قال بعضهم: المَلَامَتِيُّ هو الذي لا يُظْهر خيرًا ولا يُضْمِر شرًّا وشرح هذا هو أن الملامتي تشربت عروقُه طعم الإخلاص، وتحقق بالصدق، فلا يجب أن يطلع أحد على حاله وأعماله.
(أخبرنا) الشيخ أبو زرعة طاهر بن أبي الفضل المقدسي -إجازة- قال: أنا أبو بكر أحمد بن علي بن خلف الشيرازي -إجازة- قال: أنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت علي بن سعيد، وسألته عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سمعت علي بن إبراهيم، وسألته عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سمعت محمد بن جعفر الخصاف، وسألته عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت أحمد بن بشار عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت أبا يعقوب الشُّرُوطِيَّ عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت أحمد بن غسان عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت أحمد بن علي الجَهْمِيَّ عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت عبد الواحد بن زيد عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت الحسن عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت حذيفة عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإخلاص: ما هو؟ قال: «سألت جبرائيل عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت رب العزة عن الإخلاص: ما هو؟ قال: هو سر من سري، استودعته قلب من أحببت من عبادي». فالملامتية لهم مزيد اختصاص بالتمسك بالإخلاص، يرون كَتْمَ الأحوال والأعمال، ويتلذذون بكتمها حتى لو ظهرت أعمالهم وأحوالهم لأحد استوحشوا من ذلك، كما يستوحش العاصي من ظهور معصيته، فالملامتي عَظَّم وقع الإخلاص وموضعه، وتمسك به معتدًّا به، والصوفي غاب في إخلاصه عن إخلاصه.
(قال) أبو يعقوب السوسي: متى شهدوا في إخلاصهم الإخلاص احتاج إخلاصهم إلى إخلاص.
وقال ذو النون: ثلاثٌ من علامات الإخلاص: استواء الذم والمدح من العامة، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال، وترك اقتضاء ثواب العمل في الآخرة.
(أخبرنا) أبو زرعة -إجازة- قال: أنا أبو بكر أحمد بن علي بن خلف -إجازة- قال: أنا أبو عبد الرحمن قال: سمعت أبا عثمان المغربي، يقول: الإخلاص ما لا يكون للنفس فيه حظ بحال، وهذا إخلاص العوام. وإخلاص الخواص ما يجري عليهم لا بهم، فتبدو منهم الطاعات وهم عنها بمعزل، ولا يقع لهم عليها رؤية، ولا بها اعتداد، فذلك إخلاص الخواص، وهذا الذي فَصَّلَه الشيخ أبو عثمان المغربي يُفَرِّقُ بين الصوفي والملامتي؛ لأن الملامتي أخرج الخلق عن عمله وحاله، ولكن أثبت نَفْسَهُ فهو مخلص. والصوفي أخرج نفسه عن عمله وحاله، كما أخرج غَيْرَه فهو مخلص. وشتان ما بين المخلص الخالص والمخلص.
(قال) أبو بكر الزقاق: نقصان كل مخلص في إخلاصه رؤية إخلاصه، فإذا أراد الله أن يخلص إخلاصه أسقط عن إخلاصه رؤيته لإخلاصه، فيكون مُخْلَصًا لا مُخْلِصًا.
(قال) أبو سعيد الخراز: رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين، ومعنى قوله أن إخلاص المريدين معلول برؤية الإخلاص، والعارف منزه عن الرياء الذي يُبْطِل العمل، ولكن لعله يظهر شيئًا من حاله، وعمله بعلم كامل عنده فيه لجذب مريد أو معاناة خُلُق من أخلاق النفس في إظهاره الحال والعمل، وللعارفين في ذلك علم دقيق، لا يعرفه غيرهم، فيرى ذلك نَاقِصُ العلم صورة رياء وليس برياء، إنما هو صريح العلم لله بالله من غير حضور نفس ووجود آفة فيه.
(قال رويم): الإخلاص ألَّا يرضى صاحبه عليه عوضًا في الدارين ولا حظًّا من الملكين.
وقال بعضهم: صدق الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الحق، والملامتي يرى الخلق فيخفي عمله وحاله، وكل ما ذكرناه من قبل وصف إخلاص الصوفي، ولهذا قال الزقاق: لا بد لكل مخلص من رؤية إخلاصه وهو نقصان عن كمال الإخلاص. والإخلاص هو الذي يتولى الله حِفْظَ صاحبه حتى يأتي به على التمام.
قال جعفر الخالدي: سألت أبا القاسم الجنيد -رحمه الله- قلت: أبين الإخلاص والصدق فرق؟ قال: نعم. الصدق أصل وهو الأول. والإخلاص فرع وهو تابع. وقال: بينهما فرق؛ لأن الإخلاص لا يكون إلا بعد الدخول في العمل. ثم قال: إنما هو إخلاص، ومخالصة الإخلاص، وخالصة كائنة في المخالصة، فعلى هذا الإخلاص حال الملامتي، ومخالصة الإخلاص حال الصوفي. والخالصة الكائنة في المخالصة ثمرة مخالصة الإخلاص، وهو فناء العبد عن رسومه برؤية قيامه بقيومه، بل غيبته عن رؤية قيامه، وهو الاستغراق في العين عن الآثار، والتخلص عن لوث الاستتار، وهو فقد حال الصوفي، والملامتي مقيم في أوطان إخلاصه غير متطلع إلى حقيقة إخلاصه، وهذا فرق واضح بين الملامتي والصوفي، ولم يزل في خراسان منهم طائفة، ولهم مشايخ يمهدون أساسهم، ويعرفونهم شروط حالهم. وقد رأينا في العراق من يسلك هذا المسلك، ولكن لم يشتهر بهذا الاسم، وقلما يتداول ألسنة أهل العراق هذا الاسم.
(حكي) أن بعض الملامتية استدعي إلى سماع فامتنع، فقيل له في ذلك، فقال: لأني إن حضرت يظهر علي وجد، ولا أوثر أن يعلم أحد حالي.
(وقيل): إن أحمد بن أبي الحواري قال لأبي سليمان الداراني: إني إذا كنت في الخلوة أجد لمعاملتي لذَّةً لا أجدها بين الناس. فقال له: إنك إذن لضعيف. فالملامتي وإن كان متمسكًا بعروة الإخلاص، مستفرشًا بساط الصدق، ولكن بقي عليه بقية رؤية الخلق، وما أحسنها من بقيةٍ تُحَقِّقُ الإخلاص والصدق! والصوفي صَفَا من هذه البقية في طرفي العَمَلِ، والترك للخلق، وعزلهم بالكلية، ورآهم بعين الفناء والزوال، ولاح له ناصيةُ التوحيد، وعاين سِرَّ قوله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: 88].
كما قال بعضهم في بعض غلباته: ليس في الدارين غير الله، وقد يكون إخفاء الملامتي الحال على وجهين: أحد الوجهين لتحقيق الإخلاص والصدق.
والوجه الآخر: وهو الأتم لستر الحال عن غيره بنوع غيره؛ فإن من خلا بمحبوبه يكره اطلاع الغير عليه، بل يبلغ في صدق المحبة أن يكره اطلاع أحد على حبه لمحبوبه، وهذا وإن علا ففي طريق الصوفي علة ونقص؛ فعلى هذا يتقدم الملامتي على المتصوف، ويتأخر عن الصوفي.
وقيل: إن من أصول الملامتية أن الذكر على أربعة أقسام: ذكر باللسان، وذكر بالقلب، وذكر بالسر، وذكر بالروح. فإذا صح ذكر الروح سكت السر والقلب واللسان عن الذكر، وذلك ذكر المشاهدة.
وإذا صح ذكر السر سكت القلب واللسان عن الذكر، وذلك ذكر الهيبة.
وإذا صح ذكر القلب فتر اللسان عن الذكر، وذلك ذكر الآلاء والنعماء.
وإذا غفل القلب عن الذكر أقبل اللسان على الذكر، وذلك ذكر العادة. ولكل واحد من هذه الأذكار عندهم آفة، فآفة ذكر الروح اطلاع السر عليه، وآفة ذكر السر اطلاع القلب عليه، وآفة ذكر القلب اطلاع النفس عليه، وآفة ذكر النفس رؤية ذلك وتعظيمه، أو طلب ثوابه، أو ظن أنه يصل إلى شيء من المقامات. وأقل الناس قيمة عندهم من يريد إظهاره وإقبال الخلق عليه بذلك.
وسر هذا الأصل الذي بَنَوْا عليه أن ذكر الروح ذكر الذات، وذكر السر ذكر الصفات بزعمهم، وذكر القلب من الآلاء والنعماء ذكر أثر الصفات، وذكر النفس متعرض للعلات، فمعنى قولهم: اطلاع السر على الروح يشيرون إلى التحقق بالفناء عند ذكر الذات، وذكر الهيبة في ذلك الوقت ذكر الصفات، مشعر بنصيب الهيبة، وهو وجود الهيبة، ووجود الهيبة يستدعي وجودًا وبقيةً، وذلك يناقض حال الفناء.
وهكذا ذكر السر وجود هيبة، وهو ذكر الصفات مشعر بنصيب القرب، وذكر القلب الذي هو ذكر الآلاء والنعماء مشعر ببعدٍ ما؛ لأنه اشتغال بذكر النعمة، وذهول عن المنعم، والاشتغال برؤية العطاء عن رؤية المعطي ضرب من بُعْد المنزلة، واطلاعُ النفس نظرًا إلى الأعواض اعتدادٌ بوجود العمل، وذلك عين الاعتدال حقيقة. وهذه أقسام هذه الطائفة، وبعضها أعلى من بعض، والله أعلم.