مقدمة هامة:
هذا الباب أصله الكشف، والإلهام، ومقامات الشهود، والشفافية في رياض الأذواق والمواجيد، على ما قدمناه في الباب السابق من القوانين.
ثم إن تصديقه أو التوقف فيه أو تركه ليس بذي بال، فإنما هو خاص بطائفة روحية ربانية من أهل السلوك، بل ليس هو شرطًا في سلوك ولا قرب ولا وصول، فلعل الانشغال به يكون من معوقات الوصول إلى الله.
ثم هو لا يتعارض مع كتاب ولا سنة، ولا مع معلوم من الدين بالضرورة، فهو من العفو المباح لمن جاهد فشاهد، ولمن أحسن الظن بأهله فصدقهم.
ومعارج الغيب لا نهاية لها، وعوالم الغيب نظام دقيق بالغ ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾ [آل عمران:163]، ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ [الأنعام:132]، ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ [الصَّفات:164]، ﴿وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء:21].
وعلى هذا الأساس أثبتنا هنا ما رجحنا قبوله وإمكانه، وجواز صحة وجوده في العالم الروحي المجرد للتثقيف، والإحاطة بلون من الفكر الشريف حول واقع أشرف.
وهذه المشاهد والكشوف والمنازلات أمور تجريبية عملية لا تخضع للنظر والتمنطق، وليتذكر المرء المنصف أن العالم يتكشف له كل يوم عن غيب جديد، حتى أصبح مستحيل الأمس واقعًا تطبيقيًا اليوم، وليكن في العلم دائمًا قوله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء:85]. وعالم المجهول المستور أضعاف عالم المعروف المشهور.
وليتذكر الناس كيف كان الإمام أبو حامد الغزالي فيلسوفًا ينكر كل هذه الجوانب، حتى إذا كابدها وعاناها وشاهدها قال قوله المعروف:
قد كان ما كان مما لست أذكره |
* | فظن خيرًا ولا تسأل عن الخبر |
ويقول السيد الوالد في هذا المجال الروحي:
يقول سادات التصوف العلي |
* | من كل عارف حكيم وولي |
وشرحه في المتاب لا يجوز |
* | بل هو كنز في النهي مكنوز |
فاكتمه، أو فقله بالإشارة |
* | لأهله، ولا تذع أسراره |
فيتهمك العمي أو ذوو السفه |
* | بالزندقات والدعاوي المؤسفه |
شأنهم التنقيط والتنبيط |
* | والله من ورائهم محيط |
فليتق الله من يتهم السادة بالتخريف والأوهام والشطح والخيال، فهو وغيره لن يحيط بسر الكون الأعظم وعليه أن يجرب، فليس هذا مجال التنظير والمقاولة، أو فليتوقف، وليدع أمرهم لمن هو أقرب إليهم وإليه من حبل الوريد، وهو القاهر ذو البطش الذي لا يطاق انتقامه.
﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء:36].
وهنا ننقل مشهدًا روحيًا لعالم الغيب من مشاهد الله، التي قد تختلف ولكنها لا تتعارض ولا تتناقض ولا تتنافى.
العلانية والقضايا الروحية:
إذا فرضنا قيام أهل عصر ما في صعيد واحد، ثم اخترنا أفضلهم، ثم عدنا فاخترنا أفضل هؤلاء، وظللنا نختار من كل جمع أفضلهم على الطريقة الهرمية التصاعدية لانتهينا إلى فرد واحد تتجمع فيه فضائل لم تتهيأ لغيره.
إذا سمينا هذا الذي فَضُلَ جميع أهل عصره (الغوث) تيمنًا وأخذًا من حديث (الضعفاء) الذين يغاث بهم الناس، ويستنزل بهم المطر والرزق والنصر، ثم قلنا إنه الوارث للمقام النبوي الأشرف في عصره لاختصاصه بطوائف الكمالات التي لم تكن لغيره فأظن، بل أتيقن أنه لا شيء في ذلك على الإطلاق؛ لأنه النتيجة الطبيعية للصورة.
وحين نتصور أن الذين يَلُوُنَ هذا (الغوث) في الترتيب التنازلي رجلان مثلًا، وأن الذين يَلُوُنَ هذين الرجلين أربعة، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وسمينا كل جماعة باسم: كالأوتاد، والنجباء، والأبدال، والأخيار...إلخ تيمنًا وأخذًا من الأحاديث والآثار التي حملت إلينا هذه الألفاظ بالنص، فلا أظن بل أتيقن أنه لاشيء في هذا على الإطلاق.
ثم تأتي مسألة تعيين العدد، وكذلك مسألة المجالات الروحية الخاصة بكل طائفة، فهي مسائل فرعية على هذا الأصل المُسَلَّم به، فلا قيمة للاختلاف فيها، وقد قررنا أننا ننقلها عن (أهل الكشف) واجتهادات الصوفية في مذهبهم، ومقام أهل الكشف مقام تطبيق تجريبي عندهم، لا يتأتى إدركه بالملاحاة([1]) النظرية، وهو مما لاتنكره المعاناة الفعلية، ولا يخذله الاستقراء الشخصي عمليًا في بعض الصالحين، وتشهد له آيات منها: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن:11]، ومنها: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ [الأنبياء:79]، ومنها: ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال:29]، وفي المقابلة آيات الختم على السمع والبصر والتغشية على القلوب، ويؤيده حديث (فراسة المؤمن) وحديث التحديث وعمر، وغيره مما هو في بابه.
اجتهاد أئمة التصوف:
وكما اجتهد أهل كل علم في تطبيق علومهم اجتهد هولاء السادة، فطبقوا قواعدهم هذه المؤيدة بالنقل، والعقل، والكشف، والذوق، والتجربة، وسلكوا بعض كبار الصالحين من السلف في سلك الترتيب الذي صح عندهم، كالأصحاب الأربعة في مقابلة الأملاك مثلًا، إلهامًا وربطًا بين عالمي الملك والملكوت.
وكان هذا مما كشف لهم عنه التقاءُ الأرواح الكبرى في عوالم الشهود والمكاشفة. والأرواح عالم حي صاخب مشحون بالنظام بالحركة، على ما قرره كبار علماء الإسلام وغيرهم، وهكذا لا ترانا خرجنا عن مضامين الكتاب والسنة.
ولما كانت القضية كما ترى جامعة بين طرفي العلم العقلي والوجداني الروحي كان أساسها التجربة، وما كان أساسه التجربة لم يقع تحت سلطان الأحكام النظرية المجردة، ولا شك أن عدم التسليم بشيء لا ينهض قط دليلًا على عدم وجوده، ولا يُغَيِّر شيئًا من الحقيقة عند أهلها. ودعوى الإحاطة بكل العلوم لا يطيقها عالم ولا يقبلها دين، والتجني على الناس فيما رجح عندهم بدليله لا علاقة له بمناهج العلم والعمل عند المصلحين.
وها نحن لا تزال تتكشف لنا بين اليوم والليلة حقائق كونية علمية وروحية، كان مجرد التفكير فيها كافيًا لإسكان صاحبها شهورًا في سراي المجانين، وكانوا يسمونها أوهامًا، وشعوذةً، وتخريفًا، وتوهيمًا، فأصبحت حقائق لا شك فيها.
مشهد من المقامات الكبرى:
أولًا: قالوا: المقامات الكبرى في العالم الروحي خمسة، (المقام الأكبر) فيها هو المقام المحمدي. ويمتاز بأنه لم يسبقه قدم إلى الله، ثم تأتي (المقامات الأربعة) الباقية، وهي على أقدام كبار الملائكة الأربعة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل. وهي بعد (مقام الإمامين) وهما على قدم: مالك، ورضوان، اللذين يمثلان صفتي الجمال والجلال. قالوا: وقد ثبتت هذه المقامات للسادة الخلفاء الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي.
فكان كل منهم في حياته الروحية على أكثر خصائص ملك من الملائكة الأربعة. وقد سبق إليها أولو العزم الأربعة من الأنبياء: (نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى) كما قد ثبتت هذه المقامات من بعد لأئمة المذاهب الأربعة ثم لغيرهم.
ثانيًا: أما بقية خواص الصحابة رضى الله عنه كأهل البيعة، والعشرة المبشرين بالجنة، وأهل بدر، وأصحاب مراتب الفقه بالدين من أمثال كُتَّاب الوحي، ورجال الفتوى، والمرشدين الموجهين إلى تعليم القبائل، وأصحاب المميزات الشخصية الخاصة ونحوهم، فكل منهم عند السادة على قدم نبي سابق، وكل نبي سابق يقوم على قدم ملك من كبار ملائكة الله في العالم الأعلى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدَّثر:31].
قالوا: أما كافة الصحابة فهم على أقدام صفوف الملائكة، وراثة عن صالحي الأمم السابقة يرتبطون معهم بمناسبات روحية وعلائق غيبية، يعلمها الله وحده بحكم ارتباط عالم الغيب بعالم الشهادة.
فـالنقباء الاثنى عشر كانوا على أقدام الحوارين الذين كانوا على أقدام الملائكة الموكلين بالبروج الاثنى عشر.
ثالثًا: وهكذا كلما خلا قدم بموت صاحبه رفع إليه من هو أهله من أحياء المستوى الذي يليه من التابعين فمن بعدهم إلى يوم القيامة. فلا تخلو المقامات الأربعة الكبرى، ولا المقامات الخاصة بعدها، ولا مقامات الكافة من قائم عليها إلى يوم القيامة. يشتهر منهم من يشتهر، ويستر منهم من يستر، فلا المشهور بأفضل من المستور يقينًا، ولا المستور بأكرم من المشهور يقينًا.
إنما: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾ [آل عمران:163]، ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ [الأنعام:132]، ﴿وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء:21]؛ ولهذا يجب أن يترك أمر تفضيلهم لمن يعلم حقيقتهم وحده سبحانه، وحسبنا حسن الظن الكافي بهم جميعًا، مع تمام التقدير، والتوقير، والإجلال.
رابعًا: قالوا: أما (القطب الغوث الفرد الجامع) وهو الختم الأعظم فهو عند السادة على (القدم المحمدي الأقدس) الذي لم يسبقه قدم إلى (الدرجة الرفيعة) ليلة المعراج، ولن يلحقه قدم في (المقام المحمود) يوم القيامة.
ثم إن رتبة (الغوثية) هذه تستغرق رتبة (الخضرية) وهي رتبة (الصديقية)، وإن كان بعض السادة يفرق بين درجة الصديقية والخضرية، وعلى كلٍّ فهما مندمجتين معًا في طريق الغوثية العظمى، وصاحبها هو (القائم الظاهر المشهود) في سلسلة الممهدين للإمام للمهدي الموعود، راجع رسالتنا عن المهدي.
خامسًا: وهنا لابد من تكرار القاعدة الآتية منعًا من اللجاجة بعلم أو جهالة:
عوالم ما وراء المنظور:
إن هذه المسائل كلها من عوالم الفيض وما وراء المنظور، وهي منازل ومراتب غيبية شاملة للكون كله، ولكل سالك فيها إحاطات ومدارك، ومشاهد وأذواق، ومواجيد خاصة أو مشتركة، وهي لا تخضع لقوانين المادة الغليظة التي تحكمنا، وإنما هي محكومة بنواميس واقعية دقيقة ومحددة من عالمها الروحي، ومادتها المستورة، ولذلك كانوا أهلها جميعًا على حق فيما بلغوا به، فكل منهم يصف ما يرى في مقامه الذي قد يختلف عن مقام غيره، ولكنه لا يعارضه ولا ينافيه في الحقيقة ونفس الأمر([2]).
فالإيمان بها أو التوقف فيه أو تجميدها أو استبعادها لا يقدح في العقيدة على قواعدها الشرعية المقررة، فإنها خصائص دون الفروع الشرعية، وهي ذاتيات روحية وشخصية تدور في الفلك الإسلامي الرحيب.
ولكن الإنكار عليها أو نفيها عند أهل الحق معوق عن السلوك مؤخر للوصول، معرض للسلب والاستدراج، موطيء لما قد يكون به سوء الخاتمة -والعياذ بالله-؛ لأنه حكم على مجهول لا يقين عليه لغير العالم به، فيسلم له.
الأقطاب الأربعة:
أما بعد: فإذا علمت هذا فقد علمت أن قصر المقامات الأربعة الكبرى على أصحاب الأسماء الأربعة الشهيرة وإغلاق الباب بعدهم دون سواهم يحتج إلى وقفة كبرى، فإن التحديد العلمي الصوفي الواقعي أن يضاف لفظ (أشهر) إلى أسماء السادة الأربعة، ويكون المعنى أنهم رضى الله عنه من أشهر من تولى هذه المقامات، كل في عصره، وخصوصًا أن الأربعة المشاهير لم يكونوا في عصر واحد.
فمثلًا: ولد البدوي بعد الرفاعي بنحو (82) سنة، وولد الدسوقي بعد الرفاعي بنحو (139) سنة، وولد الدسوقي -أيضًا- بعد البدوي بنحو (57) سنة، ولكنه أدركه، وهكذا نجد أن عصر الرفاعي والجيلاني سبق عهد البدوي والدسوقي بنحو قرن تقريبًا، فلم يجمع الأربعة المشاهير عصر واحد أبدًا، مما يؤكد نظريتنا العلمية الروحية التي قررناها، كما أشهدنا الله في عالم العقلانية والأرواح.
لا حرج على فضل الله:
وليس من حق أحد أن يتحكم في فضل الله فيقصره على عدد معين من الناس، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء:20]. فكما لا يمكن الجزم على أي حال بتفضيل ولي على ولي، مهما اشتهر وكثر أتباعه، كذلك لا يمكن الجزم على أي حال بإغلاق باب المدد بعد الأربعة المشــاهير والحكم على غيرهم بالتجمد أو الهبوط عن المســتوى القطباني الكريم، فإن هذا النوع من الإقطاع لم يرد في شريعة ولا حقيقة، ولا ظاهر ولا باطن.
لماذا لا يكون الشاذلي مثلًا أحد الأربعة في عصره؟ مَنْ الذي يملك الدليل على نفي ذلك؟ لماذا لا يكون جلال الدين الرومي، وشاه نقشبند، والبكري، والدردير، والحفني، والمجددي، والمرسي، والبوصيري، والحنفي، والسنوسي، والرازي، والطوسي، واليوسي، والقشيري، والغزالي، وخليل الله، وأبو عليان، وأبو علوان، ومحمد خليل، وعبد الحليم، ورضوان، بل ابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، والصنعاني، والغيطي، والعسقلاني، والهيثمي، والعُدْوي، وعليش، وذو النون، والمنذري، والكتاني، والسيوطي، والجرجاني، وابن الفارض، ومحيي الدين، والشعراني، وأمثالهم سلفًا وخلفًا كالسهروردي، والجنيد، والشبلي، ومعروف، والبسطامي؛ والألوف من أمثالهم، لماذا لا يكونون من الأقطاب الأربعة في أزمنتهم؟
ومن الذي يستطيع أن يقول إن الله استحدث هذه المقامات وقفًا خاصًا على الأربعة المشاهير وحدهم، فلم يسبقهم عليه سابق، ولم يلحقهم فيها لاحق، وهو يقول: ﴿وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء:20].
الأقطاب الأربعة في كل عصر:
لماذا لا يكون في عصرنا هذا رجال يشغلون بعض هذه المقامات الأربعة فعلًا وبالذات، وإن لم تكتب لهم الشهرة، وهم يستمدون من أرواح كل من شغل قبلهم مكانهم إلى قدم الملك العظيم، كما هو المقرر عند السادة؟
إن هذه المقامات لا تزال بفضل الله مشغولة بأهلها في كل عصر وفي كل زمن، كلما انتقل منهم إلى الله سيد قام سيد، إمامًا بعد إمامًا، على ترتيب خاص أشارت إلى بعضه أحاديث نبوية، وفصلت إجماله مدارك أهل الشهود والمكاشفة، في منازل القرب والسير إلى الله.
إن من أهل القلوب من يعرف أربعة عصره معرفة تامة، كما يعرف بقية أصحاب المقامات المختلفة من أهل الله.
إننا نحب سادتنا الأربعة المشاهير كل الحب ونتبرك بهم، وندافع عنهم، ونستشفع إلى الله بفضله عليهم، ومن أجل هذا ننزههم عن الزعم الغريب بأنهم تقاسموا وحدهم السلطة الغيبية في الكون أحياء وأمواتًا، فلم يدعوا ميراثًا لوارث بعد، إن النبوة وحدها التي لا تورث، أما الولاية فموروثة بأنواعها إلى يوم القيامة.
ولقد كان هذا الزعم من أسباب استهداف تصوف المسلمين للطعن، والهمز واللمز والغمز، ونحن الآن مطالبون بعرض هذا العلم الشريف المُؤَصَّل عرضًا علميًا، لا يتعارض مع معقول ولا منقول، ولا ظاهر ولا باطن، ويعطي كل ذي حق حقه.
صورة أخرى أهل الغيب:
وتكلمة للفائدة نعود ونذكر: أن الصوفية بحسب مراتب الأذواق، والكشوف، والمقامات مؤيدًا بمفاهيم الآيات والآثار والأحاديث الثابتة؛ أقوال شتى في مراتب السادة (أهل الباطن) المعروفون عندهم باسم (أهل الغيب) أو (أهل الديوان)، وتتلخص هذه الصورة تقريبًا في الآتي، مع بعض الاختلافات اليسيرة عند بعضهم:
1- الغوث الأعظم، والفرد الجامع، الذي هو على قدم النبي صلى الله عليه وسلم. ومجاله الروحي حول العرش. والمجال الروحي شيء غير المجال البدني، ومحل الإقامة الجسدية.
2- ثم الإمامان، وهما وزيرا القطب عن يمينه وشماله. ومجالها الروحي طرفي الفرش -الفرش بالفاء ما دون العرش بالعين- على قدم رضوان ومالك كما قلنا.
3- ثم الأوتاد، وهم الأقطاب الأربعة الكبار مع خاصتهم. ومجالهم الروحي الجهات الكونية الأربع. وهم على أقدام: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل.
4- ثم الأبدال السبعة. ومجالهم الروحي السبع الطباق.
5- ثم النقباء الاثنا عشر. ومجالهم الروحي البروج السماوية الاثنا عشر.
6- ثم النجباء السبعون، وهم أهل الخلوة والميقات. ومجالهم الروحي الأفلاك والمجرات.
7- ثم الأخيار، وهم الحواريون وأهل المعارج، وعددهم بين الثلاثين والثلاثمائة. ومجالهم الروحي أقطار الأفق الأعلى.
وأصحاب هذ المقامات السبعة التي ذكرناها هم الأقطاب على اختلاف المراتب والمقامات في كل زمان ومكان، بين مشهور ومستور.
8- ثم المفردون([3])، وهم الأولياء المختارون من صالحي الأمة، وهم الخمسمائة والثلاثمائة. ومجالهم الروحي الأفق الأدنى، وأقطار المدن والقرى.
9- ثم الصالحون وهم أتقياء الأمة وهم درجات شتى. ومجالاتهم الروحية متعددة.
ثم إن لكل صاحب مقام من هذه المقامات خلفاء وعرفاء، فإذا خلا المقام انتقل إليه الخليفة، ثم ارتفع العريف إلى رتبة الخليفة، واختير من المستوى الثاني من هو أهل للعرافة، وهكذا.
وكل من ذكرنا على قدم سابق من الصحابة الذين هم على أقدام أهل الغيب من الأنبياء والملائكة كما أسلفنا.
وقد تختلف هذه الصورة عند بعض السادة في التسميات، والأعداد، وترتيب المستويات، وكلها صحيح في ذاته معلل بدليله كما قدمنا، وهو راجع إلى اختلاف نسب المقامات والإفاضات، ومستوى الناظر وزاوية المنظور.
المقامات وأرواح السابقين:
وعندنا -أيضًا- أن كل مستوى من هذه المستويات محفوف بأرواح كل من سبق أن شغله من أهل الله السابقين، وعلى هذا فإن شاغله من الأحياء يعتبر ممثلًا للأروح التي سبقته إلى هذا المقام، فهي تحوطه، ومنها يستمد الكثير من السر والإفاضة.
وكما أرجعنا أقدام الأقطاب الأربعة الكبار إلى نظام أهل الملإ الأعلى، باعتباره مرجع النظام الكوني كله، والتناسب الرابط بينه وبين العالم الأرضي حقيقة مسلمة، فكذلك مقام الإمامين: أحدهما مستغرق في مقام (الجمال) على قدم (رضوان الجنة)، والثاني مستغرق في (الجلال) على قدم (مالك النار)، ومن هنا صح مقام (الكمال) للغوث الأعظم، جامعًا فيه بين الجمال والجلال لوراثته للقدم المحمدي.
ثم نجد مقام الإمامين عند أهل الكشف مثلًا، هما على قدم: آدم، وإدريس، ثم إلياس، والخضر، ومن شاء الله من أهل النبوات، ثم من على أقدامهم من الربانيين مشهورين أو مستورين.
وكان على مقام الإمامين السعدان: سيدا الأوس والخزرج، والسعيدان: ابن المسيب، وابن جبير، والصاحبان الفقيهان: أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، والشيخان المحدثان: البخاري، ومسلم، (وهكذا يقول أهل الكشف)، وأنت حر في أن تقبل أو ترفض. فليس هذا من الأصول الشرعية، ولكنها مشاهد روحية مؤكدة عند أصحابها من أهل الله.
أهل الديوان:
قالوا: ويجمع (أهل الديوان) وهم كبار أصحاب الوظائف الغيبية، أرواحًا وهيولي في المعاهد الثلاثة المقدسة: الحرم المكي، والحرم النبوي، وبيت المقدس، ثم أماكن مقدسة أخرى يكشف عنها لأهل القلوب([4]) على توقيت وتريتب دقيق، فليس في الغيب فوضى، ولا تجمد وعدم، ولا انفصال مطلق أو تعطل خالد.
قالوا: وفي مقابل المجالات الروحية العليا لأهل الله مجالات أرضية، فمجال الغوث مع العرش (الكعبة المكرمة)، ومجال (الإمام الجمالي) مع أحد طرفي الفرش (بيت المقدس)، وكذلك شأن كل رجال الله، لكل منهم مجال سماوي وآخر أرضي.
وفي عالم الجن من المسلمين يمضي نظام المراتب الروحية لأهلها من صالحيهم على نظام مراتب الإنس تمامًا، ففي كلٍّ أهله من الجن والإنس على حد سواء، أما تعاونهم وتعاطفهم مع صالحي الإنس فأمر غير مختلف عليه.
كلمة ختامية:
أما بعد: فعندما يجلس أحدهم، أي أحدهم هنا أو هناك، شبعان متكئًا على أريكته يتمطى ويتجشأ مرة، ويثثاءب ويتلوى مرة، ويستقطب ويشمأنط أخرى، ثم يزعم لنفسه ولأمثاله أن الصوفيين بهذه الأقوال استحمقوا أو أخطأوا أو خرفوا، فليسمك جهله على نفسه وحدها، فليس جهله هو وأمثاله بشيء ما دليلًا على عدم وجود هذا الشيء أو عدم صحة إخبار أهله به، والتسليم بالواقع أو إنكاره لا يغير شيئًا من الحقيقة اليقينة عند أهلها، والذي لا يعرف حقيقة كنه حياته ولا نفسه ولا روحه، ولا عقله ولا فكره ولا نومه أولى أن يُسَلِّمَ لمن يعرف، فإن لم يُسَلِّمْ فمقتضى الإنصاف أن يتوقف.
ونحن لا نجبر أحدًا إطلاقًا على الإيمان بهذا كله أو بعضه، فإنها إضافات روحية ذوقية، لاتتافى مع التكاليف الشرعية، بل هي ثمرة لها.
ولكننا لا نسمح أبدًا بتكذيبنا فيه بغير برهان مبين، ولا برهان على الإطلاق إلا أن يكون هرطقة أو شقشقة أو هنبقة، أو فيهقة باسم الدين المظلوم.
وها نحن أولاء لا تزال تنكشف أمامنا يوما أسرار مذهلة معجزة من المادة المشهودة، فكيف بمساتير الغيوب؟ وشرط المؤمن الإيمان بالغيب مادام لا يعارض العقيدة، ولا يخالف الأصول. فالتوقح والاغتماز والتعالم هنا بالكلمات النظرية في هذه الجوانب العملية التي تحتاج أساسًا إلى التجربة التطبيقية، كما قدمنا والممارسة السلوكية الطويلة، يخالف الإنصاف العلمي والعدالة الخلقية، ومبادئ الدين الذي يأمر بسؤال أهل الذكر، ويجب أن يكون في الذاكرة دائمًا قوله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء:85]، ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف:76].
([2]) قال السيد الرائد: وذلك كما لو وقف رجل على الهرم فوصف القاهرة بأن أولها الجيزة، ووقف رجل على القلعة فوصف القاهرة بأن أولها المنشية، ووقف آخر في حلوان فقال أول القاهرة المعادي، وهكذا، فكل منهم صادق بالنسبة لموقفه ومشهده من غير منافاة لسواه.