الموازنة بين المتجرد والمتسبب(*)
فصل:
لعلك ([1]) تفهم من هذا الكلام أن المتجرد والمتسبب في رتبة واحدة، وليس الأمر كذلك، ولن يجعل الله من تفرغ لعبادته، وشغل أوقاته به، كالداخل في الأسباب، ولو كان فيها متقنًا.
فالمتسبب والمتجرد إذا استوى مقامها من حيث المعرفة بالله فالمتجرد أفضل، وما هو فيه أعلى وأكمل؛ ولذلك قال بعض العارفين: «مَثَلُ المتسبب والمتجرد كعبدين للملك؛ قال لأحدهما: اعمل وكل من كسب يدك، وقال للآخر: الزم أنت حضرتي وخدمتي وأنا أقوم لك بما تريد».
فهذا قدره عند السيد أَجَلُّ، وصنعه به ذلك على العناية به أَدَلُّ، ثم إنه قَلَّمَا تسلم ([2]) من المخالفة، أو تصفو لك الطاعات مع الدخول في الأسباب؛ لاستلزامها لمعاشرة الأضداد ومخالطة أهل الغفلة والعناد، وأشد ما يعينك على الطاعات رؤية المطيعين، وأشد ما يدخل في الذنب رؤية المذنبين، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» ([3])، قال الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه |
* | فكل قرين بالمقارن يقتدي |
فإن كان ذا شرف فجانبه سرعة |
* | وإن كان ذا خير فقارنه تهتدي |
والنفس من شأنها التشبه والمحاكاة، والتزين بصفات من قارنها والمضاهاة، فصحبتك للغافلين معونة لها على وجود الغفلة؛ إذ الغفلة ملائمة لها من أصل الوضع، فكيف إذا انْضَمَّ إلى ذلك سبب مخالطة الغافلين!.
وقد تجد من نفسك أيها الأخ -وَفَّقَكَ الله- أنه لا يستوي([4]) حالة خروجك من منزلك وعودك إليه، وأنت في حين خروجك تغلب عليك الأنوار، وشرح الصدر، والعزم على الطاعة، والزهد في الدنيا، فتجدك إذا رجعت لست كذلك، ولا فيما هنالك، وما ذاك إلا لدنس المخالطة وانغماس القلوب في ظلمة الأسباب، ولو([5]) كانت الأسباب والمعاصي إذا ذهبت أثرها لم تعوق القلوب من المسير إلى الله تعالى بعد انفصالها([6]) ووجود زوالها، وإنما ذلك كالنار، فربما انقضى الإيقاد وبقي السواد.
ويحتاج المتسبب إلى شيئين: علم، وتقوى؛ فالعلم يعلم به الحلال والحرام، والتقوى تصده عن ارتكاب الآثام، فأما حاجته إلى العلم فإنه يحتاج إلى الأحكام المتعلقة بالمعاملة، بيعًا وسلمًا وصرفًا، وما يتعلق بذلك مع ما يحتاج إليه من أحكام الواجبات والفروض المعينات.