إذا كمل شغل الصوفي بالله وكمل زهده لكمال تقواه؛ يحكم الوقت عليه بترك التسبب وينكشف له صريح التوحيد وصحة الكفالة من اللهِ الكريم فيزول عن باطنه الاهتمام بالأقسام، ويكون مقدمة هذا أن يفتح الله له بابًا من التعريف بطريق المقابلة على كل فعل يصدر منه، حتى لو جرى عليه يسير من ذنب بحسب حاله أو الذنب مطلقًا مما هو منهي عنه في الشرع يجد غِبَّ لك في وقته أو يومه. كان يقول بعضهم: إني لأعرف ذنبي في سوء خلق غلامي. وقيل: إن بعض الصوفية قرض الفأرُ خفَّه فلما رآه تألم وقال:
لو كنتُ من مازنٍ لم تستبح إبلي |
* | بنو اللقيطة من ذهل ابن شيبانا |
إشارة منه إلى أن الدَّاخل عليه مُقَابَلَةً له على شيء استوجب به ذلك، فلا تزال به المقابلات متضمنة للتعريفات الإلهية حتى يتحصن بصدق المحاسبة وصفاء المراقبة عن تضييع حقوق العبودية ومخالفة حكم الوقت ويتجرد له حكم فعل الله وتنمحي عنده أفعال غير الله؛ فيرى المعطي والمانع هو اللهُ سبحانه ذوقًا وحالًا لا علمًا وإيمانًا، ثم يتداركه الحقُّ تعالَى بالمعونة ويوفقه على صريح التوحيد وتجريد فعل الله تعالى.
كما حكي عن بعضِهم أنَّه خطر له خاطرُ الاهتمام بالرزق، فخرج إلى بعض الصحارى فرأى قنبرة عمياء عرجاء ضعيفة؛ فوقف متعجبًا منها متفكرًا فيما تأكل مع عجزها عن الطيران والمشي والرؤية، فبينما هو كذلك إذ انشقت الأرض وخرجت سكرجتان في إحداهما سمسم نقي وفي الأخرى ماء صافٍ، فأكلت من السمسم وشربت من الماء، ثم انشقت الأرض وغابت السكرجتان، قال: فلما رأيت ذلك سقط عن قلبي الاهتمام بالرزق. فإذا أوقف الحق عبده في هذا المقام يزيل عن باطنه الاهتمام بالأقسام، ويرى الدخول في التسبب والتكسب بالسؤال وغيره رتبة العوام، ويصير مسلوب الاختيار غير متطلع إلى الأغيار، ناظرًا إلى فعل الله تعالى، منتظرًا لأمر الله؛ فتساق إليه الأقسام، ويفتح عليه باب الإنعام، ويكون بدوام ملاحظته لفعل الله وترَصُّده ما يحدث من أمر الله تعالى، مكاشفًا له تجليات من الله تعالى بطريق الأفعالِ، والتجلِّي بطريقِ الأفعال رتبة من القرب، ومنه يترقى إلى التجلي بطريق الصفات، ومن ذلك يترقى إلى تجلي الذات، والإشارة في هذه التجليات إلى رُتَبٍ في اليقين، ومقامات في التوحيد، شيء فوق شيء، وشيء أصفَى من شيءٍ، فالتَّجَلِّي بطريق الأفعال يحدِث صفو الرِّضَا والتسليم، والتجلِّي بطريق الصِّفَات يكسب الهيبة والأنس، والتجلي بالذات يكسب الفناء والبقاء، وقد يسمَّى تركُ الاختيار والوقوفُ مع فعل اللهِ فناءً يعنون به فناء الإرادة والهوى، والإرادة ألطَفُ أقسام الهوى، وهذا الفناء هو الفناء الظاهر. فأما الفناء الباطن وهو محو آثارِ الوجود عند لمعانِ نورِ الشهودِ فيكونُ في تجلِّي الذات وهو أكمل أقسام اليقين في الدنيا.
فأما تجلِّي حكم الذات فلا يكون إلا في الآخرة، وهو المقام الذي حظي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ومنع عنه موسى بــ: «لن تراني»، فليعلم أن قولنا في التجلي إشارة إلى رتبِ الحظ من اليقين ورؤية البصيرة، فإذا وصلَ العبد إلى مبادي أقسام التجلي وهو مطالعة الفعلِ الإلهي مجردًا عن فعل سواه يكون تناوله الأقسام من الفتوح.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ وُجِّهَ إليهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الرِّزْقِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إِشْرَافٍ فليَأْخُذْهُ وَلْيُوَسِّعْ بِهِ فِي رِزْقِهِ فَإِنْ كَانَ عنده غنًى فليدفعه إِلَى مَنْ هُوَ أَحْوَجُ مِنْهُ».
وفي هذا دلالة ظاهرة على أنَّ العبد يجوز أن يأخذ زيادة على حاجته بنية صرفه إلى غيره، وكيف لا يأخذ وهو يرَى فعل الله تعالى؟ ثُمَّ إذا أخذ فمنهم من يخرجه إلى المحتاج، ومنهم من يقف في الإخراجِ أيضًا حتى يرد عليهِ من الله علم خاصٌّ ليكون أخذه بالحق وإخراجه بالحق.
(أخبرنا) الشيخُ أبو زرعة طاهر قال: أنبأنا والدي الحافظ أبو الفضلِ المقدسي قال: أنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبال قال: أنا محمد بن عبد الرحمن بن سعيد قال: أنا أبو طاهر أحمد بن محمد بن عمرو قال: أنا يونس بن عبد الأعلى قال: حدثنا عمرو بن الحرث عن ابن شهاب عن السائبِ بن يزيد عن حويطب بن عبد العُزَّى عن عبيد الله السعدي عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول له: أعطه يا رسول الله من هو أفقر مني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ أو تَصَدَّقْ بِهِ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ متشرفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وما لا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ». قال سالم: فمن أجل ذلك كان ابن عمرَ لا يسأل أحدًا شيئًا، ولا يرد شيئًا أعطيَه. درج رسول الله صلى الله عليه وسلم الأصحاب بأوامره إلى رؤية فعل الله تعالى والخروج من تدبير النفس إلى حسن تدبير الله تعالى.
(سُئِلَ) سهل بن عبد الله التستري عن علمِ الحال قال: هو تركُ التدبيرِ ولو كان هذا في واحدٍ لكان من أوتاد الأرض.
(وروى) زيدُ بن خالد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جاءَه معروف من أخيه من غير مسألة ولا إشراف نفسٍ فليقبله؛ فإنما هو شيء من رزق الله تعالى ساقه الله إليه».
وهذا العبد الواقف مع الله تعالى في قبول ما ساق الحقُّ آمنٌ ما يخشى عليه، إنما يخشى على من يرد؛ لأن من ردَّ لا يأمن من دخول النفس عليه أن يُرَى بعين الزهد، ففي أخذه إسقاطُ نظر الخلق تحققًا بالصدق والإخلاص، وفي إخراجه إلى الغير إثباتُ حقيقةٍ، فلا يزال في كلا الحالين زاهدًا، يراه الغير بعين الرغبة؛ لقلة العلم بحاله، وفي هذا المقام يتحقق الزهد في الزهد.
ومن أهل الفتوح من يعلم دخول الفتوح عليه، ومنهم من لا يعلم دخول الفتوح عليه، فمنهم من لا يتناول من الفتوح إلا إذا تقدمه علم بتعريف من الله إياه، ومنهم من يأخذ غير متطلع إلى تقدم العلم حيث تجرد له الفعل، ومن لا ينتظر تقدمة العلم فوق من ينتظر تقدمة العلم؛ لتمام صحبته مع الله، وانسلاخه من إرادته، وعلم حاله في ترك الاختيار، ومنهم من يدخل الفتوح عليه لا بتقدمة العلم ولا رؤية تجرد الفعل من الله، ولكن يرزق شِربًا من المحبة بطريق رؤية النعمة، وقد يتكدر شِرْب هذا بتغير معهود النعمة، وهذا حال ضعيف بالإضافة إلى الحالين الأولين؛ لأنه علة في المحبة ووليجة في الصدق عند الصديقين، وقد ينتظر صاحب الفتوح العلم في الإخراج أيضًا، كما ينتظر في الأخذ؛ لأن النفس تظهر في الإخراج كما تظهر في الأخذ، وأتم من هذا من يكون في إخراجه مختارًا، وفي أخذه مختارًا بعد تحققه بصحة التصرف؛ فإن انتظار العلم إنما كان لموضع اتهام النفس، وهو ببقية هوًى موجود، فإذا زال الاتهام بوجود صريح العلم يأخذ غير محتاج إلى علم متجدد، ويخرج كذلك، وهذه حال من تحقق بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حاكيًا عن ربه: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ له سمعًا وبصرًا، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي ينطق». الحديث. فلما صح تعرفه صح تصرفه، وهذا أعز في الأحوال من الكِبريت الأحمر.
(وكان) شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي -رحمه الله- يحكي عن الشيخ حماد الدباس أنه كان يقول: أنا لا آكل إلا من طعام الفضل. فكان يرى الشخص في المنام أن يحمل إليه شيئًا، وقد كان يُعَيِّن للرائي في المنام أن احمل إلى حماد كذا وكذا. وقيل: إنه بقي زمانًا يرى هو في واقعته أو منامه: إنك أحلت على فلان بكذا وكذا.
وحكي عنه أنه كان يقول: كل جسم تربى بطعام الفضل لا يتسلط عليه البلاء، ويعني بطعام الفضل: ما شهد له صحة الحال من فتوح الحق، ومن كانت هذه حالته فهو غني بالله.
(قال) الواسطي: الافتقار إلى الله أعلى درجة المريدين، والاستغناء بالله أعلى درجة الصديقين.
(وقال) أبو سعيد الخراز: العارف تدبيره فَنِيَ في تدبير الحق، فالواقف مع الفتوح واقف مع الله، ناظر إلى الله، وأحسن ما حكي في هذا أن بعضهم رأى النوري يمد يده ويسأل الناس، قال: فاستعظمت ذلك منه واستقبحته له، فأتيت الجنيد أخبرته، فقال لي: لا يَعْظُم هذا عليك فإن النوري لم يسأل الناس إلا ليعطيهم سؤلهم في الآخرة، فيؤجرون من حيث لا يضره. وقول الجنيد: ليعطيهم، كقول بعضهم: اليد العليا: يد الآخذ؛ لأنه يُعْطِي الثوابَ، قال: ثم قال الجنيد: هات الميزان، فوزن مئة درهم، ثم قبض قبضةً فألقاها على المئة، ثم قال: احملها إليه. فقلت في نفسي: إنما يزن؛ ليعرف مقدارها، فكيف خلط المجهول بالموزون، وهو رجل حكيم؟ واستحييت أن أسأله، فذهبت بالبصرة إلى النوري فقال: هات الميزان، فوزن مئة درهم، وقال: ردها عليه، وقل له: أنا لا أقبل منك شيئًا، وأخذ ما زاد على المئة، قال: فزاد تعجبي، فسألته عن ذلك فقال الجنيد: رجل حكيم يريد أن يأخذ الحبل بطرفيه، وزن المئة لنفسه طلبًا للثواب، وطرح عليها قبضة بلا وزن لله، فأخذت ما كان لله، ورددت ما جعله لنفسه، قال: فرددتها على الجنيد فبكى، وقال: أخذ ما له، وردَّ ما لنا.
(ومن لطائف) ما سمعت من أصحاب شيخنا أنه قال ذات يوم لأصحابه: نحن محتاجون إلى شيء من المعلوم، فارجعوا إلى خلواتكم، واسألوا الله تعالى، وما يفتح الله تعالى لكم ائتوني به، ففعلوا، ثم جاءه من بينهم شخص يعرف بإسماعيل البطائحي، ومعه كاغِدٌ عليه ثلاثون دائرة وقال: هذا الذي فتح الله لي في واقعتي، فأخذ الشيخ الكاغد فلم يكن إلا ساعة، فإذا بشخص دخل ومعه ذهب، فقدمه بين يدي الشيخ، ففتح القرطاس وإذا هو ثلاثون صحيحًا، فترك كل صحيح على دائرة وقال: هذا فتوح الشيخ إسماعيل، أو كلامًا هذا معناه.
(وسمعت) أن الشيخ عبد القادر -رحمه الله- بعث إلى شخص، وقال لفلان: عندك طعام وذهب، ائتني من ذلك بكذا ذهبًا وكذا طعامًا، فقال الرجل: كيف أتصرف في وديعة عندي؟ ولو استفتيتك ما أفتيتني في التصرف، فألزمه الشيخ بذلك، فأحسن الظن بالشيخ وجاء إليه بالذي طلب، فلما وقع التصرف منه جاءه مكتوبٌ من صاحب الوديعة وهو غائب في بعض نواحي العراق: أن احمل إلى الشيخ عبد القادر كذا وكذا، وهو القدر الذي عينه الشيخ عبد القادر، فعاتبه الشيخ بعد ذلك على توقفه، وقال: ظننتَ بالفقراء أن إشاراتهم تكون على غير صحة وعلم، فالعبد إذا صح مع الله تعالى يرفع الله عن باطنه هموم الدنيا، ويجعل الغنى في قلبه، ويفتح عليه أبواب الرفق، وكل الهموم المتسلطة على بعض الفقراء لكون قلوبهم ما استكملت الشغل بالله والاهتمام برعاية حقائق العبودية، فعلى قدر ما خلت من الهم بالله ابتليت بهم الدنيا، ولو امتلأت من هَمِّ الله ما عذبت بهموم الدنيا، وقنعت وارتقت.
(روي) أن عوف بن عبد الله المسعودي كان له ثلاثمئة وستون صديقًا، وكان يكون عند كل واحد يومًا، وآخر كان له ثلاثون صديقًا يكون عند كل واحد يومًا، وآخر كان له سبعة إخوان يكون كل يوم من الأسبوع عند واحد، فكان إخوانهم معلومهم، والمعلوم إذا أقامه الحق للناظر إلى الله الكامل توحيده يكون نعمة هنيئة.
(جاء رجل) إلى الشيخ أبي السعود -رحمه الله- وكان من أرباب الأحوال السنية، والواقفين في الأشياء مع فعل الله تعالى، متمكنًا من حاله، تاركًا لاختياره، ولعله سبق كثيرًا من المتقدمين في تحقيق ترك الاختيار رأينا منه وشاهدنا أحوالًا صحيحة عن قوة وتمكين، فقال له الرجل: أريد أن أعين لك شيئًا كل يوم من الخبز أحمله إليك، ولكنِّي قلت: الصوفية يقولون: المعلوم شؤم، قال الشيخ: نحن ما نقول: المعلوم شؤم، فإن الحق يصفى لنا، وفعله نرى، فكل ما يقسم لنا نراه مباركًا، ولا نراه شؤمًا.
(أخبرنا) أبو زرعة -إجازة- قال: أنا أبو بكر بن أحمد بن خلف الشيرازي -إجازة- قال: أنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت أبا بكر بن شاذان قال: سمعت أبا بكر الكتاني قال: كنت أنا وعمرو المكي وعياش بن المهدي نصطحب ثلاثين سنة نصلي الغداة على طهر العصر، وكنا قعودًا بمكة على التجريد، ما لنا على الأرض ما يساوي فلسًا، وربما كان يصحبنا الجوع يومًا ويومين وثلاثة وأربعة وخمسة ولا نسأل أحدًا فإن ظهر لنا شيء وعرفنا وجهه من غير سؤال ولا تعريض قبلناه وأكلناه، وإلا طوينا فإذا اشتد بنا الأمر وخفنا على أنفسنا النقصان في الفرائض قصدنا أبا سعيد الخراز، فيتخذ لنا ألوانًا من الطعام، ولا نقصد غيره، ولا ننبسط إلا إليه؛ لما نعرف من تقواه وورعه.
(وقيل) لأبي يزيد: ما نراك تشتغل بكسب، فمن أين معاشك؟ فقال: مولاي يرزق الكلب والخنزير، تراه لا يزرق أبا يزيد؟.
(قال السلمي): سمعت أبا عبد الله الرازي يقول: سمعت مظفرًا القرميسني يقول: الفقير الذي لا يكون له عند الله حاجة.
وقيل لبعضهم: ما الفقر؟ قال: وقوفُ الحاجة على القلب، ومحوها من كل أحد سوى الرب.
(وقال) بعضهم: أخذ الفقير الصدقةَ ممن يعطيه لا ممن تصل إليه على يده، ومن قَبِلَ من الوسائطِ فهو المترسم بالفقر مع دناءة همته.
(أنبأنا) شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي قال: أنا عصام الدين أبو حفص عمر بن أحمد بن منصور الصفَّار قال: أنا أبو بكر أحمد بن خلف الشيرازي قال: أنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: سمعت أن أبا سليمان الداراني كان يقول: آخر أقدام الزاهدين أول أقدام المتوكلين.
(روي) أن بعض العارفين زهد، فبلغ من زهده أن فارق الناس، وخرج من الأمصار، وقال: لا أسأل أحدًا شيئًا حتى يأتيني رزقي، فأخذ يسيح فأقام في سفح جبل سبعًا، لم يأته شيء حتى كاد أن يتلف، فقال: يا رب، إن أحببتني فأتني برزقي الذي قسمت لي، وإلا فاقبضني إليك، فألهمه الله تعالى في قلبه: وعزتي وجلالي، لا أرزقك حتى تدخل الأمصار وتقيم بين الناس، فدخل المدينة وأقام بين ظهراني الناس، فجاء هذا بطعام وهذا بشراب، فأكل وشرب فأوجس في نفسه من ذلك فسمع هاتفًا: أردت أن تبطل حكمته بزهدك في الدنيا، أما علمت أن يرزق العباد بأيدي العباد أحب إليه من أن يرزقهم بأيدي القدرة.
فالواقف مع الفتوح استوى عنده أيدي الآدميين وأيدي الملائكة، واستوى عنده القدرة والحكمة، وطلب القفار، والتوصل إلى قطع الأسباب من الارتهان برؤية الأسباب، وإذا صحَّ التوحيد تلاشت الأسباب في عين الإنسان.
(أخبرنا) شيخنا قال: أنا أبو حفص عمر قال: أنا أبو عبد الرحمن قال: أنا محمد بن أحمد بن حمدان العكبري قال: سمعت أحمد بن محمود بن اليسري يقول: سمعت محمدًا الإسكاف يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: من استفتح باب المعاش بغير مفاتيح الأقدار وُكل إلى المخلوقين.
(قال) بعض المتقطعين: كنت ذا صنعة جليلة، فأريد مني تركها، فحاك في صدري من أين المعاش، فهتف بي هاتف: لا أراه تنقطع إلي وتتهمني في رزقك على أن أخدمك وليًّا من أوليائي، أو أسخر لك منافقًا من أعدائي، فلما صح حال الصوفي، وانقطعت أطماعه، وسكنت عن كل تشوف وتطلع خدمته الدنيا، وصلحت له الدنيا خادمة، وما رضيها مخدومة، فصاحب الفتوح يرى حركة النفس بالتشوف جناية وذنبًا.
(روي) أن أحمد بن حنبل خرج ذات يوم إلى شارع باب الشام، فاشترى دقيقًا ولم يكن في ذلك الموضع من يحملُه، فوافى أيوب الحمال فحمله ودفع إليه أحمد أجرته، فلما دخل الدار بعد إذنه له اتفق أن أهل الدار قد خبزوا ما كان عندهم من الدقيق، وتركوا الخبز على السرير ينشف فرآه أيوب، وكان يصوم الدهر، فقال أحمد لابنه صالح: ادفع إلى أيوب من الخبز، فدفع له رغيفين فردهما، قال أحمد: ضعهما، ثم صبر قليلا، ثم قال: خذهما فألحقه بهما، فلحقه فأخذهما، فرجع صالح متعجبًا، فقال له أحمد: عجبت من ردِّه وأخذه؟ قال: نعم، قال: هذا رجل صالحٌ، فرأى الخبز، فاستشرفت نفسه إليه، فلما أعطيناه مع الاستشراف رده، ثم أيس فرددناه إليه بعد الإياس فقبل. هذا حال أرباب الصدق، إن سألوا سألوا بعلم، وإن أمسكوا عن السؤال أمسكوا بحال وإن قبلوا قبلوا بعلم، فمن لم يرزق حال الفتوح فله حال السؤال والكسب بشرط العلم، فأما السائل مستكثرًا فوق الحاجة لا في وقت الضرورة فليس من الصوفية بشيء.
سمع عمر رضى الله عنه سائلًا يسأل، فقال لمن عنده: ألم أقل لك عشِّ السائل؟ فقال: قد عشيته، فنظر عمر فإذا تحت إبطه مخلاة مملوءة خبزًا، فقال عمر: ألك عيال؟ فقال: لا، فقال عمر: لست بسائل ولكنك تاجر، ثم نثر مخلاته بين يدي أهل الصدقة، وضربه بالدرة.
(وروي) عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه قال: إن لله تعالى في خلقه مثوبات فقر وعقوبات فقر، فمن علامة الفقر إذا كان مثوبة أن يحسن خلقه، ويطيع ربه، ولا يشكو حاله ويشكر الله تعالى على فقره، ومن علامة الفقر إذا كان عقوبة أن يسوء خلقه، ويعصي ربه ويكثر الشكاية ويتسخط للقضاء، فحال الصوفية حسن الأدب في السؤال والفتوح، والصدق مع الله على كل حال كيف تقلب.