فاعلم أنَّ الادخار على ثلاثة أقسام: ادخار الظالمين، وادخار المقتصدين، وادخار السابقين.
فأما القسم الأول: فهم المدخرون بخلًا واستكثارًا، الممسكون مباهاة وافتخارًا، فقد استحكمت الغفلة على قلوبهم، واستولى الشر على نفوسهم؛ فهم لا تفرغ من الدنيا نهمتهم، ولا تتوجه إلى غيرها همتهم، الثابت فقرهم وإن كانوا أغنياء، الظاهر ذلهم وإن كانوا أعزاء، فهم من الدنيا لا يشبعون، وعن طلبها لا يفترون، تلاعبت بهم الأسباب، وتفرقت بهم الأرباب، أولئك كالأنعام، بل هم أضل، أولئك هم الغافلون.
لم يبق في قلوبهم متسع لوعي الحكمة، واستماع الموعظة، فَقَلَّ أن ترفع أعمالهم أو تزكى أحوالهم؛ لأنَّ خوف الفقر قد سكن قلوبهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من سكن خوف الفقر قلبه قَلَّمَا يرفع له عمل»([1]).
فيجب على المؤمن المعافى مما هم فيه داخلون، والسالم مما هم فيه منصرفون، والمتطهر مما هم به متدنسون -أن يحمد الله تعالى على ما خصه به من أفضاله، وأنعم به عله من نواله، وقل إذا رأيتهم: «الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاهم به، وفَضَّلَنِي على كثير ممن خلق تفضيلًا»، كما أنك إذا رأيت مصابًا في بدنه حمِدت الله الذي عافاك، وشهدت ما أنعم به عليك مولاك، كذلك يجب عليك وأحرى أن تشكر الله إذا عافاك من أسباب الدنيا والخوض فيها، وابتلى بذاك غيرك، وألَّا تحقرهم، بل اجعل عوض احتقارك بهم، وعوض دعائك عليهم دعاءك لهم، واقتدِ بما فعل العارف بالله معروف([2]) رحمه الله، فما فعله هو عن المعروف، عبر هو وأصحابه على دجلة فرأى أصحابه سمارية بها قوم أهل لهو وفسوق وطرب، فقالوا: يا أستاذ، ادع الله عليهم. فرفع يديه وقال: «اللهم كما فرحتهم في الدنيا فرحهم في الآخرة»، فقالوا: يا أستاذ، إنما قلنا لك ادع عليهم. فقال: إذا أفرحهم في الآخرة تاب عليهم، ولا يضركم من ذلك شيء. فالتصقت السمارية في الوقت إلى البر، ونزل الرجال ناحية، والنساء ناحية، فتطهر هؤلاء وهؤلاء، وخرجوا إلى الله تائبين، فكان منهم زهاد وعباد ببركة دعوة معروف.
فإذا نظرت أهل التخليط والإساءة، فاعلم أنه محكوم عليهم بسابق العلم ونافذ المشيئة، وإن لم تفعل خيف عليك أن تبتلى بمثل محنتهم، وأن تقطع كقطيعتهم.
واسمع ما قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله: «أكرم المؤمنين وإن كانوا عصاة فاسقين، وَأْمُرْهُمْ بالمعروف، وانههم عن المنكر، واهجرهم رحمة بهم لا تعززًا عليهم».
وقال رحمة الله عليه: «لو كشف عن نور المؤمن العاصي لطبق ما بين السماء والأرض؛ فما ظنك بنور المؤمن المطيع!». اهـ.
ويكفيك في تعظيم المؤمنين -وإن كانوا عن الله غافلين- قول رب العالمين: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ﴾([3])، فانظر كيف أثبت لهم الاصطفاء مع وجود ظلمهم، ولم يجعل ظلمهم مخرجًا لهم عن اصطفائيته، ولا من وراثة كتابه، واصطفاهم بالإيمان وإن كانوا ظالمين بوجود العصيان؛ فسبحان الواسع الرحمة والعظيم المنة!.
واعلم أنَّه لا بد في مملكته من عباد هم نصيب الحلم، ومحل ظهور الرحمة والمغفرة ووقوع الشفاعة، وافهم ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم»([4]).
وقوله عليه الصلاة والسلام: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي»([5])، وجاء رجل إلى الشيخ أبي الحسن رحمه الله فقال: يا سيدي، كان البارحة بجوارنا من المنكرات كيت وكيت، وظهر من ذلك الرجل استغراب أن يكون هذا. فقال: يا هذا، كأنك تريد ألا يعصى الله في مملكته! من أحب ألا يُعصى الله في مملكته فقد أحب ألَّا تظهر مغفرته، وألَّا تكون شفاعة رسول الله عليه الصلاة والسلام». اهـ.
وكم من مذنب كثرت إساءته وزل مخالفته، أوجبت له الرحمة من ربه! فكن له راحمًا، وبقدر إيمانه -وإن عصى- عالمًا.
القسم الثاني- من أقسام الادخار ادخار: المقتصدين، وهم الذين لم يدخروا استكثارًا ولا مباهاة ولا افتخارًا، وإنَّما علموا من نفوسهم الاضطراب عند الفقر؛ فعلموا أنَّهم إن لم يدخروا تشوش عليهم إيمانهم، وتزلزل إيقانهم؛ فادخروا لضعفهم عن حال المتوكلين، وعلمًا منهم بعجزهم عن مقام اليقين، وقد قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «المؤمن القوي خير عند الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير»([6]).
فالمؤمن القوي: هو الذي أشرق في قلبه نور اليقين؛ فعلم أن الله تعالى سائق إليه رزقه -ادَّخَرَ أو لم يَدَّخِرْ- وأنه إن لم يدخر ادخر له الحق تعالى، وأن المدخرين محالون على مدخراتهم، وأهل التوكل محالون على الله لا على شيء دونه؛ فالمؤمن القوي من لم يستند إلى الأسباب سواء كان فيها أو لم يكن.
والمؤمن الضعيف: الداخل في الأسباب مع المراكنة، والخارج عنها مع التطلع إليها.
القسم الثالث- بالنسبة إلى الادخار وعدمه: السابقون، وهم الذين سبقوا إلى الله ليخلص قلوبهم مِمَّا سواه؛ فلم تعقهم العوائق، ولم تشغلهم عن الله العلائق، فسبقوا إلى الله؛ إذ لا مانع لهم، وإنما منع العباد من السبق إلى الله تعالى جواذب التعلق بغير الله، فكلما همت قلوبهم أن ترحل إلى الله، جذبها ذلك التعلق إلى ما به تعلقت، فَكَرَّتْ راجعة إليه ومقبلة عليه؛ فالحضرة محرمة على من هذا وصفه، وممنوعة مِمَّنْ هذا نعته.
قال بعض العارفين: «أتظن أن ندخل إلى الحضرة الإلهية، وشيء من ورائك يجذبك!».
وافهم ها هنا قوله سبحانه: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾([7])، وإن القلب السليم هو الذي لا تعلق له بشيء دون الله تعالى، وقوله -سبحانه وتعالى-: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾([8]) يفهم منه أيضًا: أنه لا يصح مجيئك إلى الله تعالى بالوصول إليه إلا إذا كنت فردًا مما سواه.
وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى﴾([9])، يفهم منه أنه لا يأويك إليه إلا إذا صح يتمك مما سواه، وقوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله وتر يحب الوتر»([10])؛ أي: يحب القلب الذي لا يشفع بمشوشات الآثار؛ فكانت هذه القلوب لله وبالله، تركوا الله يتصرف لهم؛ فلم يكلهم إلى أنفسهم، ولم يدعهم لتدبيرهم؛ فهم أهل الحضرة المفاتحون بعين المنة، لا تقطعهم عن الله محاسن لآثار، ولا تشغلهم عنه بهجة الحسن المعار، ولنا في هذا المعنى:
يا بهجة الحسن التي ما مثلها |
* | من بهجة طرحت على الأكوان |
لي فيك معنى ما تبدى سره |
* | إلا ثنى طرفي مد عناني |
وقال بعضهم: «لو كلفت أن أرى غيره لم أستطع؛ لأنه لا غير معه حتى أشهد معه»، وهذا حال أقوام تولتهم الرعاية واكتنفتهم العناية؛ فأي تدبير بهؤلاء! أم كيف يمكن هؤلاء أن يكونوا من المدخرين وهم في حضرة رب العالمين وإن ادخروا لم يكونوا على ما ادخروه معتمدين! أم كيف يمكنهم أن يكونوا إلى سواه مستندين وهم لوجود الأحدية مشاهدون!.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله: «قوي عَلَيَّ الشهود مرة فسألت أن يستر ذلك عني؛ فقيل: لو سألته بما سأله موسى كليمه، وعيسى روحه، ومحمد صفيه -لم يفعل، ولكن سله أن يقويك. فسألته فقواني». اهـ.
فمن كان هذا حاله فكيف يحتاج إلى الادخار! أم كيف يمكنه أن يستند إلى الأغيار! وكفى بالمؤمن أن يدخر إيمانًا بالله، وثقة به، وتوكلًا عليه!.
وأهل الفهم عن الله توكلوا عليه؛ فكان هو المدخر لهم، واستحفظوه فكان هو الحافظ لهم، وكانوا له وبه فكان بمعونته لهم؛ فكفاهم ما أهمهم، وصرف عنهم ما أغمهم، اشتغلوا بما أمرهم عَمَّا ضمن لهم؛ علمًا منهم بأنه لا يكلهم إليهم، ومن فضله لا يمنعهم، فدخلوا في الراحة، ورفعوا في جنة التسليم ولذاذة التفويض؛ فرفع الله بذلك مقدارهم وكفل أنوارهم، ويحق أن يرفع المحاسبة عنهم بفضله، كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «سبعون ألفًا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب»([11]).
قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: «هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون». اهـ.
وكيف يحاسب من لا شيء له! أم كيف يسأل عن فعله من شهد أنه لا فعل له! وإنما يحاسب المدعون، ويناقش الغافلون الذين يشهدون أنهم مالكون أو مع الله فاعلون، ومن لم يدخر ثقة بالله وتوكلًا عليه -ساق الله له رزقه بوجود الهنا، وأوجد في قلبه وجود الغنا.
أفلس بعض العارفين فقال لزوجته: «أخرجي كل ما في البيت»، فتصدق به، ففعلت إلا الرحا، فإنها قالت: «لعلنا نحتاج إليها، ولا نجد مثلها»، فهي قد فعلت، وإذا بالباب قد دق فقيل: «هذا قمح أرسل إلى الشيخ»، فملأت الدار قمحًا، فلما رجع العارف ونظر قال: «أخرجت كل ما في البيت؟»، قالت: «نعم»، قال: «وليس الأمر كذلك»، فقالت: «ما تركت إلا الرحا؛ خيفة أن نحتاج إليها»، فقال: «لو أخرجت الرحا لجاءك دقيق، ولكن أبقيتها([12]) فجاءك ما به تتعبين». اهـ.
([1]) ويشهد لصحة ذلك ويؤكده: ما رواه الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: «يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأَسُدُّ فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلًا، ولم أَسُدَّ فقرك» رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عمران بن زائدة، وقال الترمذي: حسن غريب.
([2]) هو أبو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي رضي الله تعالى عنه، وهو من جملة المشايخ المشهورين بالزهد والورع والفتوة، مجاب الدعوة يُسْتَسْقَى بقبره، وهو من موالى علي بن موسى الرضا رضى الله عنه، صحب داود الطائي رضى الله عنه، ومن كلامه: لولا إخراج حب الدنيا من قلوب العارفين ما قدروا على فعل الطاعات، ولو كان من حب الدنيا ذرة في قلوبهم لما صَحَّت لهم سجدة واحدة (إذا عمل العالم بالعلم استوت له قلوب المؤمنين، وكرهه كل من في قلبه مرض). توفي ببغداد ودفن بها سنة مئتين، وقبره ظاهر يزار ليلًا ونهارًا، رضي الله عنه ورحمه رحمة واسعة.
([4]) وفيما أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم».
([5]) هذا الحديث أخرجه عبد الرزاق في «الجامع»، وأحمد في «مسنده»، وأبو داود، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان في «الصحيح»، والحاكم في «المستدرك»، والبيهقي في «الشعب»، و«الزهد» عن أنس، وأخرجه أحمد في «مسنده»، وأبو داود، والنسائي، وابن خزيمة، وابن حبان في «الصحيح»، والحاكم في «المستدرك»، والبيهقي في «الشعب» و«الزهد» عن جابر، وأخرج الطبراني في «المعجم الكبير» عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه البيهقي في «البعث» والخطيب في «تاريخ بغداد» عن كعب بن عجرة، وأخرجه ابن عدي في «الكامل في تاريخ بغداد» عن ابن عمر رضي الله عنهما.
([6]) هذا جزء من حديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، وابن ماجه، والنسائي، عن أبي هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، ولكن قل: قَدَّرَ الله وما شاء فعل». اهـ.
([10]) هذا الحديث رواه أبو داود، والترمذي، وقال حديث حسن، وفيما أخرجه أبو يعلى في «مسنده» وابن خزيمة عن عَلِيٍّ رضى الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله وتر يحب الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن».
([11]) هذا جزء من حديث شريف أخرجه البزار عن أنس رضى الله عنه، ولفظه عن أنس رضى الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سبعون ألفًا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب، هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون». وفيما أخرجه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفًا، أو سبعمئة ألف، متماسكون آخذ بعضهم بيد بعض، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر». اهـ.