اعلم أن الوجد يشعر بسابقة فَقْدٍ، فمن لم يفقد لم يجد، وإنما كان الفقد لمزاحمة وجود العبد بوجود صفاته وبقاياه، فلو تمحض عبدًا يتمحض حرًّا، ومن تمحض حرًّا أفلت من شرك الوَجْد، فشرك الوَجْد يصطاد البقايا، ووجود البقايا لتخلف شيء من العطايا.
(قال) الحُصَري -رحمه الله-: ما أدون حال من يحتاج إلى مزعج يزعجه، فالوجد بالسماع في حق المُحِق كالوجد بالسماع في حق المبطل من حيث النظر إلى انزعاجه وتأثير الباطن به، وظهور أثره على الظاهر وتغييره للعبد من حال إلى حال، وإنما يختلف الحال بين المحقق والمبطل أن المبطل يجد لوجود هوى النفس، والمحقق يجد لوجود إرادة القلب، ولهذا قيل: السماع لا يُحْدِث في القلب شيئًا، وإنما يُحرك ما في القلب، فمن متعلَّق باطنه بغير الله يحركه السماع فيجد بالهوى، ومن متعلَّق باطنه بمحبة الله يجد بالإرادة إرادة القلب، فالمبطل محجوب بحجاب النفس، والمحق محجوب بحجاب القلب، وحجاب النفس حجاب أرضي ظلماني، وحجاب القلب حجاب سماوي نوراني، ومن لم يفقد بدوام التحقق بالشهود ولا يتعثر بأذيال الوجود فلا يسمع ولا يجد، ومن هذه المطالعة قال بعضهم: الوجد نار دم كلي لا ينفذ في قولٍ.
ومر مِمْشاد الدينوري -رحمه الله- بقوم فيهم قوال، فلما رأوه أمسكوا، فقال: ارجعوا إلى ما كنتم فيه، فوالله لو جمعت ملاهي الدنيا في أذني ما شغل همي، ولا شُفِي بعض ما بي، فالوجد صراخ الروح المبتلى بالنفس تارة في حق المبطل، وبالقلب تارة في حق المحق، فمثار الوجد الروح الروحاني في حق المحق والمبطل، ويكون الوجد تارة من فهم المعاني يظهر، وتارة من مجرد النغمات والألحان، فما كان من قبيل المعاني تشارك النفس الروح في السماع في حق المبطل، ويشارك القلب في حق المحق، وما كان من قَبيل مجرد النغمات تتجرد الروح للسماع، ولكن في حق المبطل تسترق النفس السمع، وفي حق المحق يسترق القلب السمع، ووجه استلذاذ الروح النغمات أن العالم الروحاني مَجْمَع الحسن والجمال، ووجود التناسب في الأكوان مستحسن قولًا وفعلًا، ووجود التناسب في الهياكل والصور ميراث الروحانية، فمتى سمع الروح النغمات اللذيذة والألحان المتناسبة تأثر به؛ لوجود الجنسية، ثم يتقيد ذلك بالشرع بمصالح عالم الحكمة، ورعاية الحدود للعبد عين المصلحة عاجلًا وآجلًا.
ووجه آخر، إنما يستلذ الروح النغمات؛ لأن النغمات بها نطق النفس مع الروح بالإيماء الخفي إشارة ورمزًا بين المتعاشقين وبين النفوس والأرواح تعاشق أصلي، ينزع ذلك إلى أنوثة النفس وذكورة الروح، والميل والتعاشق بين الذكر والأنثى بالطبيعة واقع.
قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ [الأعراف: 189].
وفي قوله سبحانه ﴿مِنْهَا﴾ إشعار بتلازم وتلاصق موجب للائتلاف والتعاشق، والنغمات يستلذها الروح؛ لأنها مناغاة بين المتعاشقين، وكما أن في عالم الحكمة كُوِّنت حواء من آدم ففي عالم القدرة كونت النفس من الروح الروحاني، فهذا التألف من هذا الأصل، وذلك أن النفس روح حيواني، تجنس بالقرب من الروح الروحاني، وتجنسها بأن امتازت من أرواح جنس الحيوان بشرف القرب من الروح الروحاني فصارت نفسًا، فإذن تَكَوُّنُ النفس من الروح الروحاني في عالم القدرة كتكون حواء من آدم في عالم الحكمة، فهذا التألف والتعاشق ونسبة الأنوثة والذكورة من ها هنا ظهر، وبهذا الطريق استطابت الروح النغمات؛ لأنها مراسلات بين المتعاشقين ومكالمة بينهما، وقد قال القائل:
تكلم منا في الوجود عيوننا |
* | فنحن سكوت والهوى يتكلم |
فإذا استلذ الروح النغمة وجدت النفس المعلولة بالهوى، وتحركت بما فيها الحدوث العارض، ووجد القلب المعلول بالإرادة، وتحرك بما فيه لوجود العارض في الروح:
شربنا وأهرقنا على الأرض جرعة |
* | وللأرض من كأس الكرام نصيب |
فنفس المبطل أرض لسماء قلبه، وقلب المحق أرض لسماء روحه، فالبالغ مبلغ الرجال والمتجوهر المتجرد من أعراض الأحوال خلع نعلي النفس والقلب بالوادي المقدس، وفي مقعد صدق عند مليك مقتدر استقر وعَرَّس، وأحرق بنور العيان أجرام الألحان، ولم تُصْغ روحه إلى مناغاة عاشقه؛ لشغله بمطالعة آثار محبوبه، فالهائم المشتاق لا يسعه كشف ظلامة العشاق، ومَن هذا حاله لا يحركه السماع رأسًا، وإذا كانت الألحان لا تلحق هذا الروح مع لطافة مناجاتها، وخفي لطف مناغاتها، كيف يلحقه السماع بطريق فهم المعاني وهو أكثف؟ ومن يضعف عن حمل لطيف الإشارات كيف يتحمل ثقل أعباء العبارات؟ وأقرب من هذا عبارة تقرب إلى الأفهام: الوجد واردٌ يرد من الحق سبحانه وتعالى، ومن يريد اللهَ لا يقنع بما مِنْ عند الله، ومن صار في محل القرب متحققًا به لا يلهيه ولا يحركه ما ورد من عند الله، فالوارد من عند الله مشعر ببعد، والقريب واجد، فما يصنع بالوارد؟ والوجد نار، والقلب للواجد ربه نور، والنور ألطف من النار، والكثيف غير مسيطِر على اللطيف، فما دام الرجل البالغ مستمرًّا على جادة استقامته، غير منحرف عن وجه معهوده بنوازع وجوده، لا يدركه الوجد بالسماع، فإن دخل عليه فتور، أو عاقه قصور بدخول الابتلاء عليه من المبلي المحسن يتألف المحن من تفاريق صور الابتلاء؛ أي يدخل عليه وجود يدركه الواجد لعود العبد عند الابتلاء إلى حجاب القلب، فمن هو مع الحق إذا زَلَّ وقع على القلب، ومن هو مع القلب إذا زَلَّ وقع على النفس.
(سمعت) بعض مشايخنا يحكي عن بعضهم، أنه وجد من السماع، فقيل له: أين حالك من هذا؟ فقال: دخل علي داخل أوردني هذا المورد.
قال بعض أصحاب سهل: صحبت سهلًا سنين، ما رأيته تغير عند شيء كان يسمعه من الذكر والقرآن، فلما كان في آخر عمره قرئ عنده: ﴿فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ﴾ [الحديد: 15]، فارتعد وكاد يسقط، فسألته عن ذلك قال: نعم لحقني، ضعف وسمع مرة: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ﴾ [الفرقان: 26]، فاضطرب، فسأله ابن سالم -وكان صاحبه- قال: قد ضعفت، فقيل له: إن كان هذا من الضعف فما القوة؟ قال: القوة أن الكامل لا يرد عليه وارد لا يبتلعه بقوة حاله، فلا يغيره الوارد.
ومن هذا القبيل قول أبي بكر رضى الله عنه: هكذا كنا حتى قست القلوب، لما رأى الباكي يبكي عند قراءة القرآن، وقوله: «قست»؛ أي تصلبت وأدمنت سماع القرآن، وألفت أنواره فما استغربته حتى تغير، والواجد كالمستغرب، ولهذا قال بعضهم: حالي قبل الصلاة كحالي في الصلاة، إشارة منه إلى استمرار حال الشهود، فهكذا في السماع كقَبْل السماع.
(وقد قال) الجُنَيْد: لا يضر نقصان الوجد مع فضل العلم، وفضل العلم أتم من فضل الوجد.
(وبلغنا) عن الشيخ حماد -رحمه الله- أنه كان يقول: البكاء من بقية الوجود، وكل هذا يقرب البعض من البعض في المعنى لمن عرف الإشارة فيه وفهم، وهو عزيز الفهم عزيز الوجود.
(واعلم) أن للباكين عند السماع مواجيد مختلفة، فمنهم من يبكي خوفًا ومنهم من يبكي شوقا ومنهم من يبكي فرحا، كما قال القائل:
طفح السرور علي حتى أنني |
* | من عظم ما قد سرني أبكاني |
قال الشيخ أبو بكر الكتاني رحمه الله: سماع العوام على متابعة الطبع، وسماع المريدين رغبة ورهبة، وسماع الأولياء رؤية الآلاء والنعماء، وسماع العارفين على المشاهدة، وسماع أهل الحقيقة على الكشف والعيان، ولكل واحد من هؤلاء مصدر ومقام.
(وقال أيضًا): الموارد ترد فتصادف شكلًا أو موافقًا، فأي وارد صادف شكلًا مازجه، وأي وارد صادف موافقًا ساكنه. وهذه كلها مواجيد أهل السماع، وما ذكرناه حال من ارتفع عن السماع، وهذا الاختلاف منزل على اختلاف أقسام البكاء التي ذكرناها من الخوف والشوق والفرح، وأعلاها بكاء الفرح بمثابة قادم يقدم على أهله بعد طول غربته، فعند رؤية الأهل يبكي من قوة الفرح وكثرته، وفي البكاء رتبة أخرى أعز من هذه يعز ذكرها، ويكبر نشرها لقصور الأفهام عن إدراكها، فربما يُقابَل ذكرها بالإنكار ويخفى بالاستكبار، ولكن يعرفها من وجدها قدمًا ووصولًا، أو فهمها نظرًا كثيرًا ومثولًا وهو بكاء الوجدان غير بكاء الفرح، وحدوث ذلك في بعض مواطن حق اليقين، ومن حق اليقين في الدنيا إلمامات يسيرة، فيوجد البكاء في بعض مواطنه لوجود تغاير وتباين بين المحدث والقديم، فيكون البكاء رشحًا هو من وصف الحدثان لوهج سطوة عظمة الرحمن، ويقرب من ذلك مثلا في الشاهد قطر الغمام يتلاقى مختلف الأجرام، وهذا -وإن عَزَّ- مشعر ببقية تقدح في صرف الفناء، نعم قد يتحقق العبد في الفناء متجردًا عن الآثار منغمسًا في الأنوار.
ثم يرتقي منه إلى مقام البقاء ويرد إليه الوجود مطهرًا، فتعود إليه أقسام البكاء خوفًا وشوقًا وفرحًا ووجدانًا، بمشاكلة صورها ومباينة حقائقها بفرق لطيف يدركه أربابه، وعند ذلك يعود عليه من السماع -أيضًا- قسم، وذلك القسم مقدور له، مقهور معه، يأخذه إذا أراد، ويرده إذا أراد، ويكون هذا السماع من المتمكن بنفس اطمأنت واستنارت وباينت طبيعتها، واكتسبت طمأنينتها، وأكسبها الروح معنى منه فيكون سماعه نوع تمتع للنفس، كتمتعها بمباحات اللذات والشهوات لا أن يأخذ السماع منه أو يزيد به أو يظهر عليه منه أثر فتكون النفس في ذلك بمثابة الطفل في حجر الوالد، يفرحه في بعض الأوقات ببعض مآربه؛ ومن هذا القبيل ما نقل أن أبا محمد الراشي كان يشغل أصحابه بالسماع، وينعزل عنهم ناحية يصلي، فقد تطرق هذه النغمات مثل هذا المصلي فتتدلى إليها النفس متنعمة بذلك، فيزداد مورد الروح من الإنس صفاءً عند ذلك لبعد النفس عن الروح في تمتعها؛ فإنها مع طمأنينتها بوصف من الأجنبية بوضعها وجبلتها، وفي بُعدها توفر قسام الروح من الفتوح، ويكون طروق الألحان سمعه في الصلاة غير محيل بينه وبين حقيقة المناجاة وفهم تنزيل الكلمات، وتصلُ الأقسام إلى محالها غير مزاحمة ولا مزاحمة؛ وذلك كله لسعة شرح الصدر بالإيمانِ والله المحسن المنَّان.
ولهذا قيل: السماع لقوم كالدواء، ولقوم كالغذاء، ولقوم كالمروحة، ومن عود أقسام البكاء ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبيٍّ: «اقْرَأْ». فقال: أقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ. فقال: «أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي»، فافتتح سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 41]. فإذا عيناه تهملان.
(وروي) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اسْتَقْبَلَ الْحَجَرَ واستلمه، ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ طَوِيلًا يَبْكِي وقال: «يَا عُمَرُ هَا هُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ».
والمتمكن تعود إليه أقسام البكاء، وفي ذلك فضيلة سألها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم ارزقني عينين هطالتين».
ويكون البكاء في الله فيكون لله ويكون بالله وهو الأتم؛ لعوده إليه بوجود مستأنف موهوب له من الكريم المنان في مقام البقاء.