أخبرنا الشيخ أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر، قال: أخبرني والدي، قال: أنا أبو علي الشافعي -بمكة حرسها الله تعالى- قال: أنا أحمد بن إبراهيم، قال: أنا أبو جعفر محمد بن إبراهيم، قال: أنا أبو عبد الله المخزومي قال: حدثنا سفيان عن مسلم عن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة العبد، ويركب الحمار، ويلبس الصُّوف؛ فمن هذا الوجه ذهب قوم إلى أنهم سُمُّوا صوفية نسبة لهم إلى ظاهر اللبسة؛ لأنهم اختاروا لبس الصوف لكونه أرفق، ولكونِه لباس الأنبياء عليهم السلام.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مرَّ بالصخرة من الروحاء سبعون نبيًّا حفاة عليهم العباء، يؤمون البيت الحرام». وقيل: إن عيسى — كان يلبَس الصوف والشَّعر، ويأكل من الشجر ويبيت حيث أَمْسَى.
(وقال) الحسن البصري رضى الله عنه: لقد أدركتُ سبعين بدريًّا كان لباسهم الصوف.
ووصفهم أبو هريرة وفضالة بن عبيد، فقال: كانوا يخرون من الجوع تحسبهم الأعراب مجانين، وكان لباسُهم الصوف، حتى أن بعضهم كان يعرق في ثوبه فيوجد منه رائحة الضأن إذا أصابه الغيث.
وقال بعضهم: أنه ليؤذيني ريح هؤلاء، أما يؤذيك ريحهم؟ يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. فكانت اختيارهم للبس الصوف لتركهم زينةَ الدنيا، وقناعتِهم بسد الجوعة وسترِ العورة، واستغراقهم في أمر الآخرةِ، فلم يتفرَّغوا لملاذ النفوس وراحاتها؛ لشدة شغلهم بخدمة مولاهم، وانصرافِ همهم إلى أمر الآخرة.
وهذا الاختيار يلائم ويناسب من حيث الاشتقاق؛ لأنه يقال تصوَّف إذا لبس الصوف كما يقال تقمص إذا لبس القميص، ولما كان حالهم بين سير وطير لتقلبهم في الأحوال وارتقائهم من عال إلى أعلى منه، لا يقيدهم وصف، ولا يحبسهم نعت وأبواب المزيد علمًا وحالًا عليهم مفتوحة، بواطنُهم معدن الحقائق ومجمع العلوم، فلما تعذر تقلدهم بحال تقيدهم لتنوع وجدانهم وتجنس مزيدهم نسبوا إلى ظاهر اللبسة، وكان ذلك أبين في الإشارة إليهم وأدعى إلى حصر وصفهم؛ لأن لبس الصُّوف كان غالبًا على المتقدمين من سلفهم، وأيضًا لأنَّ حالهم حال المقربين كما سبق ذكره، ولما كان الاعتزاء إلى القرب، وعظم الإشارة إلى قرب الله تعالى أمر صعب يعز كشفُه والإشارة إليه وقعت الإشارة إلى زيهم؛ سترًا لحالهم، وغيرةً على عزيز مقامهم، أن تكثر الإشارة إليه، وتتداوله الألسنة فكان هذا أقرب إلى الأدبِ، والأدب في الظاهر والباطن والقول والفعل عماد أمر الصوفيَّة. وفيه معنى آخر، وهو: أن نسبته إلى اللبسة تنبئ عن تقللهم من الدنيا، وزهدِهم فيما تدعو النفس إليه بالهوى من الملبوس الناعم، حتى أن المبتدئ المريد الذي يؤثر طريقهم، ويحب الدخول في أمرهم يوطن نفسه على التقشف والتقلل، ويعلم أن المأكول أيضًا من جنس الملبوس، فيدخل في طريقهم على بصيرة، وهذا أمرٌ مفهوم معلوم عند المبتدي، والإشارة إلى شيء من حالهم في تسميتهم بذلك أبعد من فهم أرباب البدايات، فكان تسميتهم بهذا أنفع وأولى.
وأيضًا غير هذا المعنى مما يقال: إنهم سموا صوفية لذلك يتضمن دعوى، وإذا قيل سموا صوفية للبسهم الصوف كان أبعد من الدعوى، وكلُّ ما كان أبعدَ من الدعوى كان أليق بحالِهم.
وأيضًا لأن لبسَ الصوف حكم ظاهر على الظاهر من أمرهم، ونسبتهم إلى أمر آخر من حال أو مقام أمر باطن، والحكم بالظاهر أوفق وأولى، فالقول بأنهم سموا صوفية للبسهم الصوف أليق وأقرب إلى التواضعِ.
ويقرب أن يقال لما آثروا الذبول والخمول والتواضع والانكسار والتخفي والتواري كانوا كالخرقة الملقاة، والصوفية المرمية التي لا يُرغب فيها، ولا يُلتفت إليها، فيقال: صوفي نسبة إلى الصوفة كما يقال: كوفي نسبة إلى الكوفة. وهذا ما ذَكَرَه بعض أهل العلم، والمعنى المقصود به قريب ويلائم الاشتقاق، ولم يَزَلْ لبس الصوف اختيار الصالحين والزهاد والمتقشفين والعُبَّادِ.
(أخبرنا) أبو زرعةَ طاهر عن أبيه، قال: أنا عبد الرزاق بن عبد الكريم، قال: أنا أبو الحسن محمد بن محمد قال: حدثنا أبو علي إسماعيل بن محمد قال: حدثنا الحسن بن عرفة قال: حدثنا خلف بن خليفة عن حميد بن الأعرج عن عبد الله بن الحرث عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم كلم الله تعالى موسى — كان عليه جبة صوف، وسراويل صوف، وكساء صوف، وكمُّه من صوفٍ، ونعلاه من جلد حمار غير مذكى».
وقيل: سموا صوفية؛ لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل بارتفاع هممهم وإقبالهم على الله تعالى بقلوبهم، ووقوفهم بسرائرهم بين يديه. وقيل: كان هذا الاسمُ في الأصل صفوي، فاستثقل ذلك وجُعَل صوفيًّا. وقيل: سموا صوفية نسبة إلى الصفة التي كانت لفقراء المهاجرين على عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ﴾ [البقرة: 273]. الآية.
وهذا إن كان لا يستقيمُ من حيث الاشتقاق اللغوي، ولكن صحيح من حيث المعنى؛ لأنَّ الصوفية يشاكل حالهم حال أولئك لكونهم مجتمعين متألفين متصاحبين لله وفي الله، كأصحاب الصفة، وكانوا نحوًا من أربعمئة رجل، لم تكن لهم مساكن بالمدينة، ولا عشائر، جمعوا أنفسهم في المسجد كاجتماع الصوفية قديمًا وحديثًا في الزوايا والربط، وكانوا لا يرجعون إلى زرع ولا إلى ضرع ولا إلى تجارة، كانوا يحتطبون، ويرضخون النوى بالنهار، وبالليل يشتغلون بالعبادة، وتعلم القرآن وتلاوته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواسيهم، ويحثُّ الناس على مواساتهم، ويجلسُ معهم، ويأكلُ معهم، وفيهم نزل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الأنعام: 52]. وقولُه تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ﴾ [الكهف: 28]. وَنَزَل في ابن أم مكتوم قوله تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى﴾. [عبس: 1، 2].
وكان من أهل الصفة فعوتب النبي صلى الله عليه وسلم لأجلِه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صافحهم لا ينزع يده من أيديهِم، وكان يفرقهم على أهل الجدة والسعة، يبعث مع واحد ثلاثة، ومع الآخر أربعة، وكان سعد بن معاذ يحمل إلى بيته منهم ثمانين يطعمُهم.
وقال أبو هريرة رضى الله عنه: لقد رأيت سبعين من أهل الصفة يصلون في ثوب واحد منهم من لا يبلغ ركبتيه، فإذا ركع أحدهم قبض بيديه مخافة أن تبدو عورته.
(وقال) بعض أهل الصفة: جئنا جماعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلنا: يا رسول الله، أحرق بطوننا التمر، فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر، ثم قال: «ما بالُ أقوام يقولون: أحرق بطوننا التمر، أما علمتم أن هذا التمرَ هو طعام أهل المدينة، وقد واسونا به، وواسيناكم مما واسونا به، والذي نفس محمد بيده، إن منذ شهرين لم يرتفع من بيتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم دُخَان للخبز، وليس لهم إلا الأسودان الماء والتمر».
(أخبرنا) الشيخ أبو الفتح محمد بن عبد الباقي في كتابِه، قال: أنا الشيخ أبو بكر بن زكريا الطريثيثي، قال: أنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا محمد بن محمد بن سعيد الأنماطي قال: حدثنا الحسن بن يحيى بن سلام قال: حدثنا محمد بن علي الترمذي قال: حدثني سعيد بن حاتم البلخي قال: حدثنا سهل بن أسلم عن خلاد بن محمد عن أبي عبد الرحمن السكري عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس {، قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا على أهل الصفة، فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم، فقال: «أَبْشِرُوا يا أصحاب الصفة، فمن بقى منكم على النعت الذي أنتم عليه اليوم راضيًا بما هو فيه فإنه من رفقائي يوم القيامة».
(وقيل): كان منهم طائفة بخراسان يأوون إلى الكهوف والمغارات، ولا يسكنون القرى والمدن، يسمونهم في خراسان شكفتية؛ لأن شكفت اسم الغار، ينسبونهم إلى المأوى والمستقر، وأهل الشام يسمونهم جوعية، والله تعالى ذكر في القرآن طوائف الخير والصلاح فسمى قومًا أبرارًا وآخرين مقرَّبين، ومنهم الصابرون والصادقون والذاكرون والمحبون.
واسم الصوفي مشتمل على جميع المتفرق في هذه الأسماء المذكورة، وهذا الاسم لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان في زمن التابعين.
(ونُقل) عن الحسن البصري -رحمة الله عليه- أنه قال: رأيت صوفيًّا في الطواف، فأعطيته شيئا فلم يأخذه، وقال: معي أربع دوانيقَ يكفيني ما معي، ويشيد هذا ما روي عن سفيان أنه قال: لولا أبو هاشم الصوفي ما عرفت دقيق الرياء، وهذا يدل على أن هذا الاسم كان يعرف قديمًا.
وقيل: لم يعرف هذا الاسم إلى المئتين من الهجرة العربية؛ لأن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يُسَمُّون الرجل صحابيًّا؛ لشرف صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكون الإشارة إليها أولى من كل إشارة، وبعد انقراض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذ منهم العلم سمي تابعيًّا، ثم لما تقادم زمان الرسالة، وبعد عهد النبوة وانقطع الوحي السماوي، وتوارى النور المصطفوي، واختلفت الآراء، وتنوعت الأنحاء، وتفرد كل ذي رأي رأيه، وكدر شرب العلوم شوب الأهويةِ، وتزعزت أبنيةُ المتقين واضطربت عزائمُ الزاهدين، وغلبت الجهالات، وكثف حجابُها، وكثُرت العادات، وتملَّكت أربابها وتزخرفت الدنيا، وكثر خطابها تفرد طائفة بأعمال صالحة، وأحوال سنيَّة، وصدق في العزيمة، وقوة في الدين، وزهدوا في الدنيا ومحبتها، واغتنموا العزلة والوحدة، واتخذوا لنفوسهم زوايا يجتمعون فيها تارة، وينفردون أخرى، أسوة بأهل الصفة تاركين للأسباب، متبتلين إلى رب الأرباب، فأثمر لهم صالح الأعمال سني الأحوال، وتهيأ لهم صفاء الفهوم لقبول العلوم، وصار لهم بعد اللسان لسان، وبعد العرفان عرفان، وبعد الإيمان إيمان، كما قال حارثة: أصبحت مؤمنًا حقًّا؛ حيثُ كوشف برتبةٍ في الإيمان غير ما يتعاهدها، فصار لهم بمقتضى ذلك علوم يعرفونها، وإشارات يتعاهدونها، فحرروا لنفوسهم اصطلاحات تشير إلى معان يعرفونها، وتعرب عن أحوال يجدونها، فأخذ ذلك الخلف عن السلف حتى صار ذلك رسمًا مستمرًّا، وخبرًا مستقرًّا في كل عصر وزمان، فظهر هذا الاسم بينَهم، وتسموا به وسموا به، فالاسم سمتهم، والعلم بالله صفتُهم، والعبادةُ حليتُهم، والتقوى شعارُهم، وحقائق الحقيقة أسرارُهم، نزاع القبائل، وأصحاب الفضائل، سكان قباب الغيرة، وقطان ديار الحيرة، لهم مع الساعات من إمداد فضل الله مزيد، ولهيب شوقهم يتأججُ ويقول هل من مزيد، اللهمَّ، احشرنا في زمرتهم، وارزقنا حالاتهم، والله أعلم.