، وأكثرها مالًا وعزًّا، فورد علينا رجل يدعي أنه من الدالين على الله، فجئت إليه وأنا متطلع محترق على الوصول إلى الله، فقال لي: إنك لا تصل إلى هذا الأمر حتى تخرج عن مالك كله، وحتى تُطَلِّقَ نساءك بتاتًا، وحتى تغير زيك؛ ففعلت ذلك فما ازداد قلبي إلا قسوة، فضاق صدري، وحِرْتُ في أمري، ولم أطق أن أقيم بالمهدية، وقد ذهب ما كنت فيه من المال والجاه، ولم أتعوض عن ذلك شيئًا في باطني، فجئت إلى هنا قاصدًا للحج»، فقال الشيخ عبد الرزاق:
«دعوا على غير بصيرة -قاتلهم الله- امكث عندنا»، فلما آن أوان الحج أرسله الشيخ مع بعض أهل الإسكندرية، فحج ثم رجع إلى الشيء بالإسكندرية، فلما جاء أوان السفر إلى المغرب، قال له الشيخ: «اذهب إلى بلدتك، فإذا وصلت إليها فإن الناس يسمعون بك ويخرجون إليك مسرعين، ويعرضون عليك الملابس والمراكب؛ فخذ أفضلها ملبسًا وأحسنها مركبًا، وادخل إلى المهدية، فما حُمِلَ إليك من الدنيا فاقبله، وسيعيد الله لك ما كان لك وأكثر منه، وتجد زوجاتك قد طَلَّقَهُنَّ أزواجهن فراجعهن، وتنال من العز والرفعة والغنى أكثر مما كنت فيه، فإذا تَكَمَّلَ لك ذلك كله؛ فتح الله عيني قلبك».
قال: فسافر الشيخ وأتى ساحل المهدية، فسمع الناس أن فلانًا أتى من المشرق وليس في البلدة إلا من له عليه يَدٌ ومعروف، فخرجوا يُهْرَعُونَ إليه بالملابس السَّنِيَّهْ والمراكب البهيَّهْ، فلبس أفضلها ملبسًا، ورَكِبَ أفضل مركبًا، ودخل المهدية؛ فأُهْدِيَتْ له الهدايا، وحُمِلَتْ إليه التحف والأموال، ووجد زوجاته قد طلقهن أزواجهن، وانقضت عدتُهن فراجعهن، فتَكَمَّلَ له جميع ما وعده الشيخ به في ذلك اليوم، ثم فتح عيني قلبه، وتكلم يومًا في فضائل أبي بكر }، فقال: قال رسول الله >: «ما فضلكم أبو بكر بصوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره»([24])، ثم قال: «ما هو هذا الشيء الذي وقر في صدره؟»، فقال بعض الحاضرين: «المراقبة»، فقال الشيخ: «هذا كلام قشور، مَنْ دون أبي بكر الصديق في الرتبة إذا وجد المراقبة يستغفر الله منها كما يستغفر العاصي من المعصية؛ وذلك أنه أضاف المراقبة لنفسه، كأنه يقول: أنت الرقيب وأنا الرقيب، ﴿أَإِلَهٌ مَعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النمل:63].
وقال } يوصي بعض أصحابه لمَّا عزم على الحج: إذا وصلت إلى البيت، فلا يكن همك البيت، وليكن همك رب البيت، لا تكن ممن يعبد الأوثان والأصنام.
وقال }: من عرف الله لم يسكن إلى الله؛ لأن في السكون إلى الله ضربًا من الأمن، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
ومثل هذا ما قال الشيخ أبو الحسن >: قيل لي: «لا تأمن مكري في شيء وإن أَمَّنْتُكَ؛ فإن علمي لا يحيط به محيط»، وهكذا كانوا.
وكان يقول: إن الولي في فنائه لا بد أن يبقى معه لطيفة علمية، عليها
يترتب التكاليف، وذلك كما يكون الإنسان في البيت المظلم؛ فهو عالم بوجوده وإن كان غير شاهد له.
وكان يقول: واللهِ ما جلست حتى كان الطيران في الهواء، والمشي على الماء، وطي الأرض -تحت سجادتي.
وقال } وقد قرأت عليه «الرعاية» للمحاسبي: «ما في هذا الكتاب يغني عنه كلمتان: اعبد الله بشرط العلم، ولا ترض عن نفسك بشيء»، ثم لم يأذن لي في قراءته بعد.
وسئل }: عن بعض المشايخ الكائنين في وقته، فقال: «ضَيَّقَ عليه الورع، ونحن وَسَّعَ الله علينا بالمعرفة».
وكان يقول في قول بعض أهل الطريق: العارف وسعته المعرفة، والورع ضيق عليه التورع، لا تظنن أن قولهم: «العارف وسعته المعرفة» أن يأكل حرامًا أو ما فيه شبهة، ولكن العارف ذو بصيرة منيرة، تكشف له ما غطى عن الورع، فيمد يده إلى الطعام؛ لعلمه بحله وسلامته من الشبهة على ما أشهدته بصيرته، والورع مستورد ذلك عنه؛ فلذلك ربما مَدَّ العارف يده إلى ما قبض المستورع يده عنه.
وكان } يقول: من اشتاق إلى لقاء ظالم؛ فهو ظالم.
وكان } يفضل الغني الشاكر على الفقير الصابر، وهو مذهب ابن عطاء وأبي عبد الله الترمذي الحكيم، ويقول: الشكر صفة أهل الجنة، والصبر ليس كذلك.
وسمعته يقول: القبض على قسمين: قبض له سبب، وقبض لا سبب له؛ فالقبض الذي له سبب يكون للعموم والخصوص، والقبض الذي لا سبب له لا يكون إلا لأهل التخصيص.
قال }: الشكر انفتاح القلب لشهود منة الرب، يقال: «شكر» ومقلوبة «كشر»، يقال: «كشرت الدابة» إذا كشفت عن أسنانها، وقال بعض العارفين: «لو علم الشيطان طريقًا توصل إلى الله أفضل من الشكر لوقف فيها، ألا تراه كيف قال: ﴿ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾([25])،
ولم يقل: «ولا تجد أكثرهم صابرين»، ولا «خائفين» ولا «راجين»؟.
ولما اجتمعُت بالسلطان الملك المنصور لاجين رحمة الله، قلت له: يجب عليكم الشكر لله؛ فإن الله سبحانه قد قرن دولتكم بالرخاء، وانشرحت قلوب الرعايا، والرخاء أمر لا يستطيع الملوك تَكَسُّبُه ولا استجلابه، كما يتكسبون العدل والجود والعطاء. قال: وما هو الشكر؟ قلت: الشكر على ثلاثة أقسام: شكر اللسان، وشكر الأركان، وشكر الجَنَان:
- فشكر اللسان: التحدث بالنعمة، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾([26]).
- وشكر الأركان: العمل بطاعة الله، قال سبحانه وتعالى: ﴿...اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا...﴾([27]).
- وشكر الجنان: الاعتراف بأن كل نعمة بك أو بأحد من العباد هي من الله، قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ...﴾([28]).
ومن القسم الأول: قال رسول الله >: «التحدث بالنعم شكر»([29]).
ومن الثاني: أنه — قام حتى تورمت قدماه، فقيل له: «أتتكلف كل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر!»، فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»([30]).
ومن الثالث: أنه كان — إذا أصبح قال: «اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك؛ فمنك وحدك لا شريك لك»([31]).
وهذه الأحاديث لم أستحضرها وقت مخاطبتي له، فقال: وما الذي يصير به الشاكر شاكرًا؟ قلت له: إذا كان ذا علم فبالتبيين والإرشاد، وإذا كان ذا غنى فالبذل والإيثار للعباد، وإذا كان ذا جاه فبإظهار العدل فيهم ودفع الأضرار والإنكار.
وقال }: إن لله مَلَكًا يملأ ثلث الكون، وإن لله ملكًا يملأ ثلثي
الكون، وإن لله ملكًا يملأ الكون كله، وإن لله ملكًا وضع قدمه في الأرض، لم يجد أن يضع الثانية.
ثم قال: يقول القائل: إذا كان ملك يملأ الكون كله؛ فأين يكون الذي يملأ ثلث الكون؟ والملك الذي يملأ ثلثي الكون؟.
فقال } جوابًا عن ذلك: اللطائف لا تتزاحم، كمثل سراج أدخلته بيتًا، فملأ البيت نوره، ولو أتيت بعد ذلك بألف سراج لوسع ذلك البيت أنوراها.
وسمعته يقول: قال رسول الله > لأبي بكر: «يا أبا بكر، أريد أن أدعوك لأمر»([32])، قال: «وما هو يا رسول الله؟»، قال: «هو ذاك».
وسمعته يقول: قال رسول الله >: «يا أبا بكر، أتعلم يوم؟» قال: نعم يا رسول الله، سألتني عن يوم المقادير، ولقد سمعتك حينئذ وأنت تقول: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله»([33]).
وقال }: أبو بكر وعمر خلفاء الرسالة، وعثمان وعلي خلفاء النبوة.
وقال }:العامة إذا رأوا إنسانًا ينسب إلى طريق الله جاء من البراري والقِفَار؛ أقبلوا عليه بالتعظيم والتكريم، وكم من بَدَلٍ وولي بين أظهُرهم لا يلقون إليه بالًا، وهو الذي يحمل أثقالهم ويدافع الأغيار عنهم! فمَثَلُهُم في ذلك كَمَثَلِ حمار الوحش يدخل به الناس البلدة، فيطوف الناس به متعجبين لتخاطيط جلده وحسن صورته، والحُمُر التي بين أظهرهم وهي التي تحمل أثقالهم، لا يلتفتون إليها.
وقال الشيخ أبو الحسن: يا أبا العباس، إذا قال أحد فيك ما ليس فيك؛ فقل: الله يعلم مني ما يعلم، ﴿...وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾([34]).
وقال أيضًا: عَلِمَ الله ما يقال في أوليائه والصديقين، فبدأ بنفسه فقضى على قوم أعرض عنهم فنسبوا إليه الزوجة والولد، فإذا قيل في صديق إنَّه زنديق، أو قيل في ولي إنه غافل عن الله غَوِي، فإن ضاق الولي أو الصديق بذلك ذرعًا؛ قيل له: «الذي قيل فيك هو وصفك لولا فضلي عليك، وقد قيل فِيَّ ما لا يستحقه جلالي».
وقال }: الهالك بهذه الطائفة أكثر من الناجي.
واعلم أنَّ الله ابتلى هذه الطائفة بالخَلْقِ؛ ليرفع بالصبر على أذاهم مقدارَهم، وليكمل بذلك أنوارهم، وليحقق الميراث فيهم؛ ليؤذَوْا كما لو أوذي من قبلهم، فيصبروا كما صبر من قبلهم، ولو كان من أتى بهدى إطباق الخلق على تصديقه هو الكمال في حقه؛ لكان الأَوْلَى بذلك رسول الله >، وقد صَدَّقَهُ قوم هداهم الله بفضله، وحُرِمَ من ذلك آخرون حجبهم الحق عن ذلك؛ فانقسم العباد في هذه الطائفة إلى مُعْتَقِدٍ ومُنْتَقِدٍ ومُصَدِّقٍ ومُكَذِّبٍ.
وإنما يصدق بعلومهم وأسرارهم من أراد الحق سبحانه أن يلحقه بهم، والمعترف بتخصيص الله وعنايته قليل؛ لغلبة الجهل واستيلاء الغفلة على العباد، وكراهية الخلق أن يكون لأحد عليهم شفوف في منزلة، أو اختصاص بمِنَّةٍ، ألم تسمع قوله سبحانه: ﴿...وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾([35]).
ومن أين لعموم العباد أن يعلموا أسرار الحق في أوليائه، وشروق نوره في قلوب أحبابه! وسبب هلاك الهالك بهم أن من أظهره الله منهم لا بد وأن يُظفره ببواهر المنن وخوارق العادات، فيستغرب عقول العموم أن يعطي الله ذلك غير الأنبياء أن تظهر الخوارق إلا في أهل العصمة، وهؤلاء لم يعلموا أن كل كرامة لولي فهي معجزة لذلك النبي الذي هو الولي تابع له؛ فظن هؤلاء أن جريان الكرامة على الولي مساهمة لمقام النبوة، وحاشا لله أن يشترك النبي والولي في مقام، كيف وقد قال أبو زيد }: «جميع ما أخذ الأولياء مِمَّا هو للأنبياء كزق ملئ عسلًا، فرشحت منه رشاحة، فما انطوى عليه الزق فهو مثل علوم الأنبياء، وتلك الرشاحة هي حظ الأولياء منهم».
واعلم -رحمك الله- أن من اعتز بعزيز لم يشاركه في العز، فأولياء الله اعتزوا بالأنبياء الذين اهتدوا بهديهم واقتفوا سبلهم، فلا يشركونهم في عِزِّهِم؛ لأن بهم اعتزازهم، ألم تسمع المولى يقول: ﴿...وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ...﴾ [المنافقون:8]؛ فلم يكن إثبات العزة لرسوله > وللمؤمنين من عباده، توجب شركة الله في عزه
وحكمة الله اقتضت عدم اتفاق العباد على الولي، بل انقسم الأمر فيه لِمَا بَيَّنَّاه ولأمر آخر، وهو أنه لو كان الخلق كلهم مُصَدِّقِينَ للولي؛ فإنه الصبر على تكذيب المكذبين، ولو كان الخلق كلهم مكذبين له؛ فإنه الشكر على تصديق المصدقين، فأراد الحق سبحانه بحسن اختياره لأوليائه أن يجعل العباد فيهم قسمين: مصدق، ومكذب؛ ليعبدوا
الله فيمن صدقهم بالشكر، وفيمن كَذَّبَهُم بالصبر، والإيمان نصفان: نصفه صبر، ونصفه شكر.
واعلم أنه لعزازة قدرة الولي عند الله لم يجعله إلا محجوبًا عن خلقه، وإن كان بينهم؛ لأنه ظهر لهم من حيث ظاهر علمه ووجود دلالته وباطن سر ولايته.
وقد قال الشيخ أبو الحسن }: لكل ولي حجاب، وحجابي الأسباب، فمنهم من كان حجابه ظهوره بالسطوة والعزة، والنفوس لا تحمل صحبة من هذا وصفُه، وسبب ظهور ذلك الولي بذلك، تجلى الحق عليه بصفة ظهر بها، فإذا غلبت عليه شهودًا غلبت عليه ظهورًا، فلا يصحبه ولا يثبت معه إلا من محق الله نفسه وهواه، ومن هذا الصِّنْفِ كان شيخنا أبو العباس }، لا تجلس بين يديه إلا والرعب قد ملك قلبك، ومن خَلَّصَهُ الله من نفسه وهواه، فلا تستغرب ظهوره بالعز؛ فأي مُلْكٍ أعظم من هذا الملك! هذا ملك أعوز الملوك وجوده، أفلا ترى أنه لم يزل في كل قطر وعصر أولياء يذِل لهم ملوك الزمان، ويعاملونهم بالطاعة والإذعان!.
ومنهم من يكون حجابه كثرة التردد إلى الملوك والأمراء في حوائج عباد الله، فيقول القصير الإدراك: «لو كان هذا وليًّا ما تردد إلى أبناء الدنيا» وهذا جور من قائله، بل انظر تردده إليهم إن كان لأجل عباد الله، وكشف الضرر عنهم، وتوصيل ما لا يستطيعون توصيله إليهم، مع الزهد واليأس مِمَّا في أيديهم، والتعزز بعز الإيمان وقت مجالستهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر؛ فلا حرج عليه من هذا شأنُه؛ لأنه من المحسنين، وقد قال الحق سبحانه: ﴿...مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ...﴾ [التوبة:91].
وهذا كان سبيل شيخ شيخنا القطب الكبير أبي الحسن الشاذلي }، حتى لقد سمعت الشيخ الإمام مفتي الأنام تقي الدين محمد بن علي القشيري رحمه الله، يقول: جهل ولاة الأمور بقدر الشيخ أبي الحسن الشاذلي }، كثرة ترداده إليهم في الشفاعات.
ويجب أن تعلم أن هذا الأمر لا يقوى عليه إلا عبد متخلق بخلق الله قد بذل نفسه وأذلها في مرضاة الله، وعلم وسيع رحمة الله؛ فعامل بالرحمة عباد الله، ممتثلًا لقول رسول الله >: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمْكم من في السماء»([36]).
وقد بَلَغَنِي عن الشيخ أبي الحسن }، أنه استدعى يهوديًّا كَحَّالًا ليداوي بعضَ من عنده، فقال له اليهودي: «لا أستطيع أن أعالج؛ فإنه جاء مرسوم من القاهرة ألَّا يداوي أحد من الأطباء إلا بإذن من مشارف الطب بالقاهرة»، فلما خرج ذلك اليهودي، قال الشيخ لخدامه: «هيئوا إلى السفر»، وسافر لوقته إلى القاهرة، وأخذ لهذا الطبيب إذنًا وعاد إلى ذلك الطبيب، ولم يَبِتْ بها ليلة واحدة، ثم جاء إلى الإسكندرية، فأرسل إلى ذلك الطبيب، فاعتذر له بما اعتذر له به أولًا، فأخرج له الشيخ مكتوبًا بالإذن؛ فأكثر اليهودي من التعجب من هذا الخُلُقِ الكريم.
وقد يكون حجاب الولي كثرة الغنى وانبساط الدنيا عليه.
وقال بعض المشايخ: كان بالمغرب رجل من الزاهدين في الدنيا، ومن أهل الجِدِّ والاجتهاد، وكان عيشُه مما يَصِيدُهُ من البحر، وكان الذي يصيده يتصدق ببعضه ويَتَقَوَّتُ ببعضه، فأراد أحد أصحاب هذا الشيخ أن يسافر إلى بلد من بلاد المغرب، فقال له الشيخ: «إذا دخلت إلى بلد كذا وكذا، فاذهب إلى أخي فلان، فأقرئه مني السلام، واطلب الدعاء منه لي؛ فإنه ولي من أولياء الله تعالى»، قال: فسافرت حتى قدمت إلى تلك البلدة، فسألت عن ذلك الرجل، فدُلِلْتُ على دار لا تصلح إلا للملوك، فتعجبت من ذلك، وطلبته فقيل لي: هو عند السلطان؛ فازداد تعجبي فبعد ساعة، وإذا هو قد أقبل في أفخر ملبس ومركَب، وكأنما هو ملك في مركبه، قال: فازداد تعجبي أكثر من الأول.
قال: فهمَمْتُ بالرجوع وعدم الاجتماع به، ثم قلت: لا يمكنني مخالفة الشيخ؛ فاستأذنت فأذن لي، فلما دخلت رأيت ما هالني من العبيد والخدم والشارة الحسنة، فقلت له: «أخوك فلان يسلم عليك»، قال: «جئت من عنده؟»، قلت: «نعم»، قال: «فإذا رجعت إليه، فقل له: إلى كم اشتغالك بالدنيا؟ وإلى كم إقبالك عليها؟ وإلى متى لا تنقطع رغبتك فيها؟»، فقلت: هذا والله أعجب من الأول!!.
فلما رجعت إلى الشيخ، قال: «اجتمعت بأخي فلان؟»، قلت: «نعم»، قال: «فما الذي قال لك؟»، قلت: «لا شيء»، قال: «لا بد أن تقول»، فأعدت إليه ما قال فبكى طويلًا، وقال: «صدق أخي فلان، هو غسل الله قلبه من الدنيا وجعلها في يده وعلى ظاهره، وأنا أخذها من يدي وعندي إليها بقايا التطلع».
ومن حجب أولياء الله قبولهم من الخلق، فإذا قبل الرجل ما يعطى صغر عند الخلق، وهم لا يكبر عندهم إلا من يقبل دنياهم، ومن إذا أُعطوا رد عليهم وأبى من القبول منهم، ولعل فاعل ذلك إنما فعله زواقًا وزندقة، واستئلافًا لقلوب العباد عليه، وليتوجه بالتعظيم إليه، ولتنطلق الألسنة بالثناء عليه، وقد قال الشيخ أبو الحسن }: من طلب الحمد من الناس
بترك الأخذ منهم؛ فإنما يعبد نفسه وهواه ليس من الله في شيء.
ومما قد يصد عقول العموم عن أولياء الله وقوع زلة ممن تَزَيَّى بزيهم، أو انتسب إلى مثل طريقهم، والوقوف مع هذا حرمان مِمَّنْ وقف معه، وقد قال سبحانه: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾([37]).
فمن أين يلزم لما أساء واحد من الجنس، أو ظهر عدم صدقه في الطريق -أن يكون بقية أهل تلك الطريق، كذلك وقد أنشدنا الشيخ علم الدين الصوفي لنفسه:
اسْتَنَارَ الرِّجَالُ فِي كُلِّ أَرْضٍ |
* | تَحْتَ سُوءِ الظُّنُونِ قَدْرٌ جَلِيلُ |
مَا يَضُرُّ الْهِلَالَ فِي حَنْدَسِ اللَّيْـ |
* | ـلِ سَوَادُ السَّحَابِ وَهْوَ جَمِيلُ |
وأشد حجاب يحجب عن معرفة أولياء الله شهود المماثلة، وهو حجاب قدر حجب الله به الأولين، قال سبحانه حاكيًا عنهم: ﴿...مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾([38]).
وقال سبحانه مخبرًا عنهم: ﴿...أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ...﴾([39])، وقال سبحانه: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ...﴾([40])، وإذا أراد الله أن يعرفك بولي من أوليائه طَوَى عنك شهود بشريته، وأَشْهَدَكَ وجود خصوصيته.
وصية وإرشاد: إياك أيها الأخُ أن تُصْغِي إلى الواقعين في هذه الطائفة، المستهزئين بهم؛ لئَلَّا تسقط من عين الله، وتستوجب المقت من الله؛ فإن هؤلاء القَوْمَ جلسوا مع الله على حقيقة الصدق وإخلاص الوفاء، ومراقبة الأنفاس مع الله، قد سلموا قِيَادَهُم إليه، وألقوا أنفسهم سَلَمًا بين يديهن تركوا الانتصار لنفوسهم؛ حياء من ربوبيته، واكتفاء بقيوميته، فقام لهم بأوفى ما يقومون لأنفسهم، وكان هو المحارب عنهم لِمَنْ حاربهم، والمُغَالِبُ لمن غالبهم، ولقد ابتلى الله هذه الطائفة بالخَلْقِ، خصوصًا أهل العلم الظاهر.
فَقَلَّ أن تجد منهم من شَرَحَ الله صدره للتصديق بولي معين، بل يقول لك: «نعم، إن الأولياء موجودون، ولكن أين هم؟»، فلا تذكر له أحد إلَّا وأخذ يدفع خصوصية الله فيه، طلق اللسان بالاحتجاج، عاريًا من وجود نور التصديق، فاحذر من هذا وصفه، وفِرَّ منه فرارك من الأسد، جعلنا الله وإياك من المُصَدِّقِينَ لأوليائه بِمَنِّه وَكَرَمِهِ.
([5]) رواه مسلم (232), وابن ماجه (3986, 3988), والطحاوي في («مشكل الآثار»، 1/298), والشهاب في («مسنده»، 1054), والخطيب البغدادي في («تاريخ بغداد»، 3/272, 11/307, 12/257), والهيثمي في («مجمع الزوائد»، 7/278), وابن عساكر في («تهذيب تاريخ دمشق»، 1/39), والتبريزي في («مشكاة المصابيح»، 159), والزبيدي في («إتحاف السادة المتقين»، 1/265), والمتقي الهندي في («كنز العمال»، 1201), وأبو عوانة في («المسند»، 21/102), وابن حجر في («فتح الباري»، 7/7), وابن عدي في («الكامل في الضعفاء» 3/1130).
([22]) رواه مسلم (1383، 1384)، وأحمد في («المسند»، 1/32)، والزبيدي في («إتحاف السادة المتقين» 9/228)، والعراقي في («المُغني عن حمل الأسفار»، 4/168)، وابن حجر في («فتح الباري»، 7/1289)، والمتقي الهندي في («كنز العمال»، 2990، 29939).
([30]) أخرجه البخاري في («صحيحه»، 2/63 - 6/69)، ومسلم في («صفات المنافقين» 79، 80، 81)، والترمذي (412).
([31]) أخرجه عيسى الحلبي في («ميزان الاعتدال»، 4493)، وابن السني في («عمل اليوم والليلة»، 39)، والهيثمي في («موارد الظمآن»، 2361)، والسيوطي في («الدر المنثور»، 1/154).
([36]) أخرجه أبو داود في («سنن»، 4941)، والترمذي في («سننه»، 1924)، وأحمد في («مسنده»، 2/160)، والبيهقي في («السنن الكبرى»، 9/41)، والحاكم في («المستدرك» 4/159)، والمنذري في («الترغيب والترهيب»، 3/202)، والسُيوطي في («الدُرِّ المنثور»، 6/65)، وابن حجر في («فتح الباري»، 13/359)، وابن أبي شيبة في («مُصَنَّفِهِ»، 8/338)، والبيهقي في («الأسماء والصفات»، 423)، والخطيب البَغدادي في («تاريخ بغداد»، 3/260 و438)، والمتقي الهندي في («كَنْزِ العُمَّال»، 5969).