هناك من يقول : إن أبوي النبي صلي الله عليه وسلم من المشركين وهما في النار، فهل هذا الكلام صحيح؟
يجيب عليها : أ.د. علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء ومفتي الجمهورية السابق
سبق أن بينا أن محبة النبي صلي الله عليه وسلم من أفضل القربات، وتكلمنا عن مكانة هذه المحبة، وكان ذلك في إجابة السؤال رقم ٣٤، ويكفينا لمعرفة تلك المكانة حديث النبي صلي الله عليه وسلم الذي يقول فيه: }لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ {(1).
ولا شك أن الحب يتنافى مع رغبة الإيذاء لمن يحب، ولا شك كذلك أن الحديث بسوء عن أبويه صلي الله عليه وسلم يؤذي النبي صلي الله عليه وسلم وقد قال تعالى: (والذين يؤذونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذاب اليم)(2)، (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والأخرة وأعد لهم عذابًا مهينا)(3)،ولقد نهانا الله صراحة عن أذية رسول الله صلي الله عليه وسلم ومشابهة اليهود - لعنهم الله - في ذلك، فقال تعالى: ( يـأيها الذين امنوا لا تكونوا كالذين أذوا مُوسَى فَبَرَاهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وجيها)(4)، قال القاضي : فنحن لا نقول إلا ما يرضي ربنا، ويرضي رسولنا صلي الله عليه وسلم ، ولا نتجرأ على مقامه الشريف ونؤذيه صلي الله عليه وسلم بالكلام بما لا يرضيه صلي الله عليه وسلم.
واعلم أن آباء النبي صلي الله عليه وسلم وأجداده إن ثبت وقوع بعضهم فيها يظهر أنه شرك فإنهم غير مشركين؛ وذلك لأنهم لم يرسل إليهم رسول، فأهل السنة والجماعة قاطبة يعتقدون أن من وقع في شرك وبدل شرائع التوحيد في الفترة ما بين النبي والنبي لا يعقب، والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتى نبعث رَسُولاً)(5)، وقوله سبحانه: (ذلك أن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظلم وأهلها غـفلون)(6)، وقوله تعالى: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لها منذرون)(7)، وقوله عز وجل: (رُسُلاً مبشرين ومنذرين لئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل)(8)، فلا تقوم الحجة على الخلق إلا بإرسال الرسل، وبغير إرسال الرسل فالبشر غير محجوجين برحمة الله وفضله.
هذه الآيات تدل على ما يعتقده أهل الحق، أهل السنة والجماعة، أن الله برحمته وفضله لا يعذب أحدا حتى يرسل إليه نذيرا، وقد يقول قائل: لعل أبوي النبي صلي الله عليه وسلم أرسل إليهم نذير، ثم أشركوا بعد بلوغ الحجة، فهذا لا يسعفه نقل، بل جاءت النصوص تنفيه، وتؤكد عكس ذلك، قال تعالى: (وما ءاتينهم من كتب يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نذير)(9)، وقال سبحانه: (لتنذر قوما ما أتـهم من نذير من قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ )(10). وقال عز وجل: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءايْتِنَا وَمَا كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون)(11).
فدلت النصوص السابقة على أن أبوي النبي صلي الله عليه وسلم غير معذبين، لا لأنهما أبويه صلي الله عليه وسلم؛ بل لأنها من جملة أهل الفترة التي علمنا من هم، وحكمهم بما استقر عند المسلمين، قال الشاطبي جرت سنته سبحانه في خلقه: أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل، فإذا قامت الحجة عليهم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ولكل جزاء مثله(12)، وقال القاسمي في تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نبعث رَسُولاً)(13) ما نصه: (وما صح، وما استقام منا، بل استحال في سنتنا المبنية على الحكم البالغة، أن تعذب قوما حتى نبعث إليهم رسولا يهديهم إلى الحق، ويردعهم عن الضلال؛ لإقامة الحجة، وقطعا للعذر)(14).
قال ابن تيمية: (إن الكتاب والسنة قد دلت على أن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة، لم يعذبه رأسًا، ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل، لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية )(15).
أما ما يدل على نجاة أبويه بخصوصهما بغض النظر عن كونها من أهل الفترة فهو قول الله تعالى: (وتقلبك في الساجدين)(16) فعن ابن عباس رضي الله عنه ــ في قوله تعالى: وتقلبك في الساجدين - قال: أي في أصلاب الآباء آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه نبياً(17).
وعن واثلة بن الأسقع أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةً قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هاشم)(18). وعن عمه العباس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (إنَّ اللهَ خَلَقَ الخَلْقَ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِهِمْ مِنْ خَيْرِ فِرَقِهِمْ وَخَيْرِ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ تَخَيَّرَ الْقَبَائِلَ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْر قبيلة، ثم تخير البيوت فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ بُيُوتِهِمْ، فَأَنَا خَيْرُهُمْ نَفْسًا، وَخَيْرُهُمْ بَيْتًا)(19).
فوصف رسول الله صلي الله عليه وسلم أصوله بالطاهرة والطيبة وهما صفتان منافيتان للكفر والشرك، قال تعالى يصف المشركين: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نجس)(20).
أما ما يثيره المخالفون بسبب ورود حديثي آحاد يعارضان ما ذكر من الآيات القاطعة، وهما حديثا مسلم، الأول: أن رسول الله ﷺ قال: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنُ لي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي»(21)، والثاني: أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيْنَ أَبي ؟ قَالَ: « في النَّارِ»، فلما قَفَى دَعَاهُ فَقَالَ: «إِنَّ أَبي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ»(22).
فالرد عليهم أولا: أن الحديث الأول ليس فيه تصريح بأن أمه ﷺ في النار، وإنما عدم الإذن في الاستغفار لا يدل على أنها مشركة، وإلا ما جاز أن يأذن له ربه عز وجل أن يزور قبرها، فلا يجوز زيارة قبور المشركين وبرهم.
الحديث الثاني: يمكن حمله على أنه كان يقصد عمه؛ فإن أبا طالب مات بعد بعثه، ولم يعلن إسلامه، والعرب يطلقون الأب على العم، كما في قوله تعالى عن إبراهيم: (وإذ قال ابراهيم لأبيه ءازر أتتخذ أصناما ءالهة)(23)، وأبو إبراهيم هو تارح، أو تارخ كما ذكر ذلك ابن كثير وغيره من المفسرين.
أما إذا رفض المخالف ذلك التأويل وأراد الاستمساك بظاهر النص في الحديث الثاني حيث لم يسعفه ظاهر النص في الحديث الأول، فنقول : نزولاً على كلامكم وإذا اعتبرنا أن الحديثين دلا على أن أبوي النبي ﷺ غير ناجيين، فإن ذلك يجعلنا أن نرد الحديثين لتعارضهما مع الآيات القاطعة الصريحة التي تثبت عكس ذلك كما مر، وهذا هو مذهب الأئمة والعلماء عبر القرون، وقد نص على هذه القاعدة الحافظ الخطيب البغدادي، حيث قال: (وإذا روى الثقة المأمون خبراً متصل الإسناد رد بأمور: أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة، فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ)(24).
ورد المحدثون كالبخاري والمديني حديث: (خلق الله عز وجل التَّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الجِبَالَ يَوْمَ الأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثَّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ عليه السلام بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ في آخر الخَلْقِ وَفِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ)(25)، وقد ردوه لأنه يعارض القرآن، كما ذكر ذلك ابن كثير(26) في تفسيره لقوله تعالى: (إِن رَبَّكُمُ الله الذي خلق السموات والأرض في سنة أيام )(27).
وكذلك فعل الإمام النووي رضي اله عنه عندما رد ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها حيث قالت: (فرِضَتِ الصَّلاةُ رَكْعَتَيْنِ، رَكْعَتَين في الحضر والسفر، فأقرتْ صَلاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ في صلاة الحضر)(28)، ورغم أنه متفق عليه لم يتهاون الإمام النووي في رد ظاهره؛ حيث ذكر: (أن ظَاهِرَهُ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ أَصل لَا مَقْصُورَةٌ، وَإِنَّمَا صَلاةُ الْحَاضَرِ زَائِدَةٌ، وَهَذَا مُخَالِفُ لِنَصْ الْقُرْآنِ وَإِجْمَاعِ المُسْلِمِينَ في تسميتها مقصورة، ومتى خالف خَبْرَ نَصُ الْقُرْآنِ أَوْ إِجْمَاعًا وَجَبَ ترك ظاهره )(29).
فليختر المخالف أيا من المسلكين: إما التأويل وهو الأولى لعدم رد النصوص، وإما رد هذه الأخبار الآحاد لمعارضتها للقطعي الصريح من القرآن الكريم، وهو مسلك الأئمة الأعلام، وعلى أية حال فلعله قد ثبت أن أبوي النبي صلي الله عليه وسلم ناجیان، بل جمع آبائه صلي الله عليه وسلم، رزقنا الله حبه، ومعرفة قدره صلي الله عليه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1 ) أخرجه أحمد في مسنده: ج ۳ ص ۱۷۷، والبخاري في صحيحه : ج ١ ص ١٤.
(۲) سورة التوبة، آية: (٦١).
(۳) سورة الإسراء، آية : [٥٧].
(4) سورة الأحزاب، آية : [69].
(5) سورة الإسراء، آية: (١٦).
(٦) سورة الأنعام، آية: (۱۳۱).
(7) سورة الشعراء، آية : [۲۰۸].
(8) سورة النساء، آية: (١٥٦).
(9) سورة سبأ، آية: (44).
(10) سورة القصص، آية: (٤٦).
(11) سورة القصص، آية : (٥٩).
(12) الموافقات للشاطبي: ج ۳ ص ۳۷۷.
(13) سورة الإسراء آية: (١٦).
(1٤) محاسن التأويل، للقاسمي ج ١٠ ص ٣١٢.
(15) مجموع الفتاوى : ج ۱۳ ص ٤٩٣.
(16) سورة الشعراء، آية : [٢١٩].
(17) تفسير القرطبي: ج ١٣ ص ١٤٤، وتفسير الطبري: ج ۷ ص ۲۸۷.
(18) أخرجه أحمد في مسنده: ج 4 ص ۱۰۷، ومسلم في صحيحه: ج 4 ص ۱۷۸۲، واللفظ لأحمد.
(19) أخرجه أحمد في مسنده: ج 4 ص ١٦٥، والترمذي في سننه : ج 5 ص ٥٨٤.
(20) سورة التوبة، آية: [۲۸].
(21) أخرجه مسلم في صحيحه : ج ٢ ص ٦٧١.
(22) أخرجه مسلم في صحيحه: ج ۱ ص ۱۹۱.
(23) سورة الأنعام، آية : [٧٤].
(24) الفقيه والمتفقه، للبغدادي، ص ١٣٢.
(25) أخرجه مسلم في صحيحه : ج 4 ص ٢١٤٩.
(2٦) تفسیر ابن كثير: ج ۲ ص ۲۳۰.
(27) سورة الأعراف، آية [٥٤].
(28) أخرجه البخاري في صحيحه : ج ۱ ص ۱۳۷، ومسلم في صحيحه: ج 1 ص ٤٧٨.
(29) المجموع للنووي: ج ٤ ص ٢٢٢.