ولنرجع إلى ما كان القصد بسببه في ذكر شيخنا والتعريف به فأقول:
إن الشيخ العارف المحقق الواحد القطب الواصل أبا مدين -نفع الله به- هو شعيب بن حسين الأنصاري الأندلسي الأصل من أحواز إشبيلية. كان زاهدًا في الدنيا عارفًا بالله تعالى وخاض بحارًا من الأحوال، ونال من المعارف الربانية الآمال.ومقامه الخاص به الذي لا يلحقه في أحد: التوكل على الله تعالى، وكان له بسط وقبض، فبسطه بالعلم وقبضه بالمراقبة.
[بداية الشيخ وطلبه للعلم]
ولما توفى أبوه كلفه إخواته رعي مواشيهم لأنه أصغرهم سناَ. فكان يخرج بها إلى المرعى فإذا رأى مصليًا أو قارئًا دنا منه ووجد في نفسه غمًا عظيمًا من كونه لا يفعل مثله، فيحدث إخواته ما يجده فينهونه ويأمرونه بالأشتغال بالرعاية حتى أشتد غمه لذلك، وقويت عزيمته على سلوك هذه المسالك. فترك الماشية وفر طالبًا لما مالت إليه نفسه بتوفيق الله. فرده أحد أخوته وهدده بالحربة، ثم قوى عزمه وفر بالليل، فأدركه بعض إخوته وسل عليه سيفه وضربه، فتلقى الضربة بعودٍ كان بيده فتكسر السيف أجزاء، فعجب أخوه من ذلك!! وقال له: يأخي أذهب حيث شيئت.
قال الشيخ أبو مدين: فسرت حتى وصلت البحر ووجدت خيمة فيها ناس فخرج إلي منها شيخ فسألني عن امري فأخبرته. فجلست عنده فإذا جعت رمى بخيط في طرفه مسمار فأخذ حوتًا ويطعمه لي مشويًا
ثم قال لي: أنصرف إلى الحاضرة حتى تتعلم العلم؛ فإن الله تعالى لا يعبد إلا بالعلم.
قال: فخرجت إلى العدوة ونزلت بطنجة([1]) وأنصرفت من هنالك إلى ((سبتة)) فأحترفت مع الصيادين طلبًا للعيش ثم قلت: ما لهذا قصدت. فأنصرفت من هنالك إلى (مراكش) وقصدت جماعة الأندلس، فكتبوا أسمي في زمام الأجناد، فقلت لبعضهم: إنما جئت للقراءة، فقال لي: عليك بفاس ([2])، فسرت إليها ولازمت جامعها ورغبت من علمني أحكام الوضوء والصلاة، ثم سألت عن مجالس العلماء فسرت إليها مجلسًا بعد مجلس، وأنا لا يثبت في قلبي شئ مما أسمعه من المدرسين إلى أن جلست إلى شيخ كلما تكلم بكلام ثبت في قلبي وحفظته، فقلت: من هذا الشيخ؟ فقيل لي: أبو الحسن ابن حرزهم ([3]).
فلما فرغ دنوت منه وقلت له: حضرت مجالس كثيرة فلم أثبت على ما يقال؛ وأنت كل ما سمعت منك حفظته، فقال لي: هم يتكلمون بأطراف ألسنتهم فلا يجاوز كلامهم الآذان وأنا قصدت الله بكلامي فخرج من القلب. فلازمته.
قلت: وهذا الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن حرزهم، ولد بفاس ونشأ بها وكان فيها من كبار الفقهاء، وكان زاهدًا في الدنيا سالكًا سبيل أهل التصوف ذا كرامات وفراسات، وكان والده من كبار الصالحين وكذلك أخوه.
[حكاية ابن حرزهم مع الأحياء]
وحكوا عن أبى الحسن هذه الحكاية المشهورة، وذلك أنه قال:
طالعت كتاب ((الإحياء)) للغزالي في بيتٍ مدة من عامٍ كامل: فجردت المسائل التي تنتقد عليه فرأيت في نومي قائلاَ يقول: جردوه وأضربوه حد الفرية! فجردت وضربت ثمانين سوطًا، ثم استيقظت فوجدت الألم في ظهري وجعلت أقبله وتبت إلى الله تعالى من ذلك وتأملت المسائل فوجدتها موافقة للكتاب والسنة.
وكان يقول: إن رب العزة أمنني.
إني رأيته في النوم فقال لي: سل حاجتك. فقلت: يارب أسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. فقال: قد فعلت.
وأرتحل آخرًا إلى المشرق ولازم إمامة مسجد الشام سنين عدة. فقدم الغزالي مع تلامذته ونزل في ذلك المسجد وكانت فيه دالية ظهر فيها الحرم([4]). فقال التلامذة للشيخ: ياسيدنا أشتهينا حرمه فقال لهم: أسألوا إمام المسجد عن هذه الدالية من حسبها وعلى من حبست؟ فجاوزا إليه وسألوه فقال لهم: لي هنا منذ كذا وكذا ما سألت عنها قط ولا أكلت منها قط، فرجعوا إلى الغزالي فأعلموه، فقال لهم: هذا مغربي أم هذا المسجد، فما سأل عنها ولا أكل منها وأنتم من يومكم سألتم عنها وأردتم الأكل منها فوبخهم على ذلك([5]).
[إعلام ابن حزرهم بيوم وفاته]
وكان الشيخ أبو الحسن ابن حزرهم لابد له من الحمام في كل يوم. فلما كان اليوم الذي توفى فيه قال لخدمه الحمام: اليوم بقى لكم وتستريحون مني فلما خرج من الحمام دخل منزله وأستلقى على ظهره فجاء بعض تلامذته ليوقظه فوجده ميتًا. وله كرامات مشهورة.
وكانت وفاته -رحمه الله- في عام تسعة وخمسين وخمسمائة، ودفن خارج
باب الفتوح من أبواب فاس، وقد زرت قبره مرارًا كثيرة زمان إقامتي بالمغرب. وأول زيارتي له في عام تسعة وخمسين وسبعمائة. وللوقوف على قبره بركات، فصلازمه الشيخ أبو مدين رحمه الله وقرأ عليه (رعاية المحاسبي) وفهمها([6]) له.
[إهتمام أبى مدين بعلمي الحديث والتفسير]
ولقى بفاس الأشياخ والأخيار والفضلاء، وقرأ على الشيخ الفقيه أبى الحسن ابن غالب([7]) فقيه فاس كتاب ( السنن لأبى عيسى الترمزي) وأقام بفاس مدة طويلة لطلب العلم.
قال الشيخ أبو مدين: وكنت إذا سمعت تفسير آية من كتاب الله تعالى، ومعه حديث واحد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قنعت بهما وأنصرفت إلى خارج فاس لموضع خالٍ من الناس أتخذته مأوى للعمل بما يفتح علي من الآية والحديث ثم أعود إلى فاس فأخذ آيةٍ وحديثًا وأخرج إلى خلوتي.
قال: وكنت إذا جلست بذلك المكان تأتيني غزالة تأوى إلي وتشمني من قرني إلى قدمي وتؤنسني. فذهب يومًا -كان يوم الخميس- إلى فاس وبت بها يوم الجمعة فلقيني رجل من الأندلس أعرفه فسلم علي وكان لي ثوب مودع عند رجل من الأصحاب، فسألته عنه وقلت له: بعه لي فإني أريد أن أدفع ثمنه لضيفٍ وصل إلي من الأندلس، فباعه بعشرة دراهم ودفعها إلي، فطلبه الرجل فلم أجده فربطت الدراهم في خرقة وجعلتها في مئزري وخرجت إلى خلوتي على عادتي، وكانت في طريقي عمارة فيها جملة كلاب ما رأيت أذى منهم قط بل كانوا يدورون بي ويبصبصون لي، فلما قربت من القرية خرجوا إلي وأشتد نبحهم حتى خرج أهل القرية وحالوا بيني وبينهم، ثم وصلت إلى خلوتي فجاءت الغزالة فنظرتني نظرًا منكرًا، ثم صارت تنطحني بقرونها وأنا أتقيها بيدي، ففكرت في أمري وما رأيت من نباح الكلاب علي ونطح الغزالة، فقلت: إن ذلك من أجل الدراهم التي معي، فحللت الصرة وروميتها فسكتت الغزالة وركنت إلى على عادتها. فلما أنصرفت إلى فاس أخذت الصرة وحملتها معي، فلما دخلت فاسًا لقيت الرجل الأندلسي فدفعتها له، ثم خرجت إلى موضعي ومررت بالقرية فبصبصت لي الكلاب على عادتها فجائتني الغزالة وشمتني من قرني إلى قدمي وركنت إلي عادتها.
[لقاء أبي مدين بشيخه أبى يعزي]
قال الشيخ أبو مدين: وكنت أيام إقامتي بفاس أزور الشيخ أبا يعزي، وأول زيارتي له أني رأيت جماعة تحدثوا على كراماته ونووا زيارته، فذهبت معهم إليه، فلما وصلنا أقبل على القوم دوني، واحضر الطعام فمنعني من الأكل معهم فإذا حضر الطعام وقمت إليه انتهرني، فأقول في نفسي: هؤلاء من هذه العدوة أقبل عليهم الأندلسي. فأقمت كذلك ثلاثة أيام وقد أجهدني الجوع والذل، ثم قلت في نفسي: إذا قام الشيخ من مقامه أُمرغ وجهي في ذلك المكان، فقام ومرغت وجهي، فلما رفعت رأسي لم أُبصر شيئًا، فقلت: عميت، فبقيت طول ليلي باكيًا متضرعًا فلما أصبح استدعاني وقال لي: أقرب يا أندلسي! فدنوت وقلت له لا أبصر شيئًا، فمسح بيده على عيني فعاد بصري ثم مسح بيده على صدري وقال للحاضرين: هذا يكون منه كذا وكذا، فاستأذنته في الإنصراف فأذن لي وقال لي: ترى الأسد يعترضك في الطريق فلا يرعك، فإن اشتد خوفك فقل له: بحرمة أبى يعزي اذهب عني! ثم تجد ثلاثة من اللصوص عند شجرة فتعظهم فيتوب اثنان على يديك ويُضرب عنق الثالث ويًصلب على تلك الشجرة.
قال الشيخ أبو مدين }: فلقيني الأسد في الطريق فأقسمت عليه بأبى يعزى فتنحى عني وخرج عن الطريق . فلما خرجت من الشعب تعرض لي ثلاثة من الرجال فوعظتهم فأثر كلامي في قلب أثنين منهم فأنصرفا، وعاد الثالث إلى الشجرة فسمع به بعض الولاه فأخذه وضرب عنقه وصلبه على تلك الشجرة.
وكان الشيخ أبو مدين يكرر زيارة الشيخ أبى يعزى، وكان أبو يعزى يقول: (آشك([8]) أركاز الأندلسي) ومعناه: آشك الرجل الأندلسي. فنال أبو مدين من بركاته وشاهد العجائب من كراماته. وكان يتردد إلى مجالس العلماء في مدينة فاس خصوصا مجال الشيخ أبى الحسن ابن حرزهم حتى فتح الله عليه بالمواهب العلية والأسرار الربانية، وحقق التوجه والعمل، وبلغ في مقامه الأمل.
قال محي الدين([9]) بن العربي الحاتمي الطائي:لم يمت حتى تقطب قبل أن يغرغر بثلاث ساعات.
والقطبية للعارف منتهى آماله وغاية مناله. ثم أنصرف مشرقًا وتردد في بلاد إفريقية واستوطن في الآخر: بجاية([10]) وكثرت تلامذته وظهرت بركاته عليهم.
يقال: إنه تخرج على يده ألف تلميذ وظهرت لكل واحد مهم الكرامة والبركة.لذلك يقال له شيخ مشايخ الإسلام وإمام العباد والزهاد.
قال بعض الصالحين: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ومعه أبو مدين وأبو حامد، ثم سأل أبو حامد أبا مدين رحمه الله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماروح الروح؟ فقال له أبو مدين: المعرفة.
قال: فما روح المعرفة؟ قال: اللذة
قال: فما روح اللذة؟ قال: نظرة إليه.
ثم غشيهم نور عظيم فأخذتهم الملائكة وعدت بهم حتى غابوا في الهواء.
فقلت: هذا درجة علية ومكانة سنية.
وكان الشيخ أبو مدين رحمه الله يلجأ إليه في حل المشكلات، فيأتي بأبداع التأويلات.
ذكر بعضهم أنه وقع نزاع الكلام بين الطلبة في قوله صلى الله عليه وسلم: إذا مات المؤمن أعطى نصف الجنة([11]). فتردد الكلام بينهم في أن مؤمنين إذا ماتا أستحقا الجنة بكاملها فاروا إلى مجلس الشيخ أبى مدين } ليطلعوا على ما عنده في المسألة، فوجدوه جالسًا يقرأ (رسالة القشيري) فلما أستقر بهم الجلوس سكت الشيخ أبو مدين عن الكلام الذي كان فيه وقال: نزيل الأشكال عن أصحابنا من غير أن يسألوه فقال لهم: إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نصف جنته لأن لكل مؤمن جنة تخصه، فإذا مات أعطى نصف جنته وبعد الحشر يعطي النصف الثاني ثم زاد في هذا الكلام ، وتكلم كيف يكشف للمؤمن عن مقعده في الجنة وتنعمه بتلك الرؤية واتصال الأرواح وغير ذلك مما يناسب هذا الكلام.
وفي هذا من العلم مالا ينتهي إلى حقيقته إلا أهل الصفا وأصحاب المواهب كالشيخ أبى مدين رحمه الله وجعلنا الله من حزبه بفضله.
وكان الشيخ رحمه الله مشغولًا بالتربية والإفادة والتعليم والعبادة والإقبال على الله تعالى في الظاهر والباطن. وقد ألف بعض الفضلاء في كراماته.
وله بالنسبة لكل إنسان كلمات حسان في اول هذا الشان بكلام العجيب والمنزع الغريب. وأنا أورد من ذلك ما لا بد منه مما صححته بالواسطة عنه، وكل كلم من كلامه إذا أقتصر المقتصر عليها فتح عليه بسببها ونال المؤمل من طلبها. وحل له المرام وميز بالفضل بين العباد، ولولا الإطالة لبينت لك كل كلمة على شواهدها وظهور فوائدها بطريق الصوفية وعوائدها، لكن في حفظها والعمل بها ما يرقى إلى منازل الأبرار ويوصل إلى عالم المقربين الأخيار، جعل الله السعي في ذلك موصلًا إلى الزلفى لديه. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
* * *
(3) راجع ترجمته في التشوف إلى رجال التصوف للتادلي ص 168-173، ونيل الإبتهاج لأحمد بابا التنبكي ص182، سلوة الأنفس لمحمد جعفر الكتاني (3/69)، الروض العطر الأنفاس لابن عيشون ص58 وقد ذكر ابن عيشون نسبه إلى عثمان بن عفان }.
(2) المصنف كثيرًا ما يعتمد على كتاب التشوف في ترجمة الأعلام التي يذكرها هنا في أنس الفقير، وهذه الحكاية التي ذكرها عن ابن حزرهم التي نحن بصددها الآن لم يذكرها احب التشوف في ترجمته لأبى الحسن ابن حرزهم، بل ذكرها في ترجمة عمه: أب محمد صالح بن محمد بن عبد الله بن حزرهم، انظر التشوف ص94، الروض العطر الأنفاس ص56.
(1)يشير إلى كتاب (رعاية لحقوق الله عز وجل) أحد مصنفات الحارث بن أسد المحاسب، المتوفي سنة 243هـ كان عديم النظير في زمانه ورعًا وعلمًا وزهداَ، ومن كبار الأئمة العارفين. وقد طبع هذا الكتاب بالقاهرة بتحقيق شيخ الإسلام الدكتور عبد الحليم محمد -رحمة الله تعالى.
(2)راجع ترجمته في التشوف ص228، سلوة الأنفاس(2/24)، والإعلام بمن حل بمراكش من الأعلام (2/19). وسيأتي كلام المصنف عليه إن شاء الله تعالى.
(1)وفي التشوف ص321[أقرب ياأندلسي]، وقال محقق التشوف (آشك) تصحيف لكلمة: (اشكد) بمعنى أقترب، فيكون المعنى هو ما ورد في التشوف: أقرب ياأندلسي.
(2) هو الإمام الفقيه، الحافظ الصوفي المحقق أبوعبد الله محمد بن علي الطائي الحاتمي الشهير بسيدي محي الدين بن العربي، الملقب بالشيخ الأكبر -له نحو أربعمائة كتاب ورسالة، أشهرها الفتوحات المكية طبع في عشر مجلدات، توفى سنة 638هـ انظر: عنوان الدراية ص156، شذرات الذهب(5/190) الطبقات الكبرى للشعراني(1/188) والأعلام للزركلي(6/281).