مقدمة السيد الرائد رضى الله عنه
باسم الله حامدًا مصليًا داعيًا
مقدمة بالغة الأهمية
وبعد، فاستجابة لرغبات غير محدودة تلقيناها، وقيامًا بفرضية البيان، ودفعًا للهجوم الموروث الْمُوَرَّثِ على السادة الصوفية وأهل الذكر -أهل الله- استخرنا الله في إصدار هذه الرسالة كمرجع قريب للصوفية الأبرار من صريح الكتاب وصحيح السنة.
ولقد تعمّدنا -غالبًا- ألا نلجأ في استدلالاتنا إلى كلام السادة ومنطقهم الذوقي مادمنا نخاطب -في الدرجة الأولى- إخواننا الذين ينكرون علينا ما نعاني من العبادة، وما نمارس من أساليب الذِّكْر، ويتهموننا مرةً بالتخريف، ومرة بالتبديع، وأخرى بالشرك، وثالثة بالكفر والزندقة والوثنية والفسوق والعصيان -في سطحية وسذاجة وجرأة ومجازفة ليس بينها وبين الاحتياط العلمي ولا الخط الأخلاقي أي نسب- مع الأسف الشديد، فلعلها هي الحماقة بعينها إن لم تكن شيئًا آخر أعمى منها للعقل والقلب جميعًا.
وهل ترى في الوجود كله أحمق من رجل عرف شيئًا وغابت عنه أشياء، ثم يجلس في مجلس الحاكم بأمره يوزع مراسيم الزندقة والتبديع والإكفار والشرك والتفسيق والخرافة، كأنه وَصِيٌّ على الله، متخذًا من جهله حجةً على علم الناس، يجعل الجنة إقطاعًا خاصًّا به وبمن معه، لا يدخلها إلا من كان مظهرُهُ، ومحضرُهُ محضَرَهُ، ومَخْبَرُهُ مَخْبَرَهُ.
إن هؤلاء الإخوة - غفر الله لهم - يزعمون أنهم ورثوا علم السنة وحدهم، ولا أحد غيرهم، ولو راجعوا الواقع لوجدوا أن أهل السنة بحقٍّ ليسوا غير الصوفية الصادقين، وأن رجال علم الحديث الذين يتلقطون فتات موائدهم ما منهم من رجل إلا وهو صوفي أو تلميذ لأستاذ صوفي أو في سنده إمام صوفي، أو من أصحاب الفضل عليه داعية صوفي لا محالة.
ولقد تركنا الحديث هنا عن المقامات الأخلاقية التي هي الركن الأول في التصوف مع العبادة، وكذلك المقامات الروحية التي هي ثمرة التعبد والأخلاق، فقد سبق إلى تفصيل ذلك ساداتنا من السلف، كالإمام الهروي الصوفي، والشيخ ابن القيم السلفي شارح الهروي، والعلَّامة ابن زروق الشاذلي، والإمام القشيري، والسهروردي، والمكي، والغزالي، والشعراني وغيرهم وغيرهم.
أما التصوف الجدلي القائم على التمنطق والفلسفة -وما هو منها- مما ينسب إلى أمثال الحلَّاج، والبسطاني، وابن عربي، والجيلي ونحوهم فقد أصبح جثة محنطة لا وجود له في حياة الصوفية إلا بمقدار العلم الخاص والبحث الأخص والتاريخ، وقد انتهى برجاله، فالحديث عنه حرث في الماء وكتابة على الهواء لأغراض قد تكون مشبوهة، أو هي كذلك في أكثر الأحيان.
أما موقفنا من هذا التصوف الجدلي فهو حُسْن الظنّ بالناس، فليس من أحد يجتهد ليدخل النار، أو ليكشف عورته عبر تواريخ المعرفة وتلاحق الأجيال.
ولهذا إن وجدنا لكلامهم تفسيرًا أو تأويلًا علميًّا مقبولًا أخذنا به لعلمنا بالتزامهم الرمز والإشارة وعُمق العبارة، وإنْ ترجَّح عندنا أنه مدرسوس عليهم -كما دُسَّ على المحدثين والفقهاء والمفسرين- قلنا بذلك ابتغاء وجه الله، وإلا توقفنا وفوضنا الأمر لعالم السر والنجوى حفاظًا على وحدة الأمة، وعدم شغلها بما يضر ولا ينفع، ومن حولها أهوال وأحداث مَنْ لم يهتم بِها أَثِمَ إِثْمًا موبقًا لا يُجدي معه اعتذار.
إن أصحاب التصوف الجدلي قد أفضَوْا إلى ما قدَّموا، فالهجوم عليهم والاستئساد على رِمَمِهم -وهم لا يملكون الدفع عن أنفسهم- نوع من الجبن العلمي أو الهستيريا الثقافية، أو العمالة للمذاهب الرامية إلى التسلط والهيمنة على المسلمين باسم الدين.
اللهم غفرانك، وإليك المصير.
محمد زكي إبراهيم