موسى والعلم([1]):
داخل موسى يومًا شعورًا بشريًا بأنه أعلم الناس بما أفاض الله عليه من علم النبوة العظيم، ولما كان العلم ضربًا من ضروب الكمال، وكان الكمال لا يتناهى و﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام:124]، وهو أدرى حيث يضع فضله: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا﴾ [الشُّورى: 49-50].
لما كان كذلك ضرب الله لموسى مثلًا عمليًا تربويًا يكون أدبًا له ولغيره من بعده، وبخاصة أولئك الذين يقفون على باب الله، وهم القدوة الكبرى للبشر.
وأذن الله لموسى أن يلتقي بالعبد الصالح عند مجمع البحرين (دجلة والفرات) أو (الأبيض والأحمر) أو ما الله به أعلم.
من هو العبد الصالح:
ولم يحدد القرآن شخصة العبد الصالح، ولا رتبته من الله، ولكنه وصفه بأن الله آتاه رحمة من عنده وعلمه من لدنه علمًا، ومن هنا جاء التعبير بالعلم (اللَّدُنِّي) أي العلم المغيب في مساتير صحائف اللوح المحفوظ (عند الله). فـ(اللَدُنِّيَّة) هي العِنْدِيَّة المقدسة، ومفاتيح الغيب عند الله. يهب ما يشاء منها لمن يشاء من عباده، أما الإحاطة الطلقة بالغيب فهي من خصائص الألوهية وحدها.
وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضى الله عنه وفي بقية من الكتب الستة من طرق عدة: أن العبد الصالح هو الخضر.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُؤْنِس أصحابه فيقول: «ألا أخبركم عن الخضر؟». كما رواه الطبراني عن أُمَامَة وحسنه بعض الحفاظ، وفيه قوله لموسى: أنا الخضر الذي سمعت به([2]).
وفي الصحيحين عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا سُمِّىَ الْخَضِرُ أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ -يعني أرضًا لا نبات فيها- فَإِذَا هِىَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءَ»([3]). يعني ينتشر فيها النبات معجزة أو كرامة من الله له. وقد أبعد من زعم أن الفروة في الحديث هي جلد الشاة، وهو ما لا يتساوى مع مقتضى الموضوع وشرف القصة.
العبد الصالح هو الخضر:
وقد روى عَبْد بْن حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيق الرَّبِيع بْن أَنَس: قَالَ مُوسَى لَمَّا لَقِي الخَضِر: السَّلَام عَلَيْك يَا خَضِر، فَقَالَ الْخَضِر: وَعَلَيْك السَّلَام يَا مُوسَى. قَالَ: وَمَا يُدْرِيك أَنِّي مُوسَى؟ قَالَ: أَدْرَانِي بِك الَّذِي أَدْرَاك بِي([4]).
ومتى ما ثبت هذا التعريف في الصحاح فقد سقطت دعوى من أنكر أن العبد الصالح هو الخضر. ويقال أن اسمه بليا بن ملكان وجده السابع نوح، وأنه ابن عم إبراهيم عليه السلام، فيكون لفظ الخضر لقبًا له.
هل الخضر ولي أم نبي أم ملك؟
يقول ابن الجوزي، وابن أبي زياد، وأبو الحسن الرماني، ومحمد بن إسحاق وآخرون: إن الخضر نبي ورسول.
ونقل القرطبي، وأبو حيان، والبغوي، وابن عطية، والثعلبي في تفاسيرهم وآخرون أنه نبي -فقط-. قالوا: وعليه أكثر أهل العلم. وهو رأي ابن عباس وبعض الصحابة.
أما أبو القاسم القشيري، وأبو بكر ابن الأنباري، وأبو علي ابن أبي موسى، وجمهور من الصوفية فعلى: أنه ولي، أي عبد صالح، كما هو النص القرآني.
ونقل الماوردي: أنه ملك يتجسد في صورة آدمي، ولكن الحافظ ابن أبي دحية فوض أمره فقال: لا ندري هل هو ملك أم نبي أم عبد صالح، يعني ولي، وهو رأي جمهور من الصوفية.
والأصح أنه نبي والله أعلم؛ لقوله لموسى: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ [الكهف:82] أي بوحي. فإن مثل قتل الغلام وخرق السفينة مما لا يكون أبدًا بإلهام مجرد.
وفي حديث الطبراني عن أبي أُمَامَة مرفوعًا: قال الرجل للخضر: شققت عليك يا نبي الله([5]). فهذا صريح في نبوته. وقد ذكر في هذا الحديث -أيضًا- أن الخضر باع نفسه من رجل، وهذا غير جائز في الإسلام، وفيه أنه سئل بوجه الله فأجاب، وهو -أيضًا- منهي عنه في الإسلام، والإسلام دين كل نبي ورسول.
فدل هذا على أن الخضر صاحب شريعة، فلما لم يكن رسولًا فهو نبي خصه الله تعالى بعلم سر القدر، وإن كانت حكمة التوجيه والتربية تستوجب أن يكون الخضر أقل مرتبة من موسى، أي أن يكون وليًا كما عليه جمهور الصوفية رضى الله عنهم.
قالوا: وهذا المعنى موجود في أن يكون الخضر نبيًا -فقط- وموسى نبي ورسول.
دعوى مخالفة الشريعة للحقيقة:
وقد التمس بعض أصحاب الأهواء من قصة موسى والخضر ما جعلوه دليلًا باطلًا على مخالفاتهم للمعروف من الدين بالضرورة. قالوا: إن الشريعة شيء والحقيقة شيء آخر، وإن العبد لا يزال ملتزمًا حدود الدين حتى ينتقل من حدود الشريعة إلى حدود الحقيقة فتسقط عنه التكاليف.
ويقولون: لأن الله قال: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾ [الحجر:99]، و(اليقين) هنا هو الموت قولًا واحدًا، ولكنهم يقولون زورًا وكذبًا: إن (اليقين) هو مقام الحقيقة، فإذا وصل إنسان عندهم إلى هذا المقام سقطت عنه العبادات، وذابت أمامه الحدود، ولا عليه أن يرتكب الكبائر الموبقة باسم السر، وتحت ستار القياس على الخضر، ونعوذ بالله العلي العظيم من الضلال.
إن القول بمخالفة الشريعة للحقيقة على أي وجه زندقة ربما أفضت بصاحبها إلى الردة بعد الإسلام. فالإسلام فعلًا يعترف بالشريعة على أنها ظواهر الأمور وصور العبادات، ويعترف فعلًا بالحقيقة على أنها روح الأمور وحكمة العبادات، فهما شيء واحد لا ينفصم، ولا يقوم أحدهما إلا بقيام الآخر، كالروح في الجسد، والماء في العود، والتمر من الشجرة، والحرارة في النار، والحلاوة في السكر، والروائح في مياه العطور، والضوء من شعلة السراج، فلا قيام لأحدها إلا بقيام الآخر.
مثال عملي للشريعة والحقيقة:
فإذا ضربنا مثلًا بالصلاة كان القيام والركوع، والسجود والقراءة والتسبيح شريعة، وكان التبتل والخشوع وعقل الصلاة، وإدراك ذل العبودية أمام عز الربوبية، والتمتع بالمناجاة والمناداة والتقلب في مقامات القرب، كل هذه حقيقة، فلا قيام ولا وجود لهذه إلا بتلك، فالتفرقة بينهما مستحيلة عقلًا ونقلًا وواقعًا. وديننا الإسلام ونبينا رسول الله المصطفى صلى الله عليه وسلم لا قدوة لنا إلا هو، ولا أسوة لنا إلا به، وهو مثلنا الأعلى، وهو لم يَدَّعِ هذه الدعوى، ولم يحدث منه حتى ما يشير إليها، فبأي شريعة، وبأي دين، وبأي عقل ننتقل من شريعتنا إلى شريعة غيرنا فنقتاس عليها، ولو جاز هذا لاختار كل مسلم دينًا لنبي سابق يرضيه ولم يبق بعد هذا إسلام ولا مسلمون.
إن تفسير (اليقين)، الذي هو الموت قولًا واحدًا، بأنه (مقام الحقيقة) دسيسة كفرية على التصوف، وإن التفرقة بين مقام الشريعة ومقام الحقيقة مما دسه الزنادقة على الناس، ودلسوا تصوف المسلمين بإلصاقه زورًا به، والقائل بهذا القول لا هو مسلم عامي، ولا هو مسلم صوفي، والمؤمن به إما مؤمن ساذج مغفل، وإما منافق زنديق، وهو في أشرف أحواله جاهل مفتون.
نحن نسلم بالغيوب والأسرار والحِكَمِ، ونسلم بالإلهام والكشف والكرامة، ولكن على أساس العزيمة في الدين والاعتصام بالسنة، والاحتياط المطلق في العبادة والأدب، وهذا وحده هو باب الولاية ومعراج القطبانية. ومن هنا تظهر الأكذوبة الكبيرة، والوهم الدخيل في فهم قصة الخضر، والقياس الفاسد عليها، وإلحاق الزنادقة بالصوفيين الراشدين.
إن قصة الخضر يجوز أن تكون استئناسًا لفهم الأسرار ودعوة إلى الآداب وشرائف المصاحبة ليس إلا.
هل الخضر حي يرزق؟
يرى البخاري، وابن المنادي، وأبو بكر ابن العربي، وأبو يعلى ابن الفراء، وإبراهيم الحربي، وأبو طاهر العبادي وآخرون (أن الخضر غير موجود بجسده، وأنه مات، وإنما وجوده هو وجود بروحه فقط)؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ﴾ [الأنبياء:34]، وحديث جابر وابن عمر مرفوعًا: «لا يبقى على وجه الأرض بعد مئة سنة ممن هو عليها اليوم أحد».
ويرى ابن الصلاح، والثعلبي، والنووي، والحافظ ابن حجر، وجماهير الصوفية كافة، وجمهور العلماء وأهل الصلاح أنه حي بجسده موجود يرزق، وسيموت آخر الزمان كبشر.
وقد رد ابن حجر في فتح الباري([6]) على القائلين بموته، وَوَجَّهَ حديث جابر وابن عمر المذكور آنفًا التوجيه الذي يؤكد حياة الخضر البشرية، وأنه مخصوص مستثنى من الحديث.
ولنا في ذلك رأي على قاعدة (التكامل والوسطية) التي نعتنقها ونطبقها، وندعو إليها كوسيلة عملية من وسائل التجميع والتقريب بين مذاهب الأمة فيما يجوز الأخذ بها فيه، نقول:
1- إن الخلد معناه عدم الموت، وبما أن الخضر على القول بأنه حي لابد يومًا أن يموت، فقد خرج من الحكم الآية مادام سيلحقه الموت يومًا ما.
2- وفي الحديث: قيل المراد بــ (الأرض) القَدْر المعروف للعرب وقتئذ من الدنيا، فخرجت أرض الخضر من الحديث لأنها لم تكن معروفة لهم.
3- وقيل أراد من هذا انخرام قرنه صلى الله عليه وسلم وهو رأي ابن عمر، أي أنه لن يكون أحدًا ممن سمعوا تلك المقالة حيًا بعد مئة سنة. وقد تحقق هذا بوفاة أبو الطفيل عامر آخر من بقي من الصحابة على رأس مئة سنة من هذه المقالة.
4- وقيل المراد بقوله (لا يبقى) أي ممن ترونه أو تعرفونه أحد، وقد صح ذلك -أيضًا-.
5- وقيل أنه حكم أريد به الأغلب حسب المعتاد، فقلما تَخَطَّى رجل في العادة سن المئة، وإن كان هناك من يتخطاها فهم قلة من شذوذ القاعدة كما في الأكراد، والأفغان، والهنود، وشرق أوروبا.
الخضر موجود بالجسد وبالتجسيد:
6- ومن بين هذه الأقوال كلها نستخلص ما يأتي:
إما أن يكون الخضر حيًا بجسده وروحه وليس ذلك ببعيد، والنتجية أنه موجود.
وإما أن يكون حيًا بروحه -فقط- بحكم خصوصيته، فروحه منطلقة من عالم البرزخ، طوافة بعالم الدنيا متجسدة فيه، وليس ذلك ببعيد -أيضًا-، فالنتيجة أنه موجود.
إذن: فعلى القول بالحياة أو بالممات هو موجود إما بالجسد البشري أو التجسد الروحي، والقول بلقائه أو روؤيته صدق ممحض، وما يروى عنه على ألسنة أهل الله حقيقة واقعة. قالوا: وعندما التقى موسى بالخضر ألقى —. فقال له الخضر: وهل بأرضنا سلام؟
وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رَحْمَةُ الله عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى لَوْ صَبَرَ مَعَ صَاحِبِهِ لَرَأَى الْعَجَبَ»([7]).