التدبير والاختيار(*)
فائدة: اعلم أنَّ التدبير والاختيار وباله عظيم وخطره جسيم؛ وذلك أَنَّا نظرنا فوجدنا أن آدم — إنما حمله على أكل الشجرة تدبيره لنفسه؛ وذلك أنَّ الشيطان قال لآدم وحواء -عليهما السلام- كما قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ﴾([1])؛ ففكر آدم — في نفسه، فعلم أنَّ الخلود في جوار الحبيب هو المطلوب الأسنى، وانتقاله من الآدمية إلى وصف الملكية([2])، إما أن يكون لأنَّ وصف الملكية أفضل، أو ظن آدم — أنَّ ذلك أفضل.
فلما دَبَّرَ — في نفسه هذا التدبير أكل من الشجرة (فما أتى إلا من عين وجود التدبير) ([3])، وكان مراد الحق منه ذلك لينزله إلى الأرض ويستخلفه فيها؛ فكان هبوطًا في الصورة، وترقيًا في المعنى؛ ولذلك قال الشيخ أبو الحسن -رحمه الله-: «والله ما أنزل الله آدم إلى الأرض لينقصه، وإنما أنزله إلى الأرض ليكمله»، فلم يزل آدم — راقيًا إلى الله تعالى تارة على معراج التقريب والتخصيص، وتارة على معراج الذلة والمسكنة، وهو في التحقيق أَتَمُّ، ويجب على كل مؤمن أن يعتقد أنَّ النبي والرسول لا ينتقلان من حالة إلا إلى حالة أكمل منها، وافهم ها هنا قوله -سبحانه وتعالى-: ﴿وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى﴾([4])، قال ابن عطية:([5]) «وللحالة الثانية خير لك من الأولى»، وإذ قد عرفت هذا فاعلم أنَّ الحق -سبحانه وتعالى- له التدبير والمشيئة، وكان قد سبق من تدبير مشيئته أنَّه لا بد أن يعمر الأرض ببني آدم، وأن يكون منهم كما شاء، «منهم محسن، وظالم لنفسه مبين»([6])، وكان من تدبير حكمته: أن لا بد من تمام ذلك، وظهوره إلى عالم الشهادة، فأراد الحق سبحانه أن يكون تناول آدم للشجرة سببًا لنزوله إلى الأرض، ونزوله إلى الأرض سببًا لظهور مرتبة الخلافة التي مَنَّ عليه بها؛ ولذلك قال الشيخ أبو الحسن رضى الله عنه: «أَكْرِمْ بها معصية أورثت الخلافة وسَنَّتِ التوبة لمن بعده إلى يوم القيامة!»، وكان نزوله إلى الأرض بحكم قضاء الله تعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض.
قال الشيخ أبو الحسن رضى الله عنه: «والله لقد أنزل الله آدم إلى الأرض قبل أن يخلقه، كما قال سبحانه: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾([7])، فمن حسن تدبير الله تعالى لآدم أكله من الشجرة، ونزوله الأرض وإكرام الله تعالى إياه بالخلافة والإمامة».
وإذ قد انتهى بنا المقال إلى ها هنا، فلنتتبع الفوائد والخصائص التي منحها آدم — في هذه الواقعة؛ لنعلم أنَّ لأهل الخصوص مع الله حالًا ليست لمن سواهم، ولله فيهم تدبير لا يتوجه به لما عداهم؛ ففي أكل آدم من الشجرة ونزوله إلى الأرض فوائد، منها: أنَّ آدم وحواء -عليهما السلام- كانا في الجنة فتعرف إليهما بالرزق والعطايا والإحسان والنعماء، فأراد الحق -سبحانه وتعالى- من خفي لطفه في تدبيره أن يأكلا من الشجرة ليتعرف لهما([8]) بالحلم والستر والمغفرة والتوبة والاجتبائية.
أما الحلم([9]): فلأنه لم يعالجهما بالعقوبة حين فعلا، والحليم: هو الذي لا يعاجل بالعقوبة على ما صنعت، بل يمهلك إما إلى عفوه وإنعامه، وإما إلى سطوته وانتقامه.
الثاني([10]): هو أنَّ الله -سبحانه وتعالى- تَعَرَّفَ لهما بالستر؛ وذلك أنهما لما أكلا منها وبَدَتْ لهما سوآتهما بزوال ملابس الجنة سترها بورقها، كما قال الله تعالى: ﴿وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الجَنَّةِ﴾([11])؛ فكان ذلك من وجود ستره.
الثالث: هو أنَّه أراد الحق -سبحانه وتعالى- أن يعلمه باجتبائه له، وينشأ عن اجتبائه مقامان: التوبة إليه، والهداية من عنده، فأراد الحق سبحانه أن يعرف آدم — باجتبائه له وسابق عنايته فيه، فقضى عليه بأكل الشجرة، ثم لم يجعل أكله إياها سبيلًا([12]) لإعراضه عنه، ولا لقطع مدده منه، بل كان في ذلك إظهار لوده -سبحانه وتعالى- فيه، وعنايته به، كما قالوا: «من سبقت له العناية لم تضره الجناية»، ورُبَّ ود تقطعه المخالفة، والود الحقيقي: هو الذي يدوم لك من الواد لك موافقًا كنت أو مخالفًا، وليس في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ﴾ دليل على حدوث اجتبائية الحق فيه، بل كان قبل وجوده، وإنما الذي حدث بعد الذنب ظهور أثر الاجتبائية من الله له؛ فهو الذي قال فيه الحق -سبحانه وتعالى-: ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ﴾([13])؛ أي([14]) أظهر له أثر الاجتبائية فيه والعناية به بتسييره للتوبة إليه والهداية من عنده، فصار في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ تعريفات ثلاث: الاجتبائية، والتوبة التي هي نتيجتها، والهدى الذي هو نتيجة التوبة، فافهم!.
ثم أنزله إلى الأرض، فتعرف له بحكمته([15]) كما تعرف له في الجنة ببواهر قدرته؛ وذلك لأن الدنيا محل الوسائط والأسباب، فلما نزل آدم عليه الصلاة والسلام إلى الأرض علم الحراثة والزراعة وما يحتاج إليه من أسباب عيشته؛ ليحققه الله تعالى بما أعلمه به من قبل أن ينزل بقوله: ﴿فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾([16])، والمراد بقوله تعالى: ﴿فَتَشْقَى﴾ تعب الظواهر، لا الشقاوة التي هي ضد السعادة، والدليل على ذلك قوله تعالى: «فتشقى» ولم يقل فتشقيا؛ لأنَّ المتاعب والكلف إنما هي على الرجال دون النساء، كما قال تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ﴾([17])، ولو كان المراد شقاء بالقطيعة أو وجود الحجبة لقال: «فتشقيا»؛ فدل الإفراد على أنَّه ليس الشقاء هنا بقطيعته([18]) ولا إبعاده، مع أنه لو ورد كذلك لحملناه على الظن الجميل وأرجعناه إلى المتاعب الظاهرة على التأويل.
([5]) هو محمد بن علي بن عطية الحارثي أبو طالب، واعظ فقيه، اشتهر بمكة ورحل إلى بغداد فتوفي بها سنة 368هـ-996م. انظر «الأعلام» للزركلي، جـ3 ، ص144، و«وفيات الأعيان» لابن خلكان.