بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العظيم شانه، القوي سلطانه، الظاهر إحسانه، الباهر حجته وبرهانه، المحتجب بالجلال،، والمنفرد بالكمال، والمتردي بالعظمة في الآباد والآزال، لا يُصَوِّرُه وهمٌ وخيالٌ، ولا يحصره حَدٌّ ومثال، ذي العز الدائم السرمدي، والملك القائم الدَّيْمُومِي، والقدرة الممتنع إدراك كنهها، والسطوة المستوعر طريق استيفاء وصفها، نطقت الكائنات بأنه الصانع المبدع، ولاح من صفحات ذرات الوجود بأنه الخالق المخترع، وَسَمَ عقل الإنسان بالعجز والنقصان، وألزم فصيحات الألسن وصف الحصر في حلبة البيان، وأحرقت سبحات وجهه الكريم أجنحة طائر الفهم، وَسَدَّت تعززًا وجلالًا مسالك الوهم، وأطرق طامحُ البصيرة تعظيمًا وإجلالًا، ولم يجد من فرط الهيبة في فضاء الجبروت مجالًا، فعاد البصر كليلًا، والعقل عليلًا، ولم ينتهج إلى كنه الكبرياء سبيلًا، فسبحان من عَزَّت معرفته لولا تعريفه، وتعذر على العقول تحديده وتكييفه، ثم ألبس قلوب الصفوة من عباده مَلَابس العرفان، وخصهم من بين عباده بخصائص الإحسان، فصارت ضمائرهم من مواهب الأنس مَمْلُوَّة، ومرائي قلوبهم بنور القدس مَجْلُوَّةً، فتهيأت لقبول الأمداد القدسية، واستعدت لورود الأنوار العُلْوية، واتخذت من الأنفاس العطرية بالأذكار جلاسًا، وأقامت على الظاهر والباطن من التقوى حراسًا، وأشعلت في ظلم البشرية من اليقين نبراسًا، واستحقرت فوائد الدنيا ولذاتها، وأنكرت مصايد الهوى وتبعاتها، وامتطت غواربَ الرغبوت والرهبوت، واستفرشت بعلو همتها بساط الملكوت، وامتدت إلى المعالي أعناقها، وطَمَحَتْ إلى اللامع العلوي أحداقُها، واتخذت من الملأ الأعلى مسامرًا ومحاورًا، ومن النور الأعز الأقصى مزاورًا ومجاورًا، أجساد أرضية بقلوب سماوية، وأشباح فرشية بأرواح عرشية، نفوسهم في منازل الخدمة سيارة، وأرواحهم في قضاء القرب طيارة، مذاهبهم في العبودية مشهورة، وأعلامهم في أقطار الأرض منشورة، يقول الجاهل بهم: فُقِدُوا، وما فُقِدُوا، ولكن سَمَتْ أحوالُهم فلم يُدْرَكُوا، وعلا مقامهم فلم يُمْلَكُوا، كاثنين بالجثمان بائنين بقلوبهم عن أوطان الحدثان، لأرواحهم حول العرش تطواف، ولقلوبهم من خزائن البر إسعاف، يتنعمون بالخدمة في الدياجر، ويتلذذون من وهج الطلب بظما الهواجر، تَسَلَّوْا بالصلوات عن الشهوات، وتعوضوا بحلاوة التلاوة عن اللذات، يلوح من صفحات وجوههم بشر الوجدان، وينم على مكنون سرائرهم نضارة العرفان، لا يزال في كل عصر منهم علماء بالحق داعون للخلق، مُنِحُوا بحسن المتابعة رتبةَ الدعوة، وجُعِلوا للمتقين قدوة، فلا يزال تظهر في الخلق آثارهم، وتُزْهِرُ في الآفاق أنوارهم، من اقتدى بهم اهتدى، ومن أنكرهم ضل واعتدى.
فلله الحمدُ على ما هيأ للعباد، من بركة خواص حضرته من أهل الوداد، والصلاة على نبيه ورسوله محمد وآله وأصحابه الأكرمين الأمجاد، ثُمَّ إن إيثاري لهدي هؤلاء القوم ومحبتي لهم علمًا بشرف حالهم وصحة طريقتهم المبنية على الكتاب والسنة المتحقق بِهِمَا من الله الكريم الفضل والمنة حداني أن أذب عن هذه العصابة بهذه الصبابة، وأؤلف أبوابًا في الحقائق والآداب، معربة عن وجه الصواب، فيما اعتمدُوه، مشعرة بشهادة صريح العلم لهم فيما اعتقدوه، حيث كثر المتشبهون، واختلفت أحوالهم وتستر بزيهم المتسترون، وفسدت أعمالهم، وسبق إلى قلب من لا يعرف أصول سلفهم سوء ظن، وكاد لا يسلمُ من وقيعة فيهم وطعن، ظنًّا منه أن حاصلهم راجع إلى مجرد رسم، وتخصصهم عائدٌ إلى مطلق اسم، ومما حضرني فيه النيَّة أن أُكْثِر سوادَ القوم بالاعتزاءِ إلى طريقِهم، والإشارة إلى أحوالِهم، وقد وَرَدَ: «من كثر سواد قوم فهو منهم»، وأرجو من اللهِ الكريمِ صحةَ النية فيه وتخليصها من شوائب النفسِ، وكل ما فتح الله تعالى عَلَيَّ فيه منح من الله الكريم وعوارف، وأجل المنح عوارف المعارف، والكتاب يشتمل على نيفٍ وستين بابًا، والله المعين.
(الباب الأول) في منشأ علوم الصوفية. (الباب الثاني) في تخصيص الصوفية بحسن الاستماع. (الباب الثالث) في بيان فضيلة علم الصوفية، والإشارة إلى أنموذج منها. (الباب الرابع) في شرح حال الصوفيةِ، واختلاف طريقهم فيها. (الباب الخامس) في ذكر ماهية التصوف. (الباب السادس) في ذكر تسميتِهم بهذا الاسم. (الباب السابع) في ذِكر المتصوف والمتشبِّه. (الباب الثامن) في ذكرِ الملامتي وشرح حالِه. (الباب التاسعُ) في ذكر من انتمى إلى الصوفية وليس منهم. (الباب العاشر) في شرحِ مرتبة المشيخة. (الباب الحادي عشر) في شرح حال الخادم ومن يتشبَّه به. (الباب الثاني عشر) في شرح خرقة المشايخ الصوفية. (الباب الثالث عشر) في فضيلة سكان الربط. (الباب الرابع عشر) في مشابهة أهل الربط بأهل الصفة. (الباب الخامس عشر) في خصائص أهل الربط فيما يتعاهدونه بينهم. (الباب السادس عشر) في اختلاف أحوال المشايخ بالسفر والمقام. (الباب السابع عشر) فيما يحتاج المسافر إليه من الفرائضِ والنوافل والفضائلِ. (الباب الثامن عشر) في القدومِ من السفر ودخول الرباط والأدبِ فيه. (الباب التاسع عشر) في حال الصوفيِّ المتسبب. (الباب العشرون) في حال من يأكل من الفتوح. (الباب الحادي والعشرون) في شرح حالِ المتجرد من الصوفية والمتأهِّل. (الباب الثاني والعشرون) في القول في السماع قبولًا وإيثارًا. (الباب الثالث والعشرون) في القولِ في السماع ردًّا وإنكارًا. (الباب الرابع والعشرون) في القول في السماع ترفعًا واستغناءً. (الباب الخامس والعشرون) في القول في السَّماع تأدبًا واعتناءً. (الباب السادس والعشرون) في خاصية الأربعينية التي يتعاهدها الصوفية. (الباب السابع والعشرون) في ذِكْرِ فتوح الأربعينية. (الباب الثامن والعشرون) في كيفيَّة الدخول في الأربعينية. (الباب التاسع والعشرون) في ذكرِ أخلاق الصوفية وشرح الخُلُق. (الباب الثلاثون) في ذكر تفاصيل الأخلاق. (الباب الحادي والثلاثون) في الأدب ومكانه من التصوف. (الباب الثاني والثلاثون) في آداب الحضرة لأهل القرب. (الباب الثالث والثلاثون) في آداب الطهارة ومقدماتِها. (الباب الرابع والثلاثون) في آدابِ الوُضوء وأسراره. (الباب الخامس والثلاثون) في آدابِ أهل الخصوص والصوفية فيه. (الباب السادس والثلاثون) في فضيلة الصلاةِ وكِبر شأنها. (الباب السابع والثلاثون) في وصف صلاة أهل القرب. (الباب الثامن والثلاثون) في ذكرِ آداب الصلاة وأسرارِها. (الباب التاسع والثلاثون) في فضل الصوم وحسن أثره. (الباب الأربعون) في أحوال الصوفية في الصوم والإفطار. (الباب الحادي والأربعون) في آداب الصوم ومهامِّه. (الباب الثاني والأربعون) في ذكر الطعام وما فيه من المصلحة والمفسدة. (الباب الثالث والأربعون) في آدابِ الأكل. (الباب الرابع والأربعون) في ذكرِ آدابهم في اللباس ونياتهم ومقاصدهم فيه. (الباب الخامس والأربعون) في ذكر فضل قيام الليل. (الباب السادس والأربعون) في الأسبابِ المعينة على قيام الليل. (الباب السابع والأربعون) في آدابِ الانتباهِ من النوم والعمل بالليل. (الباب الثامن والأربعون) في تقسيمِ قيام الليل. (الباب التاسع والأربعون) في استقبالِ النهار والأدب فيه.
(الباب الخمسون) في ذكرِ العمل في جميع النهار، وتوزيع الأوقات. (الباب الحادي والخمسون) في آداب المريد مع الشيخ. (الباب الثاني والخمسون) فيما يعتمده الشيخ مع الأصحاب والتلامذة. (الباب الثالث والخمسون) في حقيقة الصحبةِ وما فيها من الخير والشرِّ. (الباب الرابع والخمسون) في أداء حقوق الصحبة والأخوة في الله تعالى. (الباب الخامس والخمسون) في آداب الصحبة والأخوة. (الباب السادس والخمسون) في معرفة الإنسان نفسه ومكاشفات الصوفية من ذلك. (الباب السابع والخمسون) في معرفةِ الخواطر وتفصيلها وتمييزها. (الباب الثامن والخمسون) في شرحِ الحال والمقام والفرق بينهما. (الباب التاسع والخمسون) في الإشارةِ إلى المقامات على الاختصار والإيجاز. (الباب الستون) في ذكرِ إشارات المشايخ في المقامات على الترتيب. (الباب الحادي والستون) في ذِكْرِ الأحوال وشرحها. (الباب الثاني والستون) في شرح كلمات من اصطلاح الصوفية مشيرةٍ إلى الأحوال. (الباب الثالث والستون) في ذكرِ شيء من البدايات والنهايات، وصحتها.
فهذه الأبواب تحرَّرت بعون الله تعالى مشتملةً على بعض علوم الصوفية وأحوالهم ومقاماتهم، وآدابهم وأخلاقهم، وغرائب مواجيدهم، وحقائق معرفتهم، وتوحيدهم ودقيق إشاراتهم، ولطيف اصطلاحاتهم، فعلومُهم كلها إنباء عن وجدان، واعتزاء إلى عرفان، وذوق تحقق بصدق الحال، ولم يفِ باستيفاء كنههِ صريح المقال؛ لأنها مواهبُ ربانية ومنايح حقَّانيَّة، استنزلها صفاءُ السرائرِ، وخلوصُ الضمائر، فاستعصت بكنهها على الإشارة، وطفحت على العبارة، وتهادتْها الأرواح بدلالة التشامِّ والائتلاف، وكرعت حقائقَها من بحر الألطاف، وقد اندرسَ كثير من دقيقِ علومِهم، كما انطمس كثير من حقائق رسومهم.
(وقد قال الجنيد) -رحمه الله-: علمُنَا هذا قد طوي بساطه منذ كذا سنة، ونحن نتكلم في حواشيه، بدا هذا القول منه في وقتِه مع قرب العهد بعلماء السلفِ وصالحي التابعين، فكيف بنا مع بُعْدِ العهد وقلة العلماء الزاهدين والعارفين بحقائق علوم الدين؟
واللهُ المأمول أن يقابلَ جهد المقل بحسن القبول، والحمد لله رب العالمين.