شرح ما قاله الشيخ أبو العباس في حزبه(*) ([1])
فسأل من الله الرزق الهني وهو المتكفل به لطالب العلم، ثم فسر الرزق الهني بأنه الذي لا حجاب معه في الدنيا ولا حساب له في الآخرة؛ لأن ما وقعت فيه الحجبة فلا هناء فيه؛ إذ الحجبة توجب تَكَسُّرَ السر بالمنع عن المحاضرة، والصد عن المفاتحة، لا على ما يفهمه العموم من أن الرزق الهني الذي حصل من غير وجود تعب ولا نصب؛ فالهناء عند أهل الغفلة فيما يرجع إلى الأبدان، وعند أهل الفهم فيما يرجع إلى القلوب.
ووقوع الحجبة في الرزق: إما بشهود الغفلة والأسباب عن الله تعالى، وإما بأن تتناوله ليس قصدك التقوى على طاعة الله تعالى؛ فالأول: حجبة في الحصول، والثاني: حجبة في التنازل، وقول الشيخ: «ولا سؤال ولا حساب، ولا عقاب عليه في الآخرة»؛ فالسؤال: أن يكون عن حقوق النعيم؛ لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾([2])، وأكل -النبي عليه الصلاة والسلام- وبعض أصحابه طعامًا، ثم قال: «والله لتُسْأَلُنَّ عن نعيم هذا اليوم»([3])، وكان الشيخ رحمه الله يقول: السؤال على قسمين: سؤال تشريف، وسؤال تعنيف؛ فسؤال أهل الموافقة والعناية سؤال التشريف، وسؤال أهل الغفلة عن الله والإعراض عنه سؤال التعنيف.
وافهم -رحمك الله- أن الحق سبحانه وتعالى إنما يسأل أهل الصدق، وإن كان هو العالم بأخبارهم وبخفي أسرارهم؛ ليظهر مرتبة صدقهم للعباد، ويبشر محاسنهم في المعاد، كما يقول السيد لعبده: «ما صنعت في أمر كذا وكذا؟»، وهو يعلم أنه أحكمه وأتقنه، ولكن أراد أن يعلم الحاضرين اعتناءه بأمره، وقيامه وعنايته بشأنه، فافهم!.
وقول الشيخ -رحمه الله-: «ولا حساب»؛ فالحساب هو نتيجة السؤال، وإذا سلموا من السؤال سلموا من الحساب، وإذا سلموا من السؤال والحساب سلموا من المعاقبة، فذكرها الشيخ -رحمه الله- وإن كانت ملازمة؛ ليتبين ما يستلزم هذا الرزق من المنن التي لو انفردت واحدة منها لكان حَرِيًّا أن تطلب، وقول الشيخ -رحمه الله-: «على بساط علم التوحيد»؛ أي: على أن أشهدك فيما رزقتني، وأراك فيما أطعمتني؛ فلا أشهد ذلك من غيرك، ولا أضيفه لأحد من خلقك، وكذلك أهل الله لا يأكلون إلا على مائدة الله، أطعمهم من أطعمهم؛ لعلمهم أن غير الله تعالى لا يملك معه شيئًا؛ فيسقط بذلك شهود الخلق عن قلوبهم، فلم يصرفوا لغير الله حبَّهم، ولا وجهوا لمن سواه وُدهم؛ إذ رأوا أنه هو الذي أطعمهم، ومنحهم من فضله وأكرمهم.
قال الشيخ أبو الحسن -رحمه الله- يومًا: «إنا نحن لا نحب إلا الله تعالى»؛ أي: لا يتوجه الحب منا إلى الخلق، فقال له رجل: «قد أبى ذلك جدك يا سيدي»، بقوله -عليه الصلاة والسلام-: «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها»، فقال: «نعم، نحن قوم لا نرى المحسن إلا الله تعالى؛ فلذلك جبلت قلوبنا على محبته». اهـ.
ومن رأى أن المطعم هو الله -سبحانه وتعالى- تجدد عنده مزيد الحب على حسب ما يتجدد من تناول النعم لقوله عليه الصلاة والسلام: «أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه»([4])، وقد سبق بيانه، ومن رأى أن الله هو المطعم له صانته هذه المطالعة عن الذل للخلق، أو أنه يميل قلبه بالحب لغير الملك الحق، ألم تسمع قول إبراهيم الخليل —: ﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾([5]).
فشهد لله تعالى بانفراده بذلك، واعترف له تعالى بوحدانيته فيه، وقول الشيخ -رحمه الله-: «على بساط علم التوحيد والشرع»؛ لأنَّ من استرسل من إطلاق التوحيد، ورأى أن الملك لله، وأن لا ملك لغيره معه، ولم يتقيد بظواهر الشريعة -فقد قذف به في بحر الزندقة، وعاد حاله بالوبال عليه، ولكن الشأن أن يكون بالحقيقة مؤيدًا وبالشريعة مقيدًا، وكذلك المحقق، فلا منطلقًا مع الحقيقة، ولا واقفًا مع ظاهر إسناد الشريعة، وكان بين ذلك قوامًا؛ فالوقوف مع ظواهر الإسناد شرك، والانطلاق مع الحقيقة من غير تقييد بالشريعة تعطيل، ومقام أهل الهداية فيما بين ذلك من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين.
([3]) هذا الحديث ورد بعدة روايات منها: قال الإمام أحمد: حدثنا شريح بسنده عن أبي عسيب -يعني مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلًا فمرَّ بي؛ فدعاني فخرجت إليه، ثم مرَّ بأبي بكر، فدعاه فخرج إليه، فانطلق حتى دخل حائطًا لبعض الأنصار، فقال لصاحب الحائط: «أطعمنا» فجاء بعذق فوضعه، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم دعا بماء بارد فشرب، وقال: «لتُسْأَلُنَّ عن هذا يوم القيامة». اهـ.
ومنها ما رواه الإمام أحمد بسنده عن عمار، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رطبًا وشربوا ماءً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا من النعيم الذي تسألون عنه»، رواه النسائي من حديث طويل، ورواه ابن جرير بسنده عن أبي حازم عن أبي هريرة } وفيه: [...فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتسألن عن هذا يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع فلم ترجعوا حتى أصبتم هذا فهذا من النعيم»]. اهـ.