مقدمة
قال الله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) يعنى يفهم به عن الله أو (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) يعنى أنه يصغى بكليته فيشهد ببصيرته موقناً ما يلقى إليه أما ظاهراً أو باطناَ فعلم من ذلك أن حقيقة الذكرى لا تحصل إلا لمن كانت فيه أحدى الخصلتين، وأعلم أن المستمعين إن اشتركوا في سماع مجرد الألفاظ فقد تباينوا في سماع معانيها فرب كلمة موضوعة لمعنى القرب قد يفهم منها معنى البعد وبالعكس على قدر المقام والمستمع ولكن أشرف الفهوم وأعلاها وأعزها وأجلاها وأنورها وأجلاها فهم يقربك إلى الله بأنواع الوسائل ولا يحجبك في معرفته إلى الدلائل فارفع حكمتك في فهم المعاني عما دلت عليه ظواهر الألفاظ والأغاني مما يقتضيه حال الوقت لتكون ممن قال الله فيهم: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) وإذا علمت أن الناس مختلفون فيما يسمعونه من كلام الله تعالى أو حديث رسوله عليه السلام أو أقوال الشعراء والحكماء والوعاظ وأن لكل فيه فهم مخصوصاً على قدر قابليته واستعداده فأعلم أن أهم مقاصدي من وضع هذا الكتاب فهم تأويل كلام الله تعالى كما هو مراد له بما دلت السنة عليه مما يقرب إلى الله ويعرف العبد به سبحانه وتعالى وبما أخبر عنه من الأمور التي أمنا بها غيباً ولما كان مجال الكلام في تأويل القران ضيقاً لأمور لا تحصى وكان الحديث تابعاً للقران في هذا الحكم تحدثنا على تأويل الأشعار فإن السماع عند الأكثرين ركن من الأركان المعظمة الشعار وما اختلف من أختلف فيه غالباً إلا لقصور عن فهم حقيقة السماع واحتجاباً بظاهر حكم الـ...... والزمان متى فتح على المريد الفهم عن الله في السماع وظهر له تأويل ذلك فيما يناسب مطلوبه بحكم حسن الاستماع يجد بذلك قوة في قابليته، ثم أعلم أن اختلاف الفهوم فيما يسمعه منوط بمقام السماع كما تقدم ذكره على قدر قابليته لا يحسن أن يتعدى مقامه ضرورة ومن هنا وقع الخلاف بين سائر العالمين في جميع ما اختلفوا فيه لأن كلا يحمل المعنى على ما يقتضيه أمره ومقتضيات أمور العالم مختلفة لاختلاف أحوالها وأحوالها مختلفة لاختلاف سوابقها وسوابقها مختلفة لاختلاف قوابلها وقوابلها مختلفة لاختلاف محاتدها ومحاتدها مختلفة لاختلاف تجليات الأسماء والصفات فهذا محتده من أسم الجمال وهذا محتده من أسم الجلال وهذا محتده من أسم الهدى وذاك محتده الضلال لتقابل أسميه الهادي والمضل والمنعم والمنتقم والقريب والبعيد إلى غير ذلك من أسماء الله تعالى لأن العالم جميعه أثارها فأثر هذا مباين لأثر هذا ومن هنا حصل الخلاف في العالم فمن كان مظهر أثر أسمه الهادي لا يكون مظهر أثر أسمه المضل فلأجل هذا تميزت المراتب وظهرت المناصب فحفظ كل مرتبة من الوجود بإقامته فيها ولولا المقيم لأنعدم المقام وذلك محال فجعل الحق تعالى ظهور عباده مناسباً لأثار أسمائه وصفاته فكل منهم مظهر لمحتده الذى تجلى الله عليه به لما أوجده في علمه فهو يعرف الله ويعبده من حيث ذلك الاسم والصفة وبهذا الاعتبار ما في الوجود شيء إلا وهو يعبد الله تعالى ويؤيد ما قلناه قوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وقوله عليه السلام: (كل ميسر لما خلق له) فالجن والأنس ميسرون لعبادة الله عابدون له بالفطرة الأصلية قطعاً لا سبيل إلى غير ذلك وهذه العابرة الأصلية هى مجهولة لنا غير معلومة عندنا بحكم التفصيل لأن الله تعالى يقول: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) فكل مسبح عابد بالضرورة لأن التسبيح عبادة المسلم والكافر والحيوان والجماد والصور والمعاني والأرواح والأشباح كلهم يعبدون الله تعالى بهذه العبادة الأصلية التي فطر الخلق عليها فمنهم من يعلم عبادته لله ومنهم من لا يعلمها وهو الأكثر وعبادة التشريع عبادة أخرى غير هذه العبادة المذكورة جعلها الله سبباً لإقامة الحجة على من حق عليهم القول في قوله: (وهؤلاء إلى النار ولا أبالى) وعلة للاعتراف بمحض الفضل لمن سبقت عنايته في حقهم بقوله: (هؤلاء إلى الجنة ولا أبالى) وإذا قد علمت ذلك فأعلم أن كل طائفة تأتى أمراً ما فهى مختلفة في ذلك فمنهم من يكمله ومن يقرب في الكمال ومن يقتصر على حروفه على قدر الاستعداد والقابلية التي جعلها الله في عباده فكذلك أهل السماع مختلفون في حمل المعاني على قدرهم فما من يسمع في التوبة كمن يسمع في مقام العبادة ولا من يسمع في مقام العبادة كمن يسمع في مقام الزهد ولا من يسمع في مقام الزهد كمن يسمع في مقام التوكل ولا من يسمع في مقام التوكل كمن يسمع في مقام الرضى ولا من يسمع في مقام الرضى كمن يسمع في مقام المحبة ولا من يسمع في مقام المحبة كمن يسمع في مقام الفناء ولا من يسمع في مقام الفناء كمن يسمع في مقام البقاء ولا من يسمع في التلوين كمن يسمع في التمكين لأن الناس مختلفون في طلب الله تعالى وسعادتهم متفاوتة فمنهم من يعبده ليطلب منه بعبادته أن يفعل له في الدنيا هو كيت وكيت ومنهم من يعبده فيطلب منه بعبادته أن يفعل له في الأخرى ومنهم من يعبده فيطلب منه بعبادته أن يجمع له بينهما ومن السعداء من يعبده فلا يطلب منه بعبادته جزاء غير النظر إلى وجهه الكريم ومن القوم من يعبده عبادة محضة ليس له إرادة شيء فلا يطلب بعبادته منه نظراً ولا نجاة يعبده لأنه سبحانه أهل أن يعبد فمن هؤلاء من تكون عبادته بدنية ومنهم من تكون عبادته قلبية ومنهم الجامع ومنهم من يدوم في العبادة ومن يفتر فيها والذين عبادتهم بدنية منهم من تكون عبادته فعل الأركان ومنهم من تكون عبادته مخالفات النفوس بالرياضات والمجاهدات والمكابدات ومنهم من تكون عبادته بالبكاء والعويل أو الدعاء والاستغفار أو الذكر أو التلاوة أو غير ذلك من الأعمال البدنية والذين عبادتهم قلبية منهم من تكون عبادته على المحبة ومنهم من تكون عبادته شوقاً إليه ومنهم من تكون عبادته ولهاً به ومنهم من تكون عبادته شهود رقم أسم الله بقلبه ومنهم من تكون عبادته ملاحظة أثار الله تعالى بقلبه ومنهم من تكون عبادته تصور ما به يعلمه في الله ومنهم من تكون عبادته استحضار كون الحق تعالى ينظر إليه ويسمعه ويعلمه ومنهم من تكون عبادته شهود أنوار الصانع في مصنوعاته ومنهم من تكون عبادته شهود صفات الله تعالى وأثرها في الوجود ومنهم من تكون عبادته شهود فعل الحق تعالى بالعالم في الحركات والسكنات فلو رأى متحركاً لشهد الحركة بفعل الله لا بفعل ذلك المتحرك ولو سمع أو رأى أو شهد لشهد أن سمعه ورؤيته وشهوده بفعل الله وقدرته وأرادته تعالى ومنهم من تكون عبادته شهود واحدية الحق تعالى بعين قلبه ومنهم من تكون عبادته شهود انعدام الموجودات لظهور وجود الحق تعالى ثم منهم من يكون شهوده هذا بعين قلبه لا غير ومنهم من يتحد عين قلبه بعين بصره فيجد ذلك بشهود مقلته لقوة انهماكه فيه كما تتصور للشخص في بعض الأحيان الأمور الخيالية فيشاهدها ببصره ومنهم من تكون عبادته معرفة الأسماء والصفات ولا يتوهم أن معرفة هذا للأسماء والصفات من قبيل معرفتنا لها بل يعرفها معرفة أخرى ملحقة بمعرفة الله تعالى لأسمائه وصفاته لأنه لما تجلى عليهم بها عرفهم إياها فعرفوا الأسماء والصفات بذات الله تعالى ومنهم من تكون عبادته معرفة ذات الله تعالى فهذه المعرفة مستفادة من الوجود الحقيقي لأنها لا تدخل تحت العبادة فهى معرفة وجودية ذوقية وهؤلاء هم الأفراد وآحاد الآحاد فما من متحرك في السماع بنفسه كمن يتحرك فيه بربه ولا من يتحرك بربه كمن حركه ربه فتحرك ضرورة فليس له تعمل الحركة بوجه من الوجوه فكل سامع من هؤلاء له فيما يسمع تأويل يليق بحاله فمنهم من يفاجئه ذلك التأويل ضرورة وهو الواجد ومنهم من يتأوله وهو المتواجد وتجمع هذا الأصناف كلها أربعة أجناس وهى السالك والناسك والمحب والمجذوب لأن لفظة الناسك العبادة والزهاد والمتوكلين وأمثالهم ولفظة السلوك تجمع أهل قصد المخالفات ولفظة الحب تجمع المريدين وسائر أهل الطلب لله ولفظة الجذب تجمع الواصل و......وها أنا أتكلم لك على هذه المراتب في تأويل كل كلمة مما يسوغ حمله على المعنى اللائق بالسماع كما أعرفه بذوق المقام على قدر إفهام العامة وأترك ما فوق ذلك من موارد علم أهل التمكين لأن وقتنا هذا لا يسع حمل الكلام في ذلك.
ويارب علم غامض جل قدره | خشينا عليه الحادثات فأهملا |
ولو لم تكن ترتاب من فهم جاهل | لكان مع الإخوان علمي محصلاً |
ولكنهم لما إلى الأرض أخلدوا | داعهم دواعي الحقد في العلم قول لا |
إلى أن تغشى العلم منهم غشاوة | وجل بهم مرشوم فقدانه البلاء |
وقد كانت الأيام ذا داب أهله | فلا يلم الجمال فيه أخو العلا |
وقد أن أوان شد دعينا في الأبواب على حسب ما سبق الوعد به في أول الكتاب والله تعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.