بيان وأعلام(*)
اعلم أنَّ الحق -سبحانه وتعالى- تَوَلَّاكَ بتدبيره على جميع أطوارك، وقام لك في كل ذلك بوجود إبرازك؛ فقام لك بحسن التدبير يوم المقادير، يوم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: 172].
ومن حسن تدبيره لك حينئذ أن عَرَّفَكَ به فعرفته، وتجلى لك فشهدته، واستنطقك وألهمك الإقرار بربوبيته فَوَحَّدْتَه، ثم إنَّه جعلك نطفة مستودعة في الأصلاب، وتَوَلَّاكَ بتدبيره هنالك، حافظًا لك، وحافظًا لما أنت فيه، مواصلًا لك المدد بواسطة من أنت فيه من الآباء إلى أبيك آدم، ثم قذفك في رحم الأم، فتولاك بحسن التدبير حينئذ، وجعل الرحم قابلة([1]) لك أرضًا يكون فيها نباتك ومستودعًا تعطى فيها([2]) حياتك، ثم جمع بين النطفتين، وأَلَّفَ بينهما فكنت عنهما؛ لما بنيت عليه الحكمة الإلهية من أنَّ الوجود كله مبني على سر الازدواج، ثم جعلك بعد النطفة علقة مهيأة لما يريد -سبحانه وتعالى- أن ينقلها إليه، ثم بعد العلقة مضغة، ثم فَتَقَ -سبحانه وتعالى- في المضغة صورتك، وأقام بنيتك، ثم نفخ فيك الروح بعد ذلك، ثم غَذَّاكَ بدم الحيض في رحم الأم، فأجرى عليك رزقه من قبل أن يخرجك إلى الوجود، ثم أبقاك في رحم الأم حتى قويت أعضاؤك واشتدت أركانك؛ ليهيئك إلى البروز إلى ما قسم لك أو عليك، وليبرزك إلى دار يتعرف فيها بفضله وعدله إليك.
ثم لما أنزلك إلى الأرض([3]) علم -سبحانه وتعالى- أنك لا تستطيع تناول خشونات المطاعم، وليس لك أسنان ولا أرحاء تستعين بها على (ما أنت طاعم)([4])؛ فأجرى الثديين بغذاء لطيف، ووكل بهما مستحث الرحمة في قلب الأم، كلما وقف اللبن عن البروز استحثته الرحمة التي جعلها لك في الأم مستحثًا لا يفتر، ومستنهضًا لا يقصر، ثم إنَّه شغل الأب والأم بتحصيل مصالحك والرأفة عليك، والنظر بعين المودة منها إليك، وما هي إلا رأفة ساقها إليك، وإلى العباد في مظاهر الآباء والأمهات؛ تعريفًا بالوداد، وفي حقيقة الأمر ما كفاك إلا ربوبيته، وما حضنك إلا إلهيته.
ثم ألزم الأب القيام بك إلى حين البلوغ، وأوجب عليك ذلك؛ رأفة منه بك، ثم رفع قلم التكليف عنك إلى أوان تكمل الأفهام، وذلك عند الاحتلام، ثم إلى أن صرت كهلًا لم يقطع عنك نوالًا ولا فضلًا، ثم إذا انتهيت إلى الشيخوخة، ثم إذا قدمت عليه، ثم إذا حشرت إليه، ثم إذا أقامك بين يديه، ثم إذا أسلمك من عقابه، ثم إذا أدخلك دار ثوابه، ثم إذا كشف عنك وجود حجابه، وأجلسك مجلس أوليائه وأحبابه، قال -سبحانه وتعالى-: ﴿إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾([5])، فلأي إحسانه تشكر، وأي آلائه وأياديه تذكر؟!.
واسمع قوله تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ﴾([6]) تعلم أنَّك لم تخرج، ولن تخرج عن إحسانه، ولن يعدوك وجود فضله وامتنانه.
وإن أردت البيان في تقلبات([7]) أطوارك، فاسمع ما قاله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾([8]) -تبدو لك بوارقها، وتبسط عليك شوارقها، وفي ذلك ما يلزمك أيها العبد الاستسلام إليه والتوكل عليه، ويضطرك إلى إسقاط التدبير وعدم منازعة المقادير، والله الموفق.
الثاني: أن تعلم أنَّ التدبير منك لنفسك جهل منك بحسن النظر لها؛ فإن المؤمن قد علم أنه إذا ترك التدبير مع الله كان له بحسن التدبير منه؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾([9])، فصار التدبير في إسقاط التدبير، والنظر للنفس ترك النظر لها، فافهم ها هنا قوله تعالى: ﴿وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾([10])؛ فباب التدبير من الله لك هو إسقاط التدبير منك لنفسك.
الثالث: علمك بأنَّ القدر لا يجري على حسب تدبيرك، بل أكثر ما يكون ما لا تدبر، وأقل ما يكون ما أنت له مدبر، والعاقل لا يبني بناء على غير قرار، فمتى تتم مبانيك والأقدار تهدمها!.
وعن التمام قصدها شعرًا:
متى يبلغ البنيان يومًا تمامه |
* | إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم |
وإذا كان التدبير منك والقدر يجري على خلاف ما تدبر، فما فائدة تدبير لا تنصره الأقدار، وإنَّما ينبغي أن يكون التدبير لمن بيده أَزِمَّةُ المقادير؛ ولذلك قيل شعر:
ولما رأيت القضا جاريًا |
* | بلا شك فيه ولا مرية |
توكلت حقًّا على خالقي |
* |
وألقيت نفسي مع الحرية
|
الرابع: علمك بأنَّ الله تعالى هو المتولي لتدبير مملكته علوها وسفلها، غيبها وشهادتها، وكما سلمت له تدبيره في عرشه وكرسيه، وسماواته وأرضه، فسلم له تدبيره في وجودك (إلى هذه العوالم)([11])؛ فإن نسبة وجودك إلى هذه العوالم نسبة توجب تلاشيك، كما أن نسبة السماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة إلى الكرسي كحلْقة ملقاة في فلاة من الأرض، والكرسي والسماوات السبع والأرضون([12]) السبع بالنسبة إلى العرش كالحلقة الملقاة في فلاة من الأرض، فماذا عسى أن تكون أنت في مملكته!.
فاهتمامك بأمر نفسك وتدبيرك لها منك جهل بالله، بل الأمر كما قال سبحانه: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾([13])، فلو أنَّ العبد عرف ربه لاستحى أن يدبر مع، ولا قذف بك في بحر التدبير إلا حجبتك عن الله؛ لأنَّ الموقنين لما كشف عن بصائر قلوبهم شهدوا أنفسهم مُدَبَّرَينَ لا مُدَبِّرِينَ، ومُصَرَّفِينَ لا مُتَصَرِّفِينَ، ومُحَرَّكِينَ لا مُتَحَرِّكِينَ، وكذلك عُمَّارُ الصفيح الأعلى، مشاهدون لظهور القدرة ونفوذ الإرادة.
وتعلق القدرة بمقدورها والإرادة بمرادها، والأسباب معزولة في مشهدهم؛ فلذلك طهروا من الدعوة لما هم عليه من وجود المعاينة وثبوت المواجهة؛ فلذلك قال سبحانه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾([14])؛ ففي هذا تزكية للملائكة، وإشارة إلى أنهم لم يكونوا مع الله مدعين لما خَوَّلَهُمْ ولا منتسبين لما نسب إليهم؛ إذ لو كان كذلك لقال: إنَّا نحن نرث الأرض والسماء، بل نسبتهم إليه وهيبتهم له، وَوَلَهُهُمْ من عظمته منعهم أن يركنوا لشيء دونه.
فكما سلمت لله تدبيره في سمائه وأرضه، فسلم له تدبيره في وجودك، ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾([15]).
الخامس: علمك بأنَّك ملك لله، وليس لك تدبير ما هو لغيرك، فما ليس لك ملكه ليس لك تدبيره، وإذا كنت أيها العبد لا تنازع فيما تملك، ولا ملك لك إلا بتمليكه إياك، وليس لك ملك حقيقي، وإنَّما هي نسبة شرعية أوجبت الملك لك من غير شيء قائم بوصفك، تستوجب به أن تكون مالكًا؛ فألا تنازع لله فيما يملكه أولى وأحرى.
لا سيما وقد قال -سبحانه وتعالى-: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾([16]).
فلا ينبغي لعبد بعد المبايعة تدبير ولا منازعة؛ لأنَّ ما بِعْتَهُ وجب عليك تسليمه وعدم المنازعة فيه، فالتدبير فيه نقض لعقد المبايعة، ودخلت على الشيخ أبي العباس المرسي -رحمه الله- يومًا فشكوت إليه بعض أمري فقال: «إن كانت نفسك لك فاصنع بها ما شئت، ولن تستطيع ذلك أبدًا، وإن كانت لبارئها فَسَلِّمْهَا له يصنع بها ما شاء»، ثم قال: «الراحة في الاستسلام إلى الله وترك التدبير معه، وهو العبودية».
قال إبراهيم بن أدهم([17]) -رحمه الله-: «نمت ليلة عن وردي فاستيقظت فندمت، فنمت بعد ذلك ثلاثة أيام عن الفرائض، فلما استيقظت سمعت هاتفًا يقول شعرًا:
كل شيء لك مغفور سوى الإعراض عنا |
قد غفرنا لك ما فات بقي ما فات منا |
ثم قيل لي: يا إبراهيم، كن عبدًا. فكنت عبدًا فاسترحت». اهـ.
السادس: علمك بأنك في ضيافة الله؛ لأنَّ الدنيا دار الله، وأنت نازل فيها عليه، ومن حق الضيف ألَّا يعول همًّا مع رب المنزل.
قيل للشيخ أبي مدين([18]) -رحمه الله-: «يا سيدي، ما لنا نرى المشايخ يدخلون في الأسباب وأنت لا تدخل فيها؟ فقال: يا أخي أنصفونا، الدنيا دار الله ونحن ضيوفه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «الضيافة ثلاثة أيام»([19])؛ فلنا عند الله ثلاثة أيام ضيافة، وقد قال تعالى: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾([20])، فلنا عند الله ثلاثة آلاف سنة ضيافة، مدة إقامتنا في الدنيا منها
وهو مكمل ذلك بفضله في الدار الآخرة، وزائد على ذلك الخلود الدائم».
السابع: «نظر العبد إلى قيومية الله تعالى في كل شيء»، ألم تسمع قوله تعالى: ﴿اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ﴾([21])؛ فهو -سبحانه وتعالى- قَيُّومُ الدنيا والآخرة، قَيُّومُ الدنيا بالرزق والعطاء، والآخرة بالأجر والجزاء.
فإذا علم العبد قيومية ربه به وقيامه عليه -ألقى قياده إليه، وانطرح بالاستسلام بين يديه؛ فألقى نفسه بين يدي ربه مسلمًا، ناظرًا لما يرد عليه من الله حكمًا.
الثامن: هو اشتغال العبد بوظائف العبودية التي هي مغياة بالعمر، لقوله: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾([22])، فإذا توجهت همته إلى رعاية عبوديته شغله ذلك عن التدبير لنفسه والاهتمام لها، قال الشيخ أبو الحسن -رحمه الله تعالى-: «اعلم أنَّ لله تعالى عليك في كل وقت سهمًا في العبودية، يقتضيه الحق -سبحانه وتعالى- منك بحكم الربوبية، والعبد مطالب بذلك كله ومسئول عنه، وعن أنفاسه التي هي أمانة الحق عنده، فأين الفراغ لأولي البصائر عن حقوق الله، حتى يمكنهم التدبير لأنفسهم والنظر في مصالحها باعتبار حظوظها ومآربها([23])، ولا يصل أحد إلى منة الله إلا بغيبته عن نفسه وزهده فيها، مصروفة همته إلى مَحَابِّ الله تعالى»، متوفرة دواعيه على موافقته، دائبًا على خدمته ومعاملته، فبحسب غيبتك عن نفسك فناء عنها، يبقيك الله به؛ لذلك قال الشيخ أبو الحسن: «أيها السابق إلى سبيل نجاته، الشائق إلى حضرة جنابه، أقلل النظر إلى ظاهرك إن أردت فتح باطنك لأسرار ملكوت ربك».
التاسع: وهو أنَّك عبد مربوب، وحق العبد ألَّا يعول همًّا مع سيده، مع اتصافه([24]) بالإفضال وعدم الإهمال؛ فإن روح مقام العبودية الثقة بالله والاستسلام إلى الله تعالى، وكل واحد منهما يناقض التدبير مع الله تعالى والاختيار معه، بل على العبد أن يقوم بخدمته، والسيد يقوم له بِمِنَّتِهِ، وعلى العبد القيام بالخدمهْ، والسيد يقوم له بوجود القسمهْ، فافهم قوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ﴾ ([25])؛ أي قم بخدمتنا، ونحن نقوم لك بإيصال قسمتنا.
العاشر: عدم علمك بعواقب الأمور، فربما دبرت أمرًا ظننت أنه لك فكان عليك، وربما أتت الفوائد من وجوه الشدائد والشدائد من وجوه الفوائد، والأضرار من وجوه المسارِّ، والمسار من وجوه الأضرار ([26])، وربما كمنت المنن في المحن، والمحن في المنن، وربما انتفعت على أيدي الأعداء، وأرديت على أيدي الأحباب.
فإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن عاقلًا([27]) أن يدبر مع الله، ولا يدري المَسَارَّ فيأتيها، ولا المَضَارَّ فيتقيها!.
ولذلك قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله: «اللهم إِنَّا قد عجزنا عن دفع الضر عن أنفسنا من حيث نعلم بما نعلم؛ فكيف لا نعجز عن ذلك من حيث لا نعلم بما لا نعلم!»، ويكفيك قوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾([28])، وكم مرة أردت أيها العبد أمرًا فصرفه عنك فوجدت لذلك غمًّا في قلبك وحرصًا في نفسك، حتى إذا كشف لك عن عاقبة([29]) ذلك علمت أنه سبحانه نظر لك بحسن النظر من حيث لا تدري، وخار لك من حيث لا تعلم، وما أقبح مريدًا لا فهم له، وعُبَيْدًا لا استسلم له! فكن كما قيل:
وكم رمت أمرًا خرت لي في انصرافه |
* | فلا زلت بي مني أبر وأرحما |
عزمت على ألَّا أحس بخاطر |
* | على القلب إلا كنت أنت المقدما |
وألا تراني عند ما قد نهيتني |
* | لكونك في قلبي كبيرًا معظما |
ويحكى أنَّ بعضهم كان إذا أصيب بشيء أو ابتلي به، يقول: «خيرة» فاتفق ليلة أن جاء ذئب فأكل ديكًا له، فقيل له به، فقال: «خيرة»، ثم ضرب في تلك الليلة كلبه فمات، فقيل له فقال: «خيرة»، ثم نهق حماره فمات، فقال: «خيرة»؛ فضاق أهله بكلامه هذا ذرعًا، فاتفق أن نزل في تلك الليلة عرب أغاروا عليهم، فقتلوا كل من بالمحلة، ولم يسلم غيره وأهل بيته.
استدل العرب النازلون (على الناس بصياح الديك)([30]) ونباح الكلب، ونهيق الحمير، وهو قد مات كل ذلك؛ فكان هلاك هذه الأشياء سببًا لنجاته؛ فسبحان المدبر الحكيم.
وإنَّ العبد لا يشهد حسن تدبير الله إلا إذا انكشفت له العواقب، وليس هذا مقام أهل الخصوص في شيء؛ لأنَّ أهل الفهم عن الله شهدوا حسن تدبير الله قبل أن تنكشف لهم العواقب، وهم في ذلك على أقسام ومراتب:
فمنهم من حَسَّنَ ظَنَّهُ بالله، فاستسلم له لما عوده من جميل صنعه ووجود لطفه، ومنهم من حَسَّنَ ظنه بالله؛ علمًا منه أنَّ الاهتمام والتدبير والمنازعة لا تدفع عنه ما قدر عليه، ولا تجلب له ما لم يقسم له:
ومنهم من حَسَّنَ الظن بالله تعالى لقوله — حاكيًا عن ربه: «أنا عند ظن عبدي بي»([31])؛ فكان متعاطيًا بحسن الظن بالله وأسبابه؛ رجاء أن يعامل بمثل ذلك فيكون الله له عند ظنه، ولقد يَسَّرَ الله للمؤمنين سبيل المنن؛ إذ كان عند ظنونهم: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾([32]).
وأرفع من هذه المراتب كلها الاستسلام إلى الله تعالى، والتفويض له بما يستحقه الحق من ذلك لا لأمر يعود على العبد؛ فإنَّ المراتب الأُوَلَ لم تخرج العبد عن رق العلل؛ إذ من استسلم له بحسن عوائده استسلامه معلول بعوائد الألطاف السابقة، فلو لم تكن لم يكن استسلامه، والثاني أيضًا كذلك؛ لأن ترك التدبير مع الله -لكونه لا يجدي شيئًا- ليس هو تركًا لأجل الله؛ لأنَّ هذا العبد لو علم أن تدبيره يجدي شيئًا فلعله كان غير تارك للتدبير.
وأما الذي استسلم إلى الله تعالى، وحَسَّنَ ظَنَّهُ به ليكون له عند ظنه -فهو إنما يسعى([33]) في حظ نفسه، مشفقًا عليها أن يفوتها الفضل بعدوله عن الاستسلام (وحسن الظن بالله. ومن استسلم إلى الله وحسن ظنه به)([34]) لما هو عليه من عظمة الألوهية ونعوت الربوبية؛ فهذا هو العبد الذي دَلَّ على حقيقة الأمر، وحَرِيٌّ أن يكون هذا من الذين قال رسول الله > فيهم: «إنَّ لله عبادًا التسبيحة الواحدة منهم مثل جبل أحد».
ولقد عاهد الله -سبحانه وتعالى- العباد أجمع على إسقاط التدبير معه، بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾([35])؛ لأنَّ إقرارهم بأنه ربهم يستلزم ذلك إسقاط التدبير معه، فهذه معاقدة كانت قبل أن تكون النفس التي هي محل الاضطراب المدبرة مع الله تعالى، ولو بقي العبد على تلك([36]) الحالة الأولى التي هي كشف الغطاء ووجود الحضرة؛ لما أمكنه أن يدبر مع الله.
فلما أسدل الحجاب وقع التدبير والاضطراب، فلأجل ذلك أهل المعرفة بالله المشاهدون لأسرار الملكوت لا تدبير لهم مع الله؛ إذ وجود المواجهة أَبَى لهم ذلك، وفسخ عزائم تدبيرهم، وكيف يدبر مع الله عَبْدٌ هو في حضرته ومشاهد لكبرياء عظمته.
([17]) هو أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم ابن منصور، من كورة بلخ }، يقول عنه صاحب «الحلية»: «...ومنهم الحازم الأحزم والعازم الألزم، أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم، أيد بالمعارف فوجد، وأمد بالملاطف فعبد...، كان شرع الرسول نهجه، واختياره — مرجعه» اهـ. كان عامة دعائه: «اللهم انقلني من ذل معصيتك إلى عز طاعتك»، ومن كلامه }: «من علامة العارف بالله أن يكون أكبر همه الخير والعبادة، وأكثر كلامه الثناء والمدحة»، ومن كلامه أيضًا: «واعلم أنَّك لا تنال درجة الصالحين حتى تجوز ست عقبات:
أولاها: تغلق باب النعمة، وتفتح باب الشدة، والثانية: تغلق باب العز، وتفتح باب الذل، والثالثة: تغلق باب الراحة وتفتح باب الجهد، والرابعة: تغلق باب النوم، وتفتح باب السهر، والخامسة: تغلق باب الأمل، وتفتح باب الاستعداد للموت...». اهـ. وصادف } راعيًا لأبيه فأخذ جبة للراعي من صوف ولبسها، وأعطاه فرسه وما معه، ثم إنه دخل البادية، ثم دخل مكة وصحب بها سفيان الثوري والفضيل بن عياض، ودخل الشام ومات بها، رضي الله عنه ورحمه رحمة واسعة.
([18]) هو الشيخ أبو مدين المغربي رضي الله تعالى عنه ورحمه، كان من أعيان مشايخ المغرب وصدور المربين، وشهرته تغني عن تعريفه، واسمه شعيب، ولده مدين، وهو المدفون بمصر بجامع الشيخ عبد القادر الدشطوطي، ببركة الفرع خارج السور مما يلي شرقي مصر، عليه قبة عظيمة وقبره يزار، وأما والده فهو مدفون بتلمسان بأرض المغرب في جبانة العبادلة وقد ناهز الثمانين، وقبره ظاهر ثَمَّ يزار، وكان أبو مدين ظريفًا جميلًا، متواضعًا زاهدًا ورعًا، محققًا مشتملًا على كرم الأخلاق }، ومن كلامه }: «ليس للقلب إلا وجهة واحدة متى توجه إليها حجب عن غيرها». انظر «الطبقات الكبرى» للإمام الشعراني.
([19]) رواه البخاري عن أبي شريح، ورواه أحمد في مسنده وأبو داود، ولفظه عن أبي هريرة } أن رسول > قال: «الضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة».
([31]) هذا الحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة ونصه: يقول عز وجل فيما يرويه رسول الله >: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرن في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليَّ شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» [متفق على صحته].