(أخبرنا) شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب السهروردي -إجازة- قال: أنا الشيخ أبو منصور بن خيرون، قال: أنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري -إجازة- قال: أنا محمد بن العباس بن زكريا، قال: أنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد الأصفهاني قال: حدثنا الحسين بن الحسن المروزي، قال: أنا عبد الله بن المبارك، قال: أنا المعتمر بن سليمان، قال: أنا حميد الطويل عن أنس بن مالك، قال: جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله، متى قيام الساعة؟ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، فلما قضى الصلاة قال: «أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟». فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يا رسول الله، قال: «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟»، قال: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَثِير صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ -أو قال: ما أعددت لها كبير عمل- إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ النبي عليه الصلاة والسلام: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» -أو: «أنت مع من أحببت»-، قَالَ أنس: فَمَا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ فَرِحُوا بِشَىْءٍ بَعْدَ الإِسْلَامِ فَرَحَهُمْ بهذا.
فالمتشبّه بالصوفية ما اختار التشبه بهم دون غيرهم من الطوائف إلا لمحبته إياهم، وهو مع تقصيره عن القيام بما هم فيه يكون معهم لموضعِ إرادته ومحبته، وقد ورد بلفظ آخر أوضح من الخبر الذي رويناه في المعنى.
روى عبادةُ بن الصامت عن أبي ذر الغفاري قال: قلت: يَا رَسُولَ اللهِ، الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْمَلَ كَعَمَلِهِمْ، قال: «أَنْتَ يَا أَبَا ذَرٍّ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»، قال: قلت: فَإِنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، قال: «فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»، قال: فَأَعَادَهَا أَبُو ذَرٍّ فَأَعَادَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
فمحبة المتشبه إيَّاهم لا تكون إلا لتنبه روحه لما تنبهت له أرواح الصوفية؛ لأن محبَّة أمر الله وما يقرب إليه ومن يقرب منه تكون بجاذب الروح، غير أن المتشبه تعوَّق بظلمة النفس، والصوفي تخلص من ذلك، والمتصوف متطلع إلى حال الصوفي، وهو مشارك ببقاء شيء من صفات نفسه عليه للمتشبه، وطريق الصوفية أوله إيمان، ثم علم ثم ذوق، فالمتشبه صاحب إيمان، والإيمان بطريق الصوفية أصل كبير.
قال الجنيد -رحمة الله عليه-: الإيمان بطريقنا هذا ولاية، ووجه ذلك أن الصوفية تميزوا بأحوال عزيزة، وآثار مستغرَبة عند أكثر الخلق؛ لأنهم مكاشفون بالقدر، وغرائبُ العلوم، وإشاراتهم إلى عظيم أمر الله، والقرب منه والإيمان بذلك إيمانٌ بالقُدْرَة.
وقد أنكر قوم من أهل الملة كرامات الأولياء، والإيمان بذلكَ إيمانٌ بالقدرة، ولهم علوم من هذا القبيل فلا يؤمن بطريقتهم إلا من خصه الله تعالى بمزيد عنايته، فالمتشبه صاحب إيمان، والمتصوف صاحب علم؛ لأنه بعد الإيمان اكتسب مزيدَ علم بطريقهم، وصار له من ذلك مواجيد يستدل بها على سائرها.
والصوفي صاحب ذوق فللمتصوف الصادق نصيبٌ من حال الصوفي، وللمتشبه نصيب من حال المتصوف، وهكذا سنة الله تعالى جارية أن كل صاحب حال له ذوق فيه لا بد أن يكشف له علم بحال أعلى مما هو فيه، فيكون في الحال الأول صاحب ذوق، وفي الحال الذي كوشف به صاحبَ علم، وبحال فوق ذلك صاحب إيمان، حتى لا يزال طريق الطلب مسلوكًا، فيكون في حال الذوق صاحبَ قدم، وفي حال العلم صاحب نظر، وفي حال فوق ذلك صاحب إيمان، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ [المطَّففين: 22، 23]، وصف الأبرار ووصف شرابهم، ثم قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ [المطَّففين: 27، 28]. فكان لشرابِ الأبرار مزج من شراب المقربين، وللمقربين ذلك صرفًا، فللصوفي شراب صرف، وللمتصوف من ذلك مزج في شرابه، وللمتشبه مزج من شراب المتصوف، فالصوفي سبق إلى مقار الروح من بساط القرب، والمتصوف بالنسبة إلى الصوفي كالمتزهد بالنسبة إلى الزاهد؛ لأنه تفعل وتعمل وتسبب، إشارة إلى ما بقي عليه من وصفه، فهو مجتهد في طريقه سائر إلى ربه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيروا، سَبَقَ الْمُفْرِدُونَ». قيل: مَنِ الْمُفْرِدُونَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «الْمُسْتَهْتَرُونَ بِذِكْرِ اللهِ، وَضَعَ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أوزارهم، فوردوا الْقِيَامَةِ خِفَافًا».
فالصوفيُّ في مقامِ المفردين، والمتصوفُ في مقام السائرين واصلٌ في سيره إلى مقارِّ القلب من ذكر الله عز وجل ومراقبته بقلبه، وتلذذه بنظره إلى نظر الله إليه، فالصوفي في مقار الروح صاحب مشاهدة، والمتصوف في مقار القلب صاحب مراقبة، والمتشبه في مقاومة النفس صاحب مجاهدة وصاحب محاسبة، فتلوين الصوفي بوجود قلبه، وتلوين المتصوف بوجود نفسه، والمتشبه لا تلوين له؛ لأنَّ التلوين لأرباب الأحوال، والمتشبه مجتهد سالك لم يصل بعد إلى الأحوال، والكل تجمعُهم دائرةُ الاصطفاء.
قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ﴾ [فاطر: 32].
قال بعضُهم: الظالم الزاهد، والمقتصد العارف، والسابق المحب.
وقال بعضهم: الظالم الذي يجزع من البلاء، والمقتصد الذي يصبر عند البلاء، والسابق الذي يتلذذ بالبلاء.
وقال بعضهم: الظالم يعبد على الغفلة والعادِة، والمقتصد يعبد على الرغبة والرهبة، والسابق يعبدُ على الهيبة والمنة.
وقال بعضهم: الظالمُ بذكر الله بلسانِه، والمقتصد بقلبِه، والسابقُ لا ينسى ربه.
وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي -رحمه الله-: الظالم صاحب الأقوال، والمقتصد صاحب الأفعال، والسابق صاحب الأحوال، وكل هذه الأقوال قريبة التناسب من حال الصوفي والمتصوف والمتشبه وكلهم من أهل الفلاح والنجاح، تجمعهم دائرة الاصطفاء، وتؤلف بينهم نسبة التخصيص بالمنح والعطاء.
(أخبرنا) الشيخ العالم رضي الدين أبو الخير أحمد بن إسماعيل القزويني -إجازة- قال: أنا أبو سعد محمد بن أبي العباس قال: أنا القاضي محمد بن سعيد قال: أنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم قال: أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدثنا أحمد بن محمد بن رزمة قال: حدثنا يوسف بن عاصم الرازي قال: حدثنا أبو أيوب سليمان بن داود قال: حدثنا حصين بن نمير عن أبي ليلى عن أخيه عن أسامة بن زيد رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ﴾ [فاطر: 32]: «كلهم في الجنة».
قال ابن عطاء: الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا، والمقتصد الذي يحب الله من أجل العقبى، والسابق هو الذي أسقط مراده بمراد الله فيه، وهذا هو حال الصوفي، فالمتشبه تعرض لشيء من أمر القوم، ويوجب له ذلك القرب منهم، والقرب منهم مقدمة كل خير.
(سمعت) شيخَنا يقول: جاء بعض أبناء الدنيا إلى الشيخ أحمد الغزالي -ونحن بأصبهان- يريد منه الخرقة، فقال له الشيخ: اذهب إلى فلان -يشير إليَّ- حتى يكلمك في معنى الخرقة، ثم احضر حتى ألبسك الخرقة قال: فجاء إليَّ، فذكرت له حقوق الخرقة، وما يجب من رعاية حقها، وآداب من يلبسها ومن يؤهل للبسها فاستعظم الرجل حقوق الخرقة، وجبن أن يلبسها فأخبر الشيخ بما تجدد عند الطالب من قولي له، فاستحضرني وعاتبني على قولي له ذلك وقال: بعثته إليك حتى تكلمه بما يزيد رغبته في الخرقة، فكلمته بما فترت عزيمته، ثُم الذي ذكرته كلَّه صحيح، وهو الذي يجب من حقوق الخرقة، ولكن إذا ألزمنا المبتدئ بذلك نفر وعجز عن القيام به، فنحن نلبسه الخرقة حتى يتشبه بالقوم ويتزيى بزيهم، فيقربه ذلك من مجالسهم ومحافلهم، وببركة مخالطتِه معهم، ونظره إلى أحوال القومِ وسِيَرِهِمْ يحب أن يسلك مسلكهم، ويصل بذلك إلى شيء من أحوالهم.
ويوافق هذا القول من الشيخ أحمد الغزالي ما أخبرنا شيخنا -رحمه الله- قال: أنا عصام الدين عمر بن أحمد الصفار قال: أنا أبو بكر أحمد بن علي بن خلف قال: أنا الشيخ عبد الرحمن السلمي قال: سمعت الحسين بن يحيى، يقول: سمعت جعفرًا، يقول: سمعت أبا القاسم الجنيد، يقول: إذا لقيت الفقير فلا تبدأه بالعلم، وابدأه بالرفق فإن العلم يوحشه، والرفق يؤنسه.
وبرفق الصوفية بالمتشبهين بهم ينتفع المبتدئ الطالب، وكل من كان منهم أكمل حالًا وأوفر علمًا كان أكثر رفقًا بالمبتدي الطالب.
(حُكِيَ) عن بعضهم أنه صحبه طالب، فكان يأخذ نفسه بكثرة المعاملات والمجاهدات، ولم يقصد بذلك إلا نظر المبتدي إليه، والتأدب بأدبه، والاقتداء به في عمله، وهذا هو الرفق الذي ما دخل في شيء إلا زانه، فالمتشبه الحقيقي له إيمان بطريق القوم، وعمل بمقتضاه، وسلوك واجتهاد على ما ذكرناه أنه صاحب مجاهدة ومحاسبة، ثُم يصير متصوِّفًا صاحب مراقبة، ثم يصير صوفيًّا صاحب مشاهدة، فأما من لم يتطلعْ إلى حالِ المتصوف والصوفي بالتشبه، ولا يقصد أوائل مقاصدهم، بل هو مجرد تشبه ظاهر من ظاهر اللبسة والمشاركة في الزي والصورة دون السيرة والصفة؛ فليس بمتشبه بالصوفية؛ لأنه غير مُحَاكٍ لهم بالدخول في بداياتهم، فإذن هو متشبه بالتشبه، يعتزي إلى القوم بمجرد لبسه، ومع ذلك هم القوم لا يشقى بهم جليسهم، وقد ورد: «من تشبَّه بقوم فهو منهم».
(أخبرنا) الشيخ أبو الفتح محمد بن سليمان قال: أنا أبو الفضل حميد قال: أنا الحافظ أبو نعيم الأصفهاني قال: أنا عبد الله بن محمد بن جعفر قال: حدثنا عمر بن أحمد بن أبي عاصم قال: حدثنا إبراهيم بن محمد الشافعي قال: حدثنا علي بن أحمد قال: حدثنا علي بن علي المقدسي قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن عامر قال: حدثنا إبراهيم بن الأشعث قال: حدثنا فضيل بن عياض عن سليمان الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً فضلًا عن كتاب الناس، يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ، ويتتبعون مجالس الذِّكْرِ، فَإِذَا رأوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ تَنَادَوْا، هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى عنان السَّمَاءِ، فيقول الله -وَهوَ أَعْلَمُ-: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَحْمَدُونَكَ، ويُسَبِّحُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ، فَيَقُولُ: وهَلْ رَأَوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لَا. فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالَوا: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ تَسْبِيحًا وَتَحْمِيدًا وَتَمْجِيدًا، فيَقُولُ: مَا يَسْأَلُونَنِي؟ قَالَوا: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قالوا: لَا، فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَوا: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وعَلَيْهَا أكثر حِرْصًا، قَالَوا: ويَتَعَوَّذُونَ مِنَ النَّارِ، فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَوا: لَا، فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَوا: كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا تعوذا وَأَشَدَّ فِرَارًا، فَيَقُولُ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَيَقُولُ المَلَكُ: فمنهم فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، فيقول تبارك وتعالى: هُمُ الْجُلَسَاءُ، لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ»، فلا يشقى جليس الصوفية والمتشبه بهم والمحب لهم.