ذم الأشياء ومدحها(*)
فائدة: اعلم أنَّ الأشياء إنَّما تذم وتمدح بما تؤدي إليه.
فالتدبير المذموم: ما شغلك عن الله، وعَطَّلَكَ عن القيام بخدمة الله، وصَدَّكَ عن معاملة الله.
والتدبير المحمود: هو ما ليس كذلك، مما يؤديك إلى القرب من الله تعالى، ويوصلك إلى مرضاة الله، وكذلك الدنيا ليست تُذَمُّ بلسان الإطلاق، ولا تُمْدَحُ كذلك، وإنما المذموم منها ما شغلك عن مولاك، ومنعك الاستعداد لأخراك، كما قال بعض العارفين: «كل ما شغلك عن الله من أهل ومال وولد -فهو عليك مشئوم، والممدوح ما أعانك على طاعته، وأنهضك إلى خدمته». اهـ.
وبالجملة: ما وقع المدح به فهو ممدوح في نفس، وما وقع الذَّمُّ به فهو مذموم في نفسه، وقد جاء عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: «الدنيا جيفة قذرة مذرة»، وقال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم»([1]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله جعل ما يخرج من ابن آدم مثلًا للدنيا»([2])، فهذه الأحاديث تقتضي ذمها وتنفير العباد عنها، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر»([3]).
فالدنيا التي لعنها رسول الله -عليه الصلاة والسلام- هي الدنيا الشاغلة عن الله تعالى؛ ولذلك استثنى في الحديث فقال: «إلا ذكر الله وما والاه وعالم، أو متعلم»، فبين -عليه الصلاة والسلام- أنَّ هذا ليس من الدنيا، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تسبوا الدنيا»؛ أي: التي توصلكم إلى طاعة الله؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «فنعمت مطيةُ المؤمن».
فمدحها من حيث كونها مطية، لا من حيث إنَّها دار اغترار ووجود أوزار، وإذ قد علمت هذا فقد فهمت أن إسقاط التدبير ليس هو الخروج عن الأسباب حتى يعود الإنسان ضيعة فيكون كَلًّا على الناس، فيجهل حكمة الله في إثبات الأسباب وارتباط الوسائط، وقد جاء عن عيسى عليه السلام أنه مر بمتعبد فقال له: «من أين تأكل؟»، فقال: «أخي يطعمني»، فقال: «أخوك أعبد منك». اهـ. أي: أخوك -وإن كان في سُوقِه- أعبد منك؛ لأنه هو الذي أعانك على الطاعة، وفَرَّغَكَ لها([4]).
وكيف يمكن أن ينكر الدخول في الأسباب بعد أن جاء قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾([5])، وقوله: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾([6])، وقوله عليه الصلاة والسلام: «أحل ما أكل المرء من كسب يمينه، وإن داود نبي الله كان يأكل من كسب يمينه»([7])، وقوله عليه الصلاة والسلام: «أفضل الكسب عمل الصانع بيده إذا نصح»([8])، وقال صلى الله عليه وسلم: «التاجر الأمين الصدوق المسلم مع الشهداء يوم القيامة»([9])؛ فكيف يمكن أحد بعد هذا أن يذم الأسباب!.
لكن المذموم منها ما شغلك عن الله، وصَدَّكَ عن معاملته، ولو تركت هذه الأسباب وغفلت عن الله وبالتجريد كنت مذمومًا أيضًا، وليست الآفات داخلة على المتسببين فحسب، بل قد تدخل على المتجردين، كما تدخل على المتسببين «لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم»، بل قد يكون دخولها على المتجردين أشد؛ إذ الآفات الداخلة على المتسببين دخول في الدنيا مع عدم الدعوى منهم ظاهرهم كباطنهم، مع اعترافهم بالتقصير، ومعرفتهم بفضل المتفرغين لطاعة الله عليهم، وآفات المتجردين ربما كانت عُجْبًا أو كبرًا، أو رياء أو تصنُّعًا، أو تَزَيُّنًا للخلق بطاعة الله؛ استجلابًا لما في أيديهم.
وقد تكون الآفات اعتمادًا واستنادًا إلى الخلق، وأمارة ذلك ذمه للناس إذا لم يكرموه، وعتبه عليهم إذا لم يخدموه، فالمنغمس في الأسباب مع الغفلة أحسن حالًا من هذا بكثير، أحسن الله مِنَّا النِيَّات، وطهر نفوسنا من الآفات، بفضله وكرمه.
([1]) الحديث رواه أبو هريرة رضى الله عنه وقد ورد هذا الحديث بعدة روايات نذكر منها: روى الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله سبحانه وما والاه، أو معلمًا أو متعلمًا» [وقال الترمذي: حسن غريب]، ومنها: ما أخرجه الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضى الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالمًا أو متعلمًا»، ومنهما: ما أخرجه الترمذي أيضًا وابن ماجه، والبيهقي في «الشعب» عن أبي هريرة، والطبراني في «المعجم الأوسط» عن ابن مسعود رضى الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالمًا، ومتعلمًا»، ومنها: ما رواه الطبراني في «المعجم الكبير» عن أبي الدرداء رضى الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الدنيا معلونة ملعون ما فيها، إلا ما ابتغي به وجه الله تعالى»، ومنها: ما رواه أبو نعيم في «الحلية»، والضياء عن جابر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا ملعونة ما فيها إلا ما كان منها لله عز وجل».
([2]) هذا الحديث رواه أحمد في «مسنده»، والطبراني في «معجمه الكبير»، والبيهقي في «الشعب» عن الضحاك بن سفيان.
([3]) وقريب منه ما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر».
([7]) وفي رواية أخرى فيما أخرجه البخاري في «صحيحه»، وأحمد في «مسنده» عن المقداد بن معدي كرب رضى الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من عمل يديه، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده»، وفيما أخرجه أحمد في «مسنده» والطبراني في «المعجم الكبير»، والحاكم في «المستدرك»، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أطيب الكسب عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور» وفيما روي عن عائشة رضي الله عنها، فيما أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه، وإن ولده من كسبه».
([8]) ويشهد لصحة هذا الحديث الشريف حديث: «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من عمل يده... إلخ». وحديث: «أطيب الكسب عمل الرجل بيده... إلخ».
([9]) هذا الحديث الشريف رواه ابن ماجه، والحاكم في «المستدرك» عن ابن عمر رضي الله عنهما، وفي رواية أخرى: أخرج الترمذي والحاكم في «المستدرك» عن أبي سعيد رضى الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء».
وفي رواية أخرى عن ابن عباس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التاجر الصدوق لا يحجب من أبواب الجنة» [رواه البخاري]، وفي رواية أخرى أيضًا عن أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التاجر الصدوق تحت ظل العرش يوم القيامة» [رواه الأصبهاني في «ترغيبه»، والديلمي في «مسند الفردوس»].