حدثنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب السهروردي -رحمه الله- قال: أنبأنا أبو عبد الرحمن الصوفي، قال: أنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أنا أبو محمد عبد الله بن أحمد السرخسي، قال: أنا أبو عمران السمرقندي، قال: أنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال: حدثنا نعيم بن حماد قال: حدثنا بقية عن الأحوص بن حكيم عن أبيه، قال: سأل رجل النبي عليه السلام عن الشر فقال: «لَا تَسْأَلُونِي عَنِ الشَّرِّ، وَسَلُونِي عَنِ الْخَيْر». يَقُولُهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ شَرَّ الشَّرِّ شِرَارُ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّ خَيْرَ الْخَيْرِ خِيَارُ الْعُلَمَاءِ». فالعلماء أَدِلَّاء الأمة وعُمُد الدين، وسرج ظلمات الجهالات الجبلية، ونقباء ديوان الإسلام، ومعادن حكم الكتاب والسنة، وأمناء الله تعالى في خلقه، وأطباء العباد، وجهابذة الملة الحنيفية، وحملة عظيم الأمانة، فهم أحق الخلق بحقائق التقوى، وأحوج العباد إلى الزهد في الدنيا؛ لأنهم يحتاجون إليها لنفسهم ولغيرهم، ففسادهم فساد متعدٍّ وصلاحهم صلاح متعد.
*قال سفيان بن عيينة: أجهل الناس من ترك العمل بما يعلم، وأعلم الناس من عمِل بما يعلم، وأفضل الناس أخشعُهم لله تعالى. وهذا قولٌ صحيح يحكمُ بأن العالم إذا لم يعمل بعمله فليس بعالم، فلا يغرك تشدقه واستطالته وحذاقته وقوته في المناظرة والمجادلة، فإنه جاهل وليس بعالم إلا أن يتوب الله عليه ببركة العلم؛ فإن العلم في الإسلام لا يضيع أهله ويرجى عود العالم ببركة العلم، والعلم فريضةٌ وفضيلة، فالفريضة ما لا بد للإنسان من معرفته ليقوم بواجب حق الدين، والفضيلة ما زاد على قدر حاجتِه مما يكسبه فضيلةً في النفس موافقة للكتاب والسنَّة، وكل علم لا يوافق الكتاب والسنة، وما هو مستفاد منهما، أو معين على فهمهما، أو مستند إليهما كائنًا ما كان؛ فهو رذيلةٌ، وليس بفضيلةٍ يزداد الإنسان به هوانًا ورذيلةً في الدنيا والآخرة، فالعلم الذي هو فريضة لا يسعُ الإنسانَ جهلُه على ما حدثنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب قال: أنا الحافظ أبو القاسم المستملي، قال: أنا الشيخ العالم أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، قال: أنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصفهاني، قال: أنا أبو سعيد بن الأعرابي قال: حدثنا جعفر بن عامر العسكري قال: حدثنا الحسن بن عطية قال: حدثنا أبو عاتكة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اطلبوا العلم ولو بالصين فإن طَلَب الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ».
واختلف العلماء في العلمِ الذي هو فريضةٌ. قال بعضهم: هو طلب علم الإخلاص، ومعرفة آفات النفوس وما يفسد الأعمال؛ لأن الإخلاص مأمور به كما أن العمل مأمور به قال الله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ﴾ [البيِّنة: 5]. فالإخلاص مأمورٌ به، وخدع النفس وغرورها ودسائسُها وشهواتها الخفية؛ تخرب مباني الإخلاص المأمور به فصارَ علم ذلك فرضًا حيث كان الإخلاصُ فرضًا وما لا يصلُ العبد إلى الفرض إلا به صارَ فرضًا.
وقال بعضهم: معرفةُ الخواطرِ وتفصيلُها فريضة؛ لأنَّ الخواطر هي أصل الفعل ومبدؤه ومنشؤه. وبذلك يعلم الفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان، فلا يصح الفعل إلا بصحتها، فصار علم ذلك فرضًا حتى يصحَّ الفعل من العبد لله.
وقال بعضهم: هو طلب علم الوقت. وقال سهل بن عبد الله: هو طلب علم الحالِ يعني حكم حاله الذي بينه وبين الله تعالى في دنياه وآخرته. وقيل: هو طلبُ علم الحلال حيث كان أكلُ الحلال فريضة.
وقد ورد: «طلب الحلال فريضة بعد الفريضة». فصار علمه فريضة من حيث إنه فريضة.
وقيل: هو طلبُ علم الباطن وهو ما يزدادُ به العبد يقينًا، وهذا العلم هو الذي يكتسب بالصحبة، ومجالسة الصالحين من العلماء الموقنين، والزهاد المقربين الذين جعلهم الله تعالى من جنوده، يسوق الطالبين إليهمْ ويقوِّيهم بطريقهم ويرشدهم بهم، فهم وارث علم النبي عليه السلام ومنهم يتعلم علم اليقين.
وقال بعضُهم: هو علم البيع والشراء والنكاح والطلاق، إذا أراد الدخولَ في شيء من ذلك يجب عليه طلبُ علمِه. وقال بعضُهم: هو أن يكون العبدُ يريد عملًا يجهل ما لله عليه في ذلك، فلا يجوزُ له أن يعمل برأيه؛ إذ هو جاهل فيما له، وعليه في ذلك فيراجع عالمًا يسأله عنه؛ ليجيبه على بصيرة ولا يعمل برأيه، وهذا علم يجب طلبه حيث جهل. وقال بعضهم: طلب علم التوحيد فرض، فمن قائل يقول طريقه النظر والاستدلال، ومن قائل يقول إن طريقَه النقل.
وقالَ بعضُهم: إذا كان العبد على سلامة الباطن وحسن الاستسلام والانقياد في الإسلام ولا يحيك في صدره شيءٌ فهو سالم، فإن حاك في صدره شيء أو توسوس بشيء يقدح في العقيدة، أو ابتلي بشبهة لا تؤمن غائلتها أن تجره إلى بدعة أو ضلالة؛ فيجب عليه أن يستكشف عن الاشتباه، ويراجع أهل العلم، ومن يفهمه طريق الصواب.
وقال الشيخ أبو طالب المكي رحمه الله: هو علم الفرائض الخمس التي بُنِيَ عليها الإسلام؛ لأنها افترضت على المسلمين، وإذا كان عملها فرضًا صار علم العمل بها فرضًا. وذكر أن علم التوحيد داخل في ذلك؛ لأن أولها الشهادتان، والإخلاص داخل في ذلك؛ لأن ذلك من ضرورة الإسلام، وعلم الإخلاص داخل في صحة الإسلام، وحيث أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فريضة على كل مسلم يقتضي ألَّا يسع مسلما جهله، وكل ما تقدم من الأقاويل أكثرها ما يسع المسلم جهله؛ لأنه قد لا يعلم علم الخواطرِ وعلم الحال وعلم الحلال بجميع وجوهه، وعلم اليقين المستفاد من علماء الآخرة كما ترى، وأكثر المسلمين على الجهلِ بهذه الأشياء، ولو كانت هذه الأشياء فُرضت عليهم لعجز عنها أكثر الخلق إلا ما شاء الله، وميلي في هذه الأقاويل إلى قولِ الشيخ أبي طالب أكثر، وإلى قول من قال يجب عليه علم البيع والشراء والنكاح والطلاق إذا أراد الدخول فيه، وهذا -لعمري- فرض على المسلم علمه، وهكذا الذي قاله الشيخ أبو طالب: وعندي في ذلك حدٌّ جامع لطلب العلم المفترَض، والله أعلم.
(فأقول): العلمُ الذي طلبه فريضةٌ على كل مسلمٍ علم الأمر والنهي والمأمورِ ما يُثاب على فعله، ويعاقب على تركه، والمنهي على فعله ويثاب على تركه والمأموريات والمنهيات منها ما هو مستمر لازم للعبد بحكم الإسلام، ومنها ما يتوجَّه الأمر فيه والنهي عنه عند وجودِ الحادثة، فما هو لازم مستمر لزومه متوجه بحكم الإسلامِ علمه به واجب من ضرورة الإسلامِ، وما يتجددُ بالحوادثِ ويتوجه الأمر والنهي فيه فعلمه عند تجدده فرض لا يسع مسلمًا على الإطلاق أن يجهله، وهذا الحد أعمُّ من الوجوه التي سبقت، والله أعلم.
ثم إن المشايخ من الصوفية وعلماء الآخرة الزاهدين في الدنيا شمروا عن ساق الجِدِّ في طلب العلم المفترض حتى عرفوه، وأقاموا الأمر والنهي، وخرجوا من عهدة ذلك بحسن توفيق الله تعالى، فلما استقاموا في ذلك متابعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث أمرَه الله تعالى بالاستقامة، فقال تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾ [هود: 112]. فتح الله عليهم أبواب العلم التي سبق ذكرُها.
قال بعضهم: من يطيق مثل هذه المخاطبة بالاستقامة إلا من أيِّد من المشاهدات القوية والأنوار البينة والآثار الصادقة بالتثبيت ببرهان عظيم، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ﴾ [الإسراء: 74]، ثم حفظ في وقت المشاهدة ومشافه الخطاب وهو المزين بمقام القرب، والمخاطب على بساط الإنس محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك خوطب بقوله: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ [هود: 112]. ولولا هذه المقامات ما أطاق الاستقامة التي أُمِرَ بها.
قيل لأبي حفصٍ: أي الأعمال أفضل؟ قال: الاستقامة؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا».
وقال جعفر الصادق في قوله تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ [هود: 112]. أي: افتقر إلى الله بصحة العزم.
ورأى بعض الصالحينَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنامِ، قال: قلت: يا رسول الله روي عنك أنك قلت شيبتني سورة هود وأخواتها. فقال: نعم. قال فقلت له: ما الذي شيبك منها قصص الأنبياء وهلاك الأمم، فقال: لا، ولكن قوله: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ [هود: 112]. فكما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد مقدمات المشاهدات خُوطب بهذا الخطاب وطُولب بحقائق الاستقامة فكذلك علماء الآخرة الزاهدون، ومشايخ الصوفية المقربون منحهم الله تعالى من ذلك بقسط ونصيب، ثم ألهمهم طلبَ النهوضِ بواجب حق الاستقامةِ، ورأوا الاستقامة أفضل مطلوب وأشرف مأمور.
قال أبو عليٍّ الجوزجاني: كن طالب الاستقامة لا طالب الكرامة؛ فإن نفْسَك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة، وهذا الذي ذكره أصل كبير في الباب، وسر غفل عن حقيقته كثير من أهل السلوك والطلب، وذلك أن المجتهدين والمتعبدين سمعوا بسير الصالحين المتقدمين وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات، فأبدًا نفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئًا من ذلك، ولعل أحدَهم يبقى منكسر القلب متَّهِما لنفسه في صحة عمله حيث لم يكشف بشيء من ذلك، ولو علموا سر ذلك لهان عليهم الأمر فيه فيعلم أن الله سبحانه وتعالى قد يفتح على بعضِ المجتهدين الصادقين من ذلك بابًا.
والحكمةُ فيه أن يزدادَ بما يرى من خوارق العادات وآثارِ القدرة يقينًا، فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا، والخروج من دواعي الهوى، وقد يكون بعض عبادِه يكاشف بصرف اليقين، ويرفع عن قلبه الحجاب، ومن كُوشف بصرف اليقين استغنى بذلك عن رؤية خوارقِ العادات؛ لأن المراد منها كان حصول اليقين، وقد حصل اليقين فلو كُوشف هذا المرزوق صرف اليقين بشيء من ذلك ما ازداد يقينًا، فلا تقتضي الحكمة كشف القدرة بخوارق العادات لهذا الموضع لاستغنائه، وتقتضي الحكمة كشف ذلك للآخَر لموضع حاجتِه، فكان هذا الثاني يكون أتم استعدادًا وأهليةً من الأول؛ حيث رزق حاصل ذلك، وهو صرف اليقين بغير واسطة من رؤية قدرة، فإن فيه آفةً وهو العجب، فأغنى عن رؤية شيء من ذلك فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة.
ثم إذا وقع في طريقه شيء من ذلك جاز وحَسُنَ، وإن لم يقع فلا يبالي ولا ينقص بذلك، وإنما ينقصُ بالإخلال بواجب حق الاستقامة، فليعلمْ هذا؛ لأنه أصل كبير للطالبين فالعلماء الزاهدون، ومشايخ الصوفية والمقربون حيث أكرموا بالقيام بواجبِ حق الاستقامة رزقوا سائر العلوم التي أشارَ إليها المتقدمون، كما ذكرنا، وزعموا أنها فرض، فمن ذلك: علم الحال، وعلم القيام، وعلم الخواطر، وسنشرح علمَ الخواطر وتفصيلَها في بابٍ إن شاء الله تعالى، وعلم اليقين، وعلم الإخلاص، وعلم النفس، ومعرفتها ومعرفة أخلاقها، وعلم النفس ومعرفتها من أعز علوم القوم، وأقوم الناس بطريق المقربين والصوفية أقومهم بمعرفة النفس، وعلم معرفة أٌقسام الدنيا ووجودِ دقائقِ الهوى وخفايا شهوات النفس وشرهها وشرها، وعلم الضرورة، ومطالبة النفس بالوقوف على الضرورة قولًا وفعلًا، ولبسًا وخلعًا، وأكلًا ونومًا، ومعرفة حقائق التوبة، وعلم خفي الذنوب، ومعرفة سيئات هي حسنات الأبرار، ومطالبة النفس بترك ما لا يعني، ومطالبة الباطنِ بحصر خواطر المعصيةِ، ثم بحصر خواطر الفضول. ثم علم المراقبة، وعلم ما يقدح في المراقبة، وعلم المحاسبة والرعاية، وعلم حقائق التوكل، وذنوب المتوكل في توكله، وما يقدح في التوكل وما لا يقدح، والفرق بين التوكل الواجب بحكم الإيمان وبين التوكل الخاص المختص بأهل العرفان، وعلم الرضا، وذنوب مقام الرضا، وعلم الزهد وتحديده بما يلزم من ضرورته وما لا يقدح في حقيقته. ومعرفة الزهد في الزهد، ومعرفة زهد ثالث بعد الزهد في الزهد، وعلم الإنابة والالتجاء، ومعرفة أوقات الدعاء، ومعرفة وقت السكوت عن الدعاء، وعلم المحبة، والفرق بين المحبة العامة المفسَّرَة بامتثال الأمر، والمحبة الخاصة، وقد أنكر طائفةٌ من علماءِ الدُّنيا دعوى علماء الآخرة المحبة الخاصة، كما أنكروا الرضا، وقالوا: ليس إلا الصبر، وانقسام المحبةِ الخاصة إلى محبة الذات وإلى محبة الصفات، والفرق بين محبة القلب ومحبة الروح ومحبة العقل ومحبة النفس، والفرق بين مقام المحب والمحبوب والمريد والمراد، ثم علوم المشاهدات كعلم الهيبة والأنس، والقبض والبسط، والفرق بين القبض والهمِّ والبسط والنشاط، وعلم الفناء والبقاء، وتفاوت أحوال الفناء، والاستتار والتجلي، والجمع والفرق، واللوامع والطوالع، والبوادي والصحو والسكر، إلى غير ذلك، لو اتسع الوقت ذكرناها وشرحناها في مجلدات، ولكنَّ العمرَ قصير والوقت عزيز ولولا سهم الغفلة لضاق الوقت عن هذا القدر أيضًا.
وهذا المختصر المؤلَّف يحتوي من علوم القوم على طرف صالح نرجو من الله الكريم أن ينفع به ويجعله حجة لنا لا حجة علينا، وهذه كلها علوم من ورائها علوم عمل بمقتضاها، وظفر بها علماء الآخرة الزاهدون، وحرم ذلك علماء الدنيا الراغبون، وهي علوم ذوقية لا يكادُ النظر يصل إليها إلا بذوق ووجدان، كالعلم بكيفية حلاوة السكر لا يحصل بالوصف، فمن ذاقه عرفه وينبئك عن شرف علم الصوفية وزهاد العلماء أن العلوم كلها لا يتعذر تحصيلها مع محبة الدنيا والإخلال بحقائق التَّقوى وربما كان محبةُ الدنيا عونًا على اكتسابها؛ لأن الاشتغالَ بها شاقٌّ على النفوس، فجبلت النفوس على محبة الجاه والرفعة، حتى إذا استشعرت حصول ذلك بحصول العلم أجابت إلى تحمُّل الكلف، وسهر الليل، والصبر على الغربة والأسفار وتعذر الملاذ والشهوات، وعلوم هؤلاء القوم لا تحصل مع محبة الدنيا، ولا تنكشف إلا بمجانبة الهوى، ولا تدرس إلا في مدرسة التقوى.
قال الله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ [البقرة: 282]. جعل العلم ميراث التقوى، وغير علوم هؤلاء القوم متيسر من غير ذلك بلا شك، فعلم فضل علم علماء الآخرة، حيث لم يكشف النقاب إلا لأولي الألباب، وأولوا الألباب حقيقةً هم الزاهدون في الدنيا.
قال بعض الفقهاء: إذا أوصى رجل بمالِه لأعقل الناس يصرفُ إلى الزُّهاد؛ لأنهم أعقل الخلق.
(قال) سهلُ بن عبد الله التستري: للعقلِ ألف اسم، ولكل اسم منه ألف اسم، وأول كل اسم منه تركُ الدنيا.
(حدثنا) الشيخ الصالح أبو الفتح محمد بن عبد الباقي، قال: أنا أبو الفضل أحمد بن أحمد، قال: أنا الحافظ أبو نعيم الأصفهاني قال: حدثنا محمد بن أحمد بن محمد قال: حدثنا العباس بن أحمد الشاشي قال: حدثنا أبو عقيل الوصافي، قال: أنا عبد الله الخوَّاص -وكان من أصحاب حاتم- قال: دخلت مع أبي عبد الرحمن حاتم الأصم الريَّ ومعه ثلاثمئة وعشرون رجلا يريدون الحج وعليهم الصوف والزرمانقات ليس معهم جراب ولا طعام، فدخلنا الري على رجل من التجار متنسك، يحب المتقشفين، فأضافنا تلك الليلة، فلما كان من الغد قال لحاتم: يا أبا عبد الرحمن ألك حاجةٌ فإني أريد أن أعودَ فقيها لنا هو عليلٌ. فقال حاتم: إن كان لكم فقيه عليل فعيادة الفقيه لها فضل، والنظر إلى الفقيه عبادة، فأنا -أيضًا- أجيء معك. وكان العليل محمد بن مقاتل قاضي الري فقال: سِرْ بنا يا أبا عبد الرحمن، فجاءوا إلى الباب، فإذا باب مشرفٌ حسن، فبقي حاتم متفكرًا يقول: باب عالم على هذا الحال، ثم أذن لهم، فدخلوا فإذا دار قوراء، وإذا بزة ومنعة وستور وجمع، فبقي حاتم متفكرًا ثم دخلوا إلى المجلس الذي هو فيه فإذا بفرش وطيئة، وإذا هو راقد عليها، وعند رأسه غلام وبيده مذبة، فقعد الرازي يسائله، وحاتم قائم، فأومأ إليه ابن مقاتل أن اقعد، فقال: لا أقعد. فقال له ابن مقاتل: لعل لكَ حاجة، قال: نعم، قال: وما هي؟ قال: مسألةٌ أسألك عنها، قال: سلني، قال: فقم فاستوِ جالسًا حتى أسألَكَها، فأمر غلمانه فأسندوه، فقال له حاتم: علمك هذا من أين جئت بِهِ؟ قال: الثقات حدثوني به، قال: عمَّن؟ قال: عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمَّن؟ قال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: رسول الله من أين جاء به؟ قال: عن جبرائيلَ. قال حاتم: ففيما أدَّاه جبرائيل عن الله وأداه إلى رسول الله وأداه رسول الله إلى أصحابه وأداه أصحابه إلى الثقات وأداه الثقات إليك هل سمعت في العلم من كان في دارِه أميرا ومنعته أكثر كانت له المنزلةُ عند الله أكثر؟ قال: لا، قال: فكيف سمعت؟ قال: من زهد في الدنيا ورغِب في الآخرة، وأحب المساكين، وقدم لآخرته كان له عند الله المنزلة أكثر.
قال حاتم: فأنت بمن اقتديتَ بالنبي وأصحابه والصالحين؟ أم بفرعون ونمروذ أول من بنى بالجص والآجر، يا علماء السوء، مثلكم يراه الجاهل الطالب للدنيا الراغب فيها، فيقول العالم على هذه الحالة لا أكون أنا شرًّا منه. وخرج من عنده فازداد ابن مقاتل مرضا فبلغ أهل الري ما جرى بينه وبين ابن مقاتل، فقالوا له: يا أبا عبد الرحمن بقزوين عالم أكبرُ شأنًا من هذا، وأشاروا به إلى الطنافسي، قال: فسار إليه معتمدًا، فدخل عليه فقال: رحمك الله، أنا رجل أعجمي أحب أن تعلمني أول مبتدى ديني ومفتاح صلاتي؛ كيف أتوضأ للصلاة؟ قال: نعم وكرامة. يا غلام هات إناء فيه ماء فأتي بإناء فيه ماء فقعد الطنافسي فتوضأ ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: هكذا فتوضأْ فقعد فتوضأ حاتمٌ ثلاثًا ثلاثًا حتى إذا بلغَ غسل الذراعين غسل أربعًا، فقال له الطنافسي: يا هذا أسرفت. فقال له حاتم: في ماذا؟ قال: غسلت ذراعيك أربعًا. قال حاتم: يا سبحان الله أنا في كف ماء أسرفتُ، وأنت في هذا الجمع كله لم تسرف. فعلم الطنافسي أنه أراده بذلك، ولم يرد منه التعلم فدخل البيت ولم يخرج إلى الناس أربعين يومًا.
وكتب تجار الري وقزوين ما جرى بينه وبين ابن مقاتل والطنافسي، فلما دخل بغداد اجتمع إليه أهل بغداد، فقالوا له: يا أبا عبد الرحمن، أنت رجل ألكن أعجمي ليس يكلمك أحد إلا وقطعته، قال: معي ثلاثُ خصال، بهن أظهر على خصمي. قالوا: أي شيء هي؟ قال: أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ نفسي ألَّا أجهل عليه. فبلغ ذلك أحمدَ بن حنبل فجاء إليه وقال: سبحان الله! ما أعقله! فلما دخلوا عليه قالوا: يا أبا عبد الرحمن ما السلامة من الدنيا؟ قال حاتم: يا أبا عبد الله، لا تسلم من الدنيا حتى يكون معك أربع خصال، قال: أي شيء هي يا أبا عبد الرحمن؟ قال: تغفر للقوم جهلهم، وتمنع جهلك عنهم، وتبذل لهم شيئك، وتكون من شيئهم آيسًا، فإذا كان هذا سلمت. ثم سارَ إلى المدينةِ.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28].
ذكر بكلمة إنما فينتفي العلم عمن لا يخشى الله، كما إذا قال إنما يدخل الدار بغدادي ينتفي دخول غير البغدادي الدار، فلاح لعلماء الآخرة أن الطريق مسدود إلى أنصبةِ المعارف ومقامات القرب إلا بالزهد والتقوى.
(قال أبو يزيد) رحمه الله يوما لأصحابِه: بقيت البارحةَ إلى الصباح أجهد أن أقول لا إله إلا الله ما قدرت عليه، قيل: ولم ذلك؟ قال: ذكرت كلمة قلتها في صباي فجاءتني وحشة تلك الكلمةِ فمنعتني عن ذلك، وأعجب ممن يذكرُ الله تعالى، وهو متصف بشيء من صفاته، فبصفاء التقوى وكمال الزهادة يصير العبد راسخًا في العلم.
(قال الواسطي): الراسخونَ في العلم هم الذين رسخوا بأرواحهم في غيب الغيب في سرِّ السر فعرفهم ما عرفهم، وخاضوا في بحر العلم بالفهم لطلب الزيادات، فانكشف لهم من مدخور الخزائن ما تحت كل حرف من الكلام من الفهم وعجائب الخطاب، فنطقوا بالحِكَمِ. وقال بعضهم: الراسخ؛ من اطلع على محل المواد من الخطاب.
(وقال) الخرَّاز: هم الذين كملوا في جميع العلوم، وعرفوها واطلعوا على همم الخلائق كلِّهم أجمعين. وهذا القول من أبي سعيد لا يعني به أن الراسخ في العلم ينبغي أن يقفَ على جزيئات العلومِ، ويكمل فيها؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان من الراسخين في العلم ووقف في معنى قوله تعالى: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ [عبس: 31]. وقال: ما الأبُّ؟ ثم قال: إن هذا إلا تكلفٌ. ونقل: إن هذا الوقوف في معنى الأب كان من أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وإنما عني بذلك أبو سعيد ما يفسر أول كلامه بآخره، وهو قولُه: اطلعوا على همم الخلائق كلِّهم؛ لأن المتقي حق التقوى والزاهد حق الزهادة في الدنيا صفًا باطنه، وانجلت مرآة قلبِه، ووقعت له محاذاةٌ بشيء من اللوحِ المحفوظ، فأدرك بصفاء الباطنِ أمهات العلوم وأصولها، فيعلم منتهى أقدام العلماء في علومهم وفائدة كل علم، والعلومُ الجزئية متجزئة في النفوس بالتعليم والممارسة، فلا يغنيه علمه الكليُّ أن يراجع في الجزئيِّ أهله الذين هم أوعيته، فنفوس هؤلاء امتلأت من الجزئيِّ واشتغلت به وانقطعت بالجزئي عن الكليِّ، ونفوس العلماء الزاهدين بعد الأخذ مما لا بد لهم منه في أصل الدين وأساسه من الشرع؛ أقبلوا على الله، وانقطعوا إليه، وخلصت أرواحهم إلى مقام القرب منه، فأفاضت أرواحهم على قلوبهم أنوار تهيأت بها قلوبهم؛ لإدراك العلوم، فأرواحهم ارتقت عن حد إدراك العلوم بعكوفها على العالم الأزلي، وتجردت عن وجود يصلح أن يكون وعاءً للعلمِ، وقلوبهم بنسبة وجهها الذي يلي النفوس صارت أوعية وجوديةً تناسب وجودَ العلم بالنسبةِ الوجودية، فتألفت العلوم وتألفتها العلوم بمناسبةِ انفصال العلوم باتصالها باللَّوح المحفوظ، والمعني بالانفصال انتقاشها في اللوح لا غير، وانفصال القلوب عن مقام الأرواح لوجود انجذابها إلى النفوس، فصار بين المنفصلين نسبة اشتراك موجب للتألُّف فحصِّلت العلوم لذلك، وصار العالم الرباني راسخًا في العلم.
أوحى الله تعالى في بعض الكتبِ المنزلة: يا بني إسرائيل، لا تقولوا العلم في السماء من ينزل به، ولا في تخوم الأرض من يصعد به، ولا من وراء البحار من يعبر، فيأتي به، العلم مجعول في قلوبكم، تأدبوا بين يدي بآداب الروحانيين، وتخلقوا إلي بأخلاق الصديقين، نهر العلم من قلوبكم حتى يغطيكم أو يغمركم، فالتأدب بآداب الروحانيين حصر النفوس عن تقاضي جبلاتها، وقمعها بصريح العلم في كل قولٍ وفعل ولا يصحُّ ذلك إلا لمن علم وقرب وتطرق إلى الحضور بين يدي الله تعالى فيحتفظ بالحق للحق.
(أخبرنا): شيخُنا أبو النجيب عبد القاهر السهروردي إجازةً قال: أخبرنا أبو منصور بن خيرون إجازة، قال: أنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهريُّ إجازة، قال: أنا أبو عمر محمد بن العباس قال: حدثنا أبو محمد يحيى بن صاعد قال: حدثنا الحسين بن الحسن المروزي، قال: أنا عبد الله بن المبارك، قال: أنا الأوزاعي عن حسان بن عطية، بلغني أن شداد بن أوس رضى الله عنه نزلَ منزلًا، فقال: ائتونا بالسفرة نعبث بها فأنكر منه ذلك. فقال: ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها ثم أزمُّها غير هذه فلا تحفظوها عليَّ، فمثل هذا يكون التأدب بآداب الروحانيين، مكتوب في الإنجيل لا تطلبوا علم ما لم تعلموا حتى تعملوا بما قد علمتم.
وقد ورد في خبرٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان ربما يسوقكم بالعلم». قلنا: يا رسول الله كيف يسوقُنا بالعلم؟ قال: «يقول اطلبِ العلم ولا تعملْ حتى تعلَم، فلا يزال العبد في العلم قائلًا وللعمل مسوقًا حتى يموتَ وما عمِل».
وقال ابن مسعود رضى الله عنه: ليس العلم بكثرة الرواية؛ إنما العلم الخشيةُ.
وقال الحسن: أن الله تعالى لا يعبأ بذي علم ورواية؛ إنما يعبأ بذي فهم ودراية فعلوم الوراثة مستخرجة من علم الدراسة، ومثال علوم الدراسة كاللبن الخالص السائغ للشاربين. ومثال علوم الوراثة كالزُّبْدِ المستخرج منه، فلو لم يكن لبن لم يكن زبد، ولكن الزبد هو الدهنية المطلوبة من اللبن، والمائية في اللبن جسم قام به روح الدهنية، والمائيةُ بها القوامُ. قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: 30].
وقال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: 122]. أي: كان ميتًا بالكفر فأحييناه بالإسلام، فالإحياء بالإسلام هو القوام الأول والأصل الأول، وللإسلام علوم، وهي علوم مباني الإسلام، والإسلام بعد الإيمان نظرًا إلى مجرد التصديق، ولكن للإيمان فروعٌ بعد التحقق بالإسلام، وهي مراتب كعلم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، فقد تقال للتوحيد والمعرفة والمشاهدة وللإيمانِ في كل فرع من فروعه علوم، فعلوم الإسلام علوم اللسان، وعلوم الإيمان علوم القلوب، ثم علوم القلوب لها وصف خاصٌّ ووصف عام، فالوصف العام علمُ اليقين.
وقد يُتوصل إليه بالنظر والاستدلال، ويشتركُ فيه علماء الدنيا مع علماء الآخرة، وله وصف خاص يختص به علماء الآخرة، وهي السَّكِينَةُ التي أُنْزِلَتْ في قلوبِ المؤمنين؛ ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم، فعلى هذا جميع الرتب يشملها اسم الإيمان بوصفه الخاص، ولا يشملها بوصفِه العامِّ فبالنظرِ إلى الوصف الخاص اليقين، ومراتبه من الإيمان وإلى وصفِه العام اليقين زيادة على الإيمان، والمشاهدة وصف خاص في اليقين، وهو عين اليقين، وفي عين اليقين وصف خاص وهو حق اليقين، فحق اليقين إذن فوق المشاهدة، وحق اليقين موطنه ومستقره في الآخرة، وفي الدنيا منه لمح يسير لأهله، وهو من أعزِّ ما يوجد من أقسام العلم بالله؛ لأنه وجدان فصار علم الصوفية، وزهَّادُ العلماءِ نسبته إلى علمِ علماء الدنيا الذين ظفرِوا باليقين بطريق النظر والاستدلال كنسبةِ ما ذكرناه من علم الوراثةِ والدراسة، علمهم بمثابة اللبن؛ لأنه اليقين والإيمان الذي هو الأساس، وعلم الصوفية بالله تعالى من أنصبة المشاهدة، وعين اليقين وحق اليقين كالزبد المستخرج من اللبن، ففضيلة الإنسان بفضيلة العلم، ووزانة الأعمال على قدر الحظِّ من العلم.
وقد ورد في الخبر: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أُمَّتي».
والإشارة في هذا العلم ليسَ إلى علم البيع والشراء والطلاق والعتاق، وإنما الإشارة إلى العلمِ بالله تعالى وقوةِ اليقين، وَقَدْ يكون العبد عالمًا بالله تعالى ذا يقين كامل وليس عنده علم من فروض الكفاياتِ، وقد كانَ أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أعلمَ من علماءِ التابعين بحقائقِ اليقين ودقائق المعرفة، وقد كان علماء التابعين فيهم من هو أقوم بعلم التقوى والأحكام من بعضهم.
(روي) أن عبد الله بن عمرَ كان إذا سُئل عن شيء يقول: سلوا سعيدَ بن المسيب، وكان عبد الله بن عبَّاس يقول: سلوا جابرَ بن عبد الله، لو نزل أهل البصرة على فتياه لوسعهم.
وكان أنس بن مالك يقول: سلوا مولانا الحسن؛ فإنه قد حفظ ونسينا. فكانوا يردون الناس إليهم في علم الفتوى والأحكام، ويعلمونهم حقائقَ اليقين ودقائقَ المعرفة، وذلك لأنهم كانوا أقومَ بذلك من التابعين، صادفتهم طراوة الوحي المنزل، وغمرهم غزير العلم المجمل والمفصل، فتلقى منهم طائفة مجملة ومفصلة، وطائفة مفصَّلة دون مجملةٍ، والمجمل أصل العلم، ومفصله المكتسب بطهارة القلوب، وقوة الغريزة وكمالِ الاستعداد وهو خاصُّ بالخواص.
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125].
وقال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ [يوسف: 108].
فلهذه السبلِ سابلةٌ، ولهذه الدعوات قلوب قابلة، فمنها نفوس مستعصية جامدة باقية على خشونة طبيعتها وجبلتها، فلينها بنار الإنذار والموعظة والحذار، ومنها نفوسٌ زكية من تربة طيبة موافقة للقلوب قريبة منها، فمن كانت نفسه ظاهرة على قلبه دعاه بالموعظةِ، ومن كان قلبُه ظاهرًا على نفسه دعاه بالحكمةِ، فالدَّعْوَةُ بالْمَوْعِظةِ أَجَابَ بِهَا الأَبْرَارُ، وهي الدعوةُ بذكرِ الجنةِ والنارِ، والدعوة بالحكمةِ أجاب بها المقربون، وهي الدعوةُ بتلويحِ منحِ القربِ وصفو المعرفة وإشارة التوحيدِ، فلما وجدوا التلويحات الحقانية والتعريفاتِ الربانية أجابوا بأرواحهم وقلوبهم ونفوسهم، فصارت متابِعة الأقوال إجابتهم نفسًا، ومتابعة الأعمال إجابتَهم قلبًا، والتحققُ بالأحوال إجابتَهم روحًا، فإجابةُ الصوفيةِ بالكل، وإجابةُ غيرهم بالبعض.
قال عمر رضى الله عنه: رحمَ الله تعالى صهيبًا، لو لم يخف الله لم يعصه؛ يعني: لو كتب له كتاب الأمان من النار حمله صرف المعرفة بعظيم أمر الله على القيام بواجب حق العبودية أداء لما عرف من حق العظمة. فإجابة الصوفية إلى الدعوة إجابة المحب للمحبوب على اللذاذة وذهاب العسر، وإجابة غيرهم على المكابدة والمجاهدَة، وهذه الإجابةُ يظهر مع السَّاعات أثرها في القيام بحقائق الاستقامة والعبودية.
قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ [الليل: 5- 7].
قال بعضُهم: أعطي الدارين ولم يرَ شيئًا واتقى اللغو والسيئات، وصدق بالحسنى: أقام على طلب الزلفى. والآية قيل: نزلت في أبي بكر الصديق رضى الله عنه.
ويلوح في الآية وجهٌ آخر أعطى بالمواظبة على الأعمال واتقى الوساوس والهواجس وصدق بالحسنى لازم الباطن بتصفية موارد الشهود عن مزاحمة لوث الوجود، فسنيسره لليسرى: نفتح عليه باب السهولة في العمل والعيش والأنسِ.
وأمَّا من بَخِلَ بالأعمال واستغنى امتلأ بالأحوالِ وكذب بالحسنى لم يكنْ في الملكوتِ بنفوذِ بصيرتِه بالجوَّالِ. فسنيسره للعسرى: نسد عليه باب اليسر في الأعمال.
قال بعضهم: إذا أراد الله بعبدٍ سوءًا سدَّ عليه باب العمل، وفتح عليه باب الكسل، فلما أجابت نفوس الصوفية وقلوبهم وأرواحهم الدعوة ظاهرًا وباطنًا كان حظهم من العلم أوفر، ونصيبهم من المعرفة أكمل، فكانت أعمالهم أزكى وأفضل.
جاء رجل إلى معاذ قال: أخبرني عن رجلين أحدُهما يجتهد في العبادة كثير العمل قليل الذنوب إلا أنه ضعيف اليقين يعتوره الشكُّ. قال معاذٌ: ليحبطن شكُّه عملَه، قال: فأخبرني عن رجل قليل العمل إلا أنه قويُّ اليقين، وهو في ذلك كثير الذنوب. فسكت معاذ. فقال الرجل: والله، لئن أحبط شك الأول أعمال بره ليحبطن يقين هذا ذنوبه كلَّها، قال: فأخذ معاذ بيده، وقال: ما رأيت الذي هو أفقهُ من هذا.
وفي وصية لقمان لابنِه: يا بني لا يُستَطَاعُ العملُ إلا باليقينِ، ولا يعمل المرءُ إلا بقدر يقينه، ولا يقصرُ عامل حتى يقصر يقينه، فكان اليقين أفضل العلم؛ لأنه أدعى إلى العمل، وما كان أدعى إلى العمل كان أدعى إلى العبودية، وما كان أدعى إلى العبودية كان أدعى إلى القيام بحق الربوبية، وكمال الحظ من اليقين، والعلم بالله للصوفية والعلماء الزاهدين فبان بذلك فضلهم وفضل علمهم.
ثم إني أصور مسألة يستبين بها المعتبر فضل العالم الزاهد العارف بصفات نفسه على غيره: عالم دخل مجلسًا وقعد وميز لنفسه مجلسًا يجلس فيه كما في نفسه من اعتقاده في نفسه لمحله وعلمه. فدخل داخل من أبناء جنسه، وقعد فوقه فانعصر العالم، وأظلمت عليه الدنيا، ولو أمكنه لبطش بالداخل، فهذا عارض عرض له ومرض اعتراه، وهو لا يفطن أن هذه علة غامضة، ومرض يحتاج إلى المداواة، ولا يتفكر في منشأ هذا المرض، ولو علم أن هذه نفس ثارت وظهرت بجهلها، وجهلها لوجود كبرها، وكبرُها برؤية نفسها خيرًا من غيرِها فعلمُ الإنسان أنه أكبر من غيره كبرٌ، وإظهارُه ذلك إلى الفعل تكبرٌ، فحيث انعصر صار فعلًا به تكبر.
الزاهد لا يميز نفسه بشيء دون المسلمين، ولا يرى نفسه في مقام تمييز يميزها بمجلس.
فالصوفي العالم مخصوصٌ مميز، ولو قُدِّر له أن يبتلى بمثل هذه الواقعة وينعصر من تقدم غيره عليه وترفُّعه يرى النفس وظهورها، ويرى أن هذا داء، وأنه إن استرسل فيه بالإصغاء إلى النفس وانعصارها صارَ ذلك ذنب حاله، فيرفع في الحال داءَه إلى الله تعالى، ويشكو إليه ظهورَ نفسه، ويحسنَ الإنابةِ، ويقطعَ دابر ظهور النفس، ويرفع القلب إلى الله تعالى مستغيثًا من النفس، فيشغله اشتغاله برؤية داء النفس في طلب دوائها من الفكر فيمن قعد فوقه، وربما أقبل على من قعد فوقه بمزيد التواضع والانكسار تكفيرًا للذنب الموجود، وتداويًا لدائه الحاصل، فتبين بهذا الفرق بين الرجلين، فإذا اعتبر المعتبر وتفقد حال نفسه في هذا المقام يرى نفسه كنفوس عوام الخلق وطالبي المناصب الدنيوية، فأي فرق بينه وبين غيره ممن لا علم له، ولو أكثرنا تصوير المسائل لتبرهن فضيلة الزاهدين، ونقصان الراغبين لأورث الملال، وهذا من أوائل علوم الصوفية، فما ظنك بنفائس علومِهم، وشرائف أحوالِهم، والله الموفِّق للصوابِ.