اختلف أحوال الصوفية في الوقوف مع الأسباب والإعراض عن الأسباب، فمنهم من كان على الفتوح لا يركن إلى معلوم، ولا يتسبب بكسب ولا سؤال، ومنهم من كان يكتسب، ومنهم من كان يسأل في وقت فاقته، ولهم في كل ذلك أدب وحدٌّ يراعونه ولا يتعدونه، وإذا كان الفقير يسوس نفسه بالعلم يأتيه الفهم من الله تعالى في الذي يدخل فيه من سبب أو ترك سبب، فلا ينبغي للفقير أن يسأل مهما أمكن، فقد حث النبي عليه السلام على ترك السؤال بالترغيب والترهيب.
فأما الترغيب فما روى ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَضْمَنْ لِي وَاحِدَةً أتكفل لَهُ الْجَنَّة». قال ثوبان: قلت أنا، قال: «لَا تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئًا». فكان ثوبان تسقط عَلاقة سوطه فلا يأمر أحدًا يناوله، وينزل هو ويأخذها.
(وروى) أبو هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلًا فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ؛ فَإنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ السُّفْلَي».
(أخبرنا) الشيخ الصالح أبو زرعة طاهر بن أبي الفضل الحافظ المقدسي قال: أخبرني والدي قال: أنا أبو محمد الصيرفي -ببغداد- قال: أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا علي بن الجَعْد قال: حدثنا شعبة عن أبي حمزة قال: سمعت هلال بن حُصَيْن قال: أتيت المدينة فنزلت دار أبي سعيد فضمني وإياه المجلس، فحدث أنه أصبح ذات يوم وليس عندهم طعام فأصبح وقد عَصَبَ على بطنه حجرًا من الجوع، فقالت لي امرأتي: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أتاه فلان فأعطاه، وأتاه فلان فأعطاه، قال: فأتيته وقلت: ألتمس شيئًا، فذهبت أطلب، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، ويقول: «مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفُّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، ومن سألنا شيئا فوجدناه أعطيناه وواسيناه، ومن استعف عنه واستغنى فهو أحب إلينا ممن سألنا»، قال: فرجعت وما سألته، فرزقني الله تعالى حتى ما أعلم أهل بيت من الأنصار أكثر أموالًا منا.
وأما من حيث الترهيب والتحذير فقد رُوِي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا تزال الْمَسْأَلَةُ بأحدكم حَتَّى يَلْقَى اللهَ وليس فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ».
وروى أبو هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ الأُكْلَةُ وَالأُكْلَتَانِ، والتمرة والتمرتان، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ، ولا يُفْطَن بمكانه فيعطى». هذا هو حال الفقير الصادق والمتصوف المحقق لا يسأل الناس شيئًا.
ومنهم من يلزم الأدب حتى يؤديه إلى حال يستحيي من الله تعالى أن يسأله شيئًا من أمر الدنيا، حتى إذا همت النفس بالسؤال ترده الهيبة، ويرى الإقدام على السؤال جراءة، فيعطيه الله تعالى عند ذلك من غير سؤال، كما نُقِل عن إبراهيم الخليل عليه السلام أنه جاءه جبريل وهو في الهواء قبل أن يصل إلى النار، فقال: هل لك من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا. فقال له: فسل ربك. فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي. وقد يضعف عن مثل هذا فيسأل الله عبودية، ولا يرى سؤال المخلوقين، فيسوق الله تعالى إليه من القَسْم من غير سؤال مخلوق.
بلغنا عن بعض الصالحين أنه كان يقول: إذا وجد الفقير نفسه مطالبة بشيء لا تخلو تلك المطالبة إما أن تكون لرزق يريد الله أن يسوقه إليه، فتتنبه النفس له، فقد تتطلع نفوس بعض الفقراء إلى ما سوف يحدث، وكأنها تُخْبر بما يكون، وإما أن يكون ذلك عقوبةً لذنب وُجِد منه، فإذا وجد الفقير ذلك وألحت النفس بالمطالبة فليقم وليسبغ الوضوء ويصلي ركعتين، ويقول: يا رب إن كانت هذه المطالبة عقوبةَ ذنب، فأستغفرك وأتوب إليك، وإن كانت لرزق قدرته لي فعجل وصوله إليَّ؛ فإن الله تعالى يسوقه إليه إن كان رزقه، وإلا فتذهب المطالبة عن باطنه، فشأن الفقير أن يُنْزِل حوائجه بالحق، فإما أن يرزقه الشيء أو الصبر، أو يُذْهِبَ ذلك عن قلبه، فلله سبحانه وتعالى أبواب من طريق الحكمة، وأبواب من طريق القدرة، فإن فتح بابًا من طريق الحكمة، وإلا فيفتح بابًا من طريق القدرة، ويأتيه الشيء بخرق العادة، كما كان يأتي مريم عليها السلام: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ [آل عمران: 37].
حُكِي عن بعض الفقراء قال: جُعْتُ ذات يوم وكان حالي ألَّا أسأل، فدخلتُ بعض المحال ببغداد مجتازًا متعرضًا، لعل الله تعالى يفتح لي على يد بعض عباده شيئًا، فلم يُقَدَّر، فنمت جائعًا، فأتى آتٍ في منامي فقال لي: اذهب إلى موضع كذا -وعَيَّن الموضع- فثَمَّ خرقة زرقاء فيها قطيعات، أَخْرِجْها في مصالحك.
فمن تجرد عن المخلوقين، وتفرد بالله فقد تفرد بغني قادر، لا يُعْجزه شيء، يفتح عليه من أبواب الحكمة والقدرة كيف شاء، وأَوْلى من سأل نفسه يسألها الصبر الجميل؛ فإن الصادق تجيبه نفسه.
وحكى شيخنا -رحمه الله تعالى- أن ولده جاء إليه ذات يوم، وقال له: أريد حبة، قال: فقلت له: ما تفعل بالحبة، فذكر شهوة يشتريها بالحبة. ثم قال: عن إذنك أذهب وأستقرض الحبة، قال: قلت: نعم استقرضها من نفسك فهي أولى من أَقْرَض.
وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال:
إن شئتَ أن تستقرض المال منفقًا |
* | على شهوات النفس في زمن العُسْرِ |
فسلْ نفسك الإنفاق من كَنْزِ صبرها |
* | عليك وإرفاقًا إلى زمن اليُسْرِ |
فإن فعلتَ كنتَ الغني وإن أَبَتْ |
* | فكل منوع بعدها وَاسِع العُذْرِ |
فإذا استنفذ الفقير الجهدَ من نفسه، وأشرف على الضعف، وتحققت الضرورة، وسأل مولاه ولم يُقَدَّر له بشيء، ووقته يضيق عن الكسب من شغله بحاله، فعند ذلك يقرع باب السبب ويسألُ، فقد كان الصالحون يفعلون ذلك عند فاقتهم.
(نُقِل) عن أبي سعيد الخراز أنه كان يمد يده عند الفاقة، ويقول: ثَمَّ شيء لله. ونُقِل عن أبي جعفر الحداد -وكان أستاذا للجُنَيْد- أنه كان يخرج بين العشاءين، ويسأل من باب أو بابين، ويكون ذلك معلومه على قدر الحاجة بعد يوم أو يومين.
ونُقِلَ عن إبراهيم بن أدهم: أنه كان معتكفًا بجامع البصرة مدة، وكان يفطر في كل ثلاث ليال ليلة، وليلة إفطاره يطلب من الأبواب.
ونُقِلَ عن سفيان الثوري: أنه كان يسافر من الحجاز إلى صنعاء اليمن، ويسأل في الطريق، وقال: كنت أذكر لهم حديثًا في الضيافة فيقدم لي الطعام، فأتناول حاجتي، وأترك ما يبقى.
(وقد ورد): «من جاع ولم يسأل فمات دخل النار»، ومن عنده علمٌ وله مع الله حال لا يبالي بمثل هذا، بل يسأل بالعلم ويُمْسِك عن السؤال بالعلم.
وحكى بعض مشايخنا عن شخص كان مصرًّا على المعاصي، ثم انتبه وتاب، وحسنت توبته، وصار له حال مع الله تعالى، قال: عَزَمْتُ أن أحج مع القافلة، ونويتُ ألَّا أسأل أحدًا شيئًا، وأكتفي بعلم الله بحالي، قال: فبقيتُ أيامًا في الطريق، ففتح الله عَلَيَّ بالماء والزاد في وقت الحاجةِ، ثم وقف الأمر ولم يفتح الله عَلَيَّ بشيء، فجعتُ وعطشتُ حتى لم يبق لي طاقةٌ، فضعفتُ عن المشي، وبقيت أتأخر عن القافلة قليلًا قليلًا حتى مرت القافلة، فقلت في نفسي: هذا الآن مني إلقاء النفس إلى التهلكة، وقد منع الله من ذلك، وهذه مسألة الاضطرار، أسأل، فلما هممتُ بالسؤال انبعث من باطني إنكار لهذه الحال، وقلتُ: عزيمة عقدتُها مع الله لا أنقضها، وهان عَلَيَّ الموت دون نقض عزيمتي، فقصدتُ شجرة وقعدتُ في ظلها، وطرحتُ رأسي استطراحًا للموت، وذهبت القافلة، فَبَيْنَا أنا كذلك إذ جاءني شابٌّ متقلد بسيفٍ وحركني، فقمت وفي يده إداوةٌ فيها ماء، فقال لي: اشرب. فشربتُ ثم قدم لي طعامًا وقال: كل. فأكلتُ، ثم قال لي: أتريد القافلة؟ فقلتُ: من لي بالقافلة وقد عَبَرَتْ؟ فقال لي: قم، وأخذ بيدي، ومشى معي خطوات، ثم قال لي: اجلس، فالقافلة إليك تجيء، فجلستُ ساعةً، فإذا أنا بالقافلة ورائي متوجهة إليَّ. هذا شأن من يعامل مولاه بالصدق.
(وذكر) الشيخ أبو طالب المكي رحمه الله أن بعض الصوفية أَوَّلَ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَحَلُّ ما أكل المؤمن من كسب يده». بأنه المسألة عند الفاقة. وأنكر الشيخ أبو طالب هذا التأويل من هذا الصوفي، وذكر أن جعفرًا الخلدي كان يحكي هذا التأويل عن شيخ من شيوخ الصوفية. ووقع لي -والله أعلم- أن الشيخ الصوفي لم يُرِدْ بكسب اليدِ ما أنكر الشيخ أبو طالب منه، وإنما أراد بكسب اليد رفعها إلى الله تعالى عند الحاجة، فهو مِنْ أحل ما يأكله إذا أجاب الله سؤاله، وساق إليه رزقه.
وقال الله تعالى حكايةً عن موسى عليه السلام: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 24]. قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: قال ذلك وإن خضرة البقل تتراءى في بطنه من الهزال. وقال محمد الباقر -رحمه الله-: قالها وإنه محتاج إلى شق تمرة. وروي عن مطرف أنه قال: أما والله، لو كان عند نبي الله شيء ما اتبع المرأة، ولكن حمله على ذلك الجهد.
وذكر الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي عن النصرآباذي أنه قال في قوله: ﴿إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 24]. لم يسأل الكليم الخلق، وإنما كان سؤاله من الحق، ولم يسأل غذاء النفس إنما أراد سكون القلب.
وقال أبو سعيد الخرَّاز: الخلق مترددون بين ما لهم وبين ما إليهم، من نظرٍ إلى ما لَهُ تكلم بلسان الفقر، ومن شاهد ما إليهِ تكلم بلسان الخيلاء والفخر، ألا ترى حال الكليم عليه السلام لمَّا شاهد خواص ما خاطبه به الحق؟ كيف قال: أرِني أنظر إليك، ولما نظر إلى نفسه كيف أظهر الفقر، وقال: إني لِمَا أنزلتَ إلي من خير فقير.
وقال ابن عطاء: نظر من العبودية إلى الربوبية فخشع وخضع وتكلَّم بلسان الافتقار بما ورَدَ على سره من الأنوار. افتقار العبد إلى مولاه في جميع أحواله لا افتقار سؤال وطلب، وقال الحسين: فقير لمَا خصصتني من علم اليقين أن ترقيني إلى عين اليقين وحقه، ووقع واللهُ أعلمُ في قوله: لما أنزلت إلي من خير فقير أن الإنزال مشعر ببعد رتبته عن حقيقة القرب، فيكون الإنزال عين الفقر فما قنع بالمنزل وأراد قرب المنزل، ومن صح فقره ففقره في أمر آخرته كفقره في أمر دنياه ورجوعُه إليهِ في الدارين وإيَّاه يسأل حوائج المنزلين وتتساوى عنده الحاجتان فما له مع غير الله شغل في الدارين.