أخبرنا الشيخ العالم ضياء الدين أبو أحمد عبد الوهاب بن علي قال: أخبرنا أبو الفتح عبد الملك بن أبي القاسم الهروي، قال: أنا أبو نصر عبد العزيز بن محمد الترياقي، قال: أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، قال: أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، قال: أنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي قال: حدثنا مسلمة بن حاتم الأنصاري قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري عن أبيه عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب، قال: قال أنس بن مالك رضى الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا بُنَيَّ، إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غشٌّ لأحد فافعل». ثم قال: «يا بنيَّ، وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحياني، ومن أحياني كان معي في الجنة».
وهذا أتم شرف وأكمل فضل أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في حقِّ من أحيا سنته، فالصوفية هم الذين أحيوا هذه السنة، وطهارة الصدور من الغل والغش عمادُ أمرهم، وبذلك ظهر جوهرهم وبان فضلهم، وإنما قدروا على إحياء هذه السنة، ونهضوا بواجب حقها لزهدهم في الدنيا، وتركها لأربابها وطلابها؛ لأن مثار الغل والغش محبة الدنيا، ومحبة الرفعة والمنزلة عند الناس، والصوفية زهدوا في ذلك كلِّه، كما قال بعضهم: طريقُنا هذا لا يصلح إلا لأقوام كنست بأرواحِهم المزابل، فلما سقط عن قلوبهم محبة الدنيا وحب الرفعة أصبحوا وأمسوا وليس في قلوبهم غشٌّ لأحد. فقول القائل: كنست بأرواحهم المزابل: إشارة منه إلى غاية التواضع وألَّا يرى نفسه تتميز عن أحد من المسلمين لحقاراته عند نفسه، وعند هذا ينسد بابُ الغش والغلِّ.
وجرت هذه الحكاية فقال بعض الفقراء من أصحابنا: وقع لي أن معنى كنست بأرواحهم المزابل أن الإشارة بالمزابلِ إلى النفوس؛ لأنها مأوى كل رجس ونجس كالمزبلة، وكنسها بنور الروح الواصل إليها؛ لأن الصوفية أرواحهم في محال القرب، ونورها يسري إلى النفوس، وبوصول نور الروح إلى النفس تطهر النفس ويذهب عنها المذموم من الغل والغش والحقد والحسد، فكأنها تكنس بنور الروح، وهذا المعنى صحيح، وإن لم يرد القائل بقوله ذلك، قال الله تعالى في وصف أهل الجنة: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: 47].
قال أبو حفص: كيف يبقى الغل في قلوب ائتلفت بالله، واتفقت على محبته واجتمعت على مودَّته وأنست بذكره، إن تلك قلوب صافية من هواجس النفوس وظلمات الطبائع، بل كحلت بنور التوفيق، فصارت إخوانًا، فالخلق حجابهم عن القيام بإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا وحالًا، صفات نفوسهم، فإذا تبدلت نعوت النفس ارتفع الحجاب وصحت المتابعة ووقعت الموافقة في كل شيء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجبت المحبة من الله تعالى عند ذلك.
قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ [آل عمران: 31]. جعل متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم آيةَ محبة العبد ربَّه، وجعل جزاء العبد على حسن متابعة الرسول محبة الله إياه، فأوفر الناس حظًّا من متابعة الرسول أوفرهم حظًّا من محبة الله تعالى، والصوفية من بين طوائف الإسلام ظفروا بحسن المتابعة؛ لأنهم اتبعوا أقواله، فقاموا بما أمرهم، ووقفوا عما نهاهم.
قال الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7]. ثم اتبعوه في أعمالهم من الجد والاجتهاد في العبادة والتهجد والنوافل من الصوم والصلاة وغير ذلك، ورزقوا ببركة المتابعة في الأقوال والأفعال التخلق بأخلاقه من الحياء والحلم والصفح والعفو والرأفة والشفقة والمداراة والنصيحة والتواضع، ورزقوا قسطًا من أحواله من الخشية والسكينة والهيبة والتعظيم والرضا والصبر والزهد والتوكل، فاستوفوا جميع أقسام المتابعات، وأحيوا سنته بأقصى الغايات.
قيل لعبد الواحد بن زيد: من الصوفية عندك؟ قال: القائمون بعقولهم على فهم السنَّة، والعاكفون عليها بقلوبهم، والمعتصمون بسيدِهم من شرِّ نفوسهم هم الصوفية.
وهذا وصفٌ تام وصفهم به، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائمَ الافتقار إلى مولاه حتى يقول: «لا تكلني إلى نفسي طرفة عين؛ اكلأني كلاءة الوليد».
ومَنْ أشرف ما ظفر به الصوفي من متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الوصف، وهو: دوام الافتقار ودوام الالتجاء، ولا يتحقق بهذا الوصف من صدق الافتقار إلا عبد كوشف باطنه بصفاء المعرفة، وأشرق صدره بنور اليقين، وخلص قلبه إلى بساط القرب، وخلا سره بلذاذة المسامرة، فبقيت نفسه بين هذه الأشياء كلها أسيرة مأمورة؛ ومع ذلك كلِّه يراها مأوى كل شر، وهي بمثابة النار لو بقيت منها شرارة أحرقت عالما، وهي وشيكة الرجوع سريعة الانفلات والانقلاب.
فالله تعالى بكمال لطفه عرفها إلى الصوفي وكشفها له على شيء من معنى ما كشفه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو دائم الاستغاثة إلى مولاه من شرها، وكأنها جعلت سوطًا للعبد تسوقه لمعرفته بشرها مع اللحظات إلى جناب الالتجاء وصدق الافتقار والدعاء، فلا يخلو الصوفي عن مطالعتها أدنى ساعة كما لا يخلو عن ربه أدنى ساعة، وربط معرفتها بمعرفة الله تعالى فيما ورد: «من عرف نفسه فقد عرف ربه». كربط معرفة الليل بمعرفة النهار، ومن الذي يقوم بإحياء هذه السنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرُ الصوفي، العالم بالله الزاهد في الدنيا المتمسك من التقوى بأوثق العرى، ومن الذي يهتدي إلى فائدة هذه الحال غيرُ الصوفي؛ فدوام افتقاره إلى ربه تمسك بجناب الحق ولياذ به.
وفي هذا اللياذ استغراق الروح واستتباع القلب إلى محل الدعاء، وفي انجذاب القلب إلى محل الدعاء بلسان الحال والكون فيه نبو النفس عن مستقرها من الأقسام العاجلة، ونزولها إليها في مدارج العلم محفوفة بحراسة الله تعالى ورعايتِه، والنفسُ المدبرة بهذا التدبير من حسن تدبير الله تعالى مأمونة الغائلة من الغل والغش والحقد والحسد وسائر المذمومات، فهذا حال الصوفي، «ويجمع جمل حال الصوفي شيئان هما وصف الصوفية»، وإليهما الإشارة بقوله تعالى: ﴿اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشُّورى: 13].
فقوم من الصوفية خصوا بالاجتباء الصرف، وقوم منهم خصوا بالهداية بشرط مقدمة الإنابة، فالاجتباء المحض غير معلل بكسب العبد، وهذا حال المحبوب المراد يبادئه الحق بمنحه ومواهبِه من غير سابقة كسب منه يسبق كشوف اجتهادِه، وفي هذا أخذ بطائفة الصوفية رفعت الحجب عن قلوبهم، وبادرَهم سطوع نور اليقين، فأثار نازل الحال فيهم شهوة الاجتهاد والأعمال، فأقبلوا على الأعمال باللذاذة، والعيش فيها قرة أعينهم، فسهل الكشف عليهم الاجتهاد، كما سهل على سحرة فرعون لذاذة النازل بهم من صفو العرفان تحمل وعيد فرعون، فقالوا: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات.
قال جعفر الصادق رضى الله عنه: وجدوا أرواح العناية القديمة بهم، فالتجئوا إلى السجود شكرًا، وقالوا: آمنا برب العالمين.
(أخبرنا) أبو زرعة طاهر بن أبي الفضل -إجازة- قال: أنا أبو بكر أحمد بن علي بن خلف -إجازة- قال: أنا عبد الرحمن السلمي قال: سمعت منصورًا يقول: سمعت أبا موسى الزقاق يقول: سمعت أبا سعيد الخراز يقول: أهل الخالصة الذين هم المرادون اجتباهم مولاهم وأكمل لهم النعمة وهيأ لهم الكرامة، فأسقط عنهم حركات الطلب، فصارَت حركاتهم في العمل والخدمة على الألفة والذكر والتنعم بمناجاته والانفراد بقربه.
وبهذا الإسناد إلى أبي عبد الرحمن السلمي، قال: فسمعت علي بن سعيد يقول: سمعت أحمد بن الحسن الحمصي، يقول: سمعت فاطمة المعروفة بجويرية تلميذة أبي سعيد، تقول: سمعت الخراز، يقول: المراد محمول في حاله، معان على حركاته، وسعيه في الخدمة مكفي مصون عن الشواهد والنواظر، وهذا الذي قاله الشيخ أبو سعيد هو الذي اشتبه حقيقته على طائفة من الصوفية، ولم يقولوا بالإكثار من النوافل، وقد رأَوا جمعًا من المشايخ قلت: نوافلهم فظنوا أن ذلك حال مستمر على الإطلاق، ولم يعلموا أن الذين تركوا النوافل واقتصروا على الفرائض كانت بداياتهم بدايات المريدين، فلما وصلوا إلى روح الحال، وأدركتهم الكشوف بعد الاجتهاد امتلئوا بالحال، فطرحوا نوافل الأعمال، فأما المرادون فتبقى عليهم الأعمال والنوافل وفيها قرة أعينهم، وهذا أتم وأكمل من الأول، فهذا الذي أوضحناه أحد طريقَي الصوفية، فأما الطريق الآخر طريق المريدين، وهم الذين شرطوا لهم الإنابة، فقال الله تعالى: ﴿وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشُّورى: 13]، فطولبوا بالاجتهاد أولًا قبل الكشوف.
قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69]. يدرجهم الله تعالى في مدارج الكسب بأنواع الرياضات والمجاهدات وسهر الدياجر وظمأ الهواجر، تتأجج فيهم نيران الطلب، وتتحجب دونهم لوامع الأرب، يتقلبون في رمضاء الإرادة، وينخلعون عن كل مألوف وعادة، وهي الإنابة التي شرطها الحق سبحانه وتعالى لهم، وجعل الهداية مقرونة بها، وهذه الهداية آنفًا هداية خاصة؛ لأنها هداية إليه غير الهداية العامة التي هي الهدى إلى أمره ونهيه بمقتضى المعرفة الأولى، وهذا حال السالك المحب المريد، فكانت الإنابة غير الهداية العامة، فأثمرت هداية خاصة، واهتدوا إليه بعد أن اهتدوا له بالمكابدات، فخلصوا من مضيق العسر إلى فضاء اليسر، وبرزوا من وهجِ الاجتهاد إلى روح الأحوال، فسبق اجتهادهم كشوفهم، والمرادون سبق كشوفهم اجتهادهم.
(أخبرنا) الشيخ الثقة أبو الفتح محمدُ بن عبد الباقي، قال: أنا أبو الفضل أحمدُ بن أحمد، قال: أنا الحافظ أبو نعيم الأصفهاني قال: حدثنا محمد بن الحسين بن موسى قال: سمعت محمد بن عبد الله الرازي، يقول: سمعت أبا محمد الجريري، يقول: سمعت الجنيد -رحمة الله عليه- يقول: ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، ولكن عن الجوع وترك الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسنات، فقال محمد بن خفيف: الإرداة سمو القلب لطلب المراد، وحقيقة الإرادة استدامةُ الجد وترك الراحة.
وقال أبو عثمان: المريدُ الذي مات قلبه عن كل شيء دون الله تعالى، فيريد الله وحده، ويريد قربه، ويشتاق إليه حتى تذهب شهوات الدنيا عن قلبه لشدة شوقه إلى ربه، وقال أيضًا: عقوبة قلبِ المريدين أن يحجبوا عن حقيقة المعاملات والمقامات إلى أضدادها، فهذان الطريقان يجمعَان أحوال الصوفيةِ ودونهما طريقان آخران ليسا من طُرُقِ التحقق بالتصوف.
أحدُهما: مجذوب أبقي على جذبته ما رد إلى الاجتهاد بعد الكشف، والثاني: مجتهد متعبد ما خلص إلى الكشف بعد الاجتهاد.
وللصوفية في طريقهما باب مزيدهم، وصحة طريقهم بحسن المتابعة، ومن ظن أن يبلغ غرضًا، أو يظفر بمراد لا من طريق المتابعة فهو مخذول مغرورٌ.
(أخبرنا) شيخنا أبو النجيب السهروردي، قال: أنا عصام الدين عمر بن أحمد الصفار، قال: أنا أبو بكر أحمد بن علي بن خلف، قال: أنا أبو عبد الرحمن قال: سمعت نصر بن أبي نصر يقول: سمعت قسيمًا غلام الزقاق يقول: سمعت أبا سعيد السكري يقول: سمعت أبا سعيد الخراز يقول: كل باطن يخالف ظاهر فهو باطل.
وكان يقول الجنيد رحمه الله: علمُنَا هذا مشتبك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: من أمَّر السنة على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالحكمةِ، ومن أمَّر الهوى على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالبدعة.
حكي أن أبا يزيد البسطامي -رحمه الله- قال ذات يوم لبعض أصحابه: قم بنا حتى ننظر إلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالولاية، وكان الرجل في ناحيته مقصودًا ومشهورًا بالزهد والعبادة، فمضينا إليه، فلما خرج من بيته يقصد المسجد رمى بزاقه نحو القبلة، فقال أبو يزيد: انصرفوا، فانصرف ولم يسلم عليه، وقال: هذا رجلٌ ليس بمأمون على أدب من آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون مأمونًا على ما يدَّعيه من مقامات الأولياء والصديقين.
(وسئل) خادمُ الشبلي -رحمه الله-: ماذا رأيت منه عند موته؟ فقال: لما أمسك لسانه وعرق جبينه أشار إلي أن وضئني للصلاة، فوضأته، فنسيت تخليل لحيته فقبض على يدي وأدخل أصابعي في لحيته يخللها.
(وقال) سهل بن عبد الله: كلُّ وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فباطل. هذا حال الصوفية وطريقهم، وكل من يدعي حالًا على غير هذا الوجه فمدعٍ مفتونٌ كذَّابٌ.