ويتضمن هذا الباب آدابَ السماع، وحكم التخريق، وإشارات المشايخ في ذلك وما في ذلك من المأثور والمحظور.
مبنى التصوف على الصدق في سائر الأحوال، وهو حد كله لا ينبغي لصادق أن يتعمد الحضور في مجمع يكون فيه سماع إلا بعد أن يُخلص النية لله تعالى، ويتوقع به مزيدًا في إرادتِه وطلبه، ويحذر من ميل النفس لشيء من هواها، ثم يقدم الاستخارة للحضور، ويسأل الله تعالى إذا عزم البركة فيه، وإذا حضر يلزم الصدق والوقار بسكون الأطراف.
قال أبو بكر الكتاني -رحمه الله-: المستمع يجب أن يكون في سماعه غير مستروح إليه، يهيج منه السماع وجدًا أو شوقًا أو غلبة أو واردًا، والوارد عليه يفنيه عن كل حركةٍ وسكون، فيتقي الصادق استدعاء الوجد، ويجتنب الحركة فيه مهما أمكن سيما بحضرة الشيوخ.
(حكي) أن شابًّا كان يصحب الجنيد -رحمه الله- وكلما سمع شيئًا زعق وتغير، فقال له يومًا: إن ظهر منك شيء بعد هذا فلا تصحبني، فكان بعد ذلك يضبط نفسَه، وربما كان من كل شعرة منه تقطر قطرة عرق، فلما كان يومًا من الأيام زعق زعقةً فخرج روحه، فليس من الصدق إظهار الوجد من غير وجد نازل، أو إدعاء الحال من غير حال حاصل، وذلك عين النفاق.
(قيل) كان النصرآباذي -رحمه الله- كثير الولع بالسماع فعوتب في ذلك فقال: نعم هو خير من أن نقعد ونغتاب، فقال له: أبو عمرو بن بجيد وغيره من إخوانه، هيهات يا أبا القاسم! زلة في السماع شر من كذا كذا سنة، نغتاب الناس، وذلك أن زلة السماع إشارة إلى الله تعالى وترويح للحال بصريح المحال، وفي ذلك ذنوب متعددة؛ منها: أنه يكذب على الله تعالى أنه وهب له شيئا وما وهب له والكذب على الله من أقبح الزلات، ومنها: أن يغر بعض الحاضرين فيحسن به الظن، والغرور خيانة قال عليه السلام: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا».
ومنها أنه إذا كان مبطلًا ويرى بعين الصلاح فسوف يظهر منه بعد ذلك ما يفسد عقيدةَ المعتقد فيه، فيفسد عقيدته في غيره ممن يظن به الخير من أمثاله، فيكون سببًا إلى فساد العقيدة في أهل الصلاح، ويدخل بذلك ضررٌ على الرجل الحسن الظن مع فساد عقيدته، فينقطع عنه مدد الصالحين، ويتشعب من هذا آفات كثيرة يعثرُ عليها من يبحث عنها، ومنها أنه يحوجُ الحاضرين إلى موافقته في قيامِه وقعوده فيكون متكلفًا مكلفًا للناس بباطله، ويكون في الجمع من يرى بنور الفراسةِ أنه مبطل، ويحمل على نفسه الموافقة للجمع مداريًا، ويكثر شرح الذنوب في ذلك، فليتق الله ربه، ولا يتحرك إلا إذا صارت حركته حركة المرتعش الذي لا يجد سبيلا إلى الإمساك، وكالعاطس الذي لا يقدر أن يرد العطسة، وتكون حركته بمثابة النفس الذي يدعوه إليه داعية الطبع قهرًا.
(قال السري): شرط الواجد في زعقته أن يبلغ إلى حد لو ضرب وجهه بالسيف لا يشعر فيه بوجع، وقد يقع هذا لبعض الواجدين نادرًا، وقد لا يبلغ الواجدُ هذه الرتبة من الغيبة، ولكن زعقته تخرج كالتنفس بنوع إرادةٍ ممزوجة بالاضطرار، فهذا الضبط من رعاية الحركات ورد الزعقات، وهو في تمزيق الثياب آكد، فإن ذلك يكون إتلاف المال وإنفاق المحال، وهكذا رمي الخرقة إلى الحادي لا ينبغي أن يفعل إلا إذا حضرته نية يجتنب فيها التكلف والمراءاة وإذا حسنت النية فلا بأس بإلقاء الخرقة إلى الحادي، فقد روي عن كعب بن زهير أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وأنشده أبياته التي أولها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * فَإِنِّي وَحَقِّ اللهِ إِيَّاكَ نَاصِحُ |
حتى انتهى إلى قوله فيها:
إن الرسول لسيف يستضاء به |
* | مهند من سيوف الله مسلول |
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أنت؟». فقال: أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، أنا كعب بن زهير، فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه بردة كانت عليه، فلما كان زمن معاوية بعث إلى كعب بن زهير: بعنا بردة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرة آلاف، فوجَّه إليه: ما كنت لأوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا. فلما مات كعب بعث معاوية إلى أولاده بعشرين ألفًا وأخذ البردة وهي البردة الباقية عند الإمام الناصر لدين الله اليوم، عادت بركتها على أيامه الزاهرة.
وللمتصوفة آداب يتعاهدونها، ورعايتها حسن الأدب في الصحبة والمعاشرة، وكثير من السلف لم يكونوا يعتمدون ذلك، ولكن كل شيء استحسنوه وتواطئوا عليه ولا ينكره الشرع لا وجه للإنكار فيه، فمن ذلك أنَّ أحدهم إذا تحرك في السماع، فوقعت منه خرقة أو نازله وجد ورمى عِمامته إلى الحادي فالمستحسن عندهم موافقة الحاضرين له في كشف الرأس إذا كان ذلك من متقدم وشيخ، وإن كان ذلك من الشبان في حضرة الشيوخ فليس على الشيوخ موافقة الشبان في ذلك، وينسحب حكم الشيوخ على بقية الحاضرين في ترك الموافقة للشبان، فإذا سكتوا عن السماع يرد الواجد إلى خرقته ويوافقه الحاضرون برفع العمائم، ثم ردها على الرءوس في الحال للموافقة.
والخرقة إذا رميت إلى الحادي هي للحادي إذا قصد إعطاءه إياها، وإن لم يقصد إعطاءها لحادي فقيل: هي للحادي لأن المحرك هو ومنه صدر الموجب لرمي الخرقة.
وقال بعضهم: هي للجمع والحادي واحد منهم؛ لأن المحرك قول الحادي مع بركة الجمع في إحداث الوجد، وإحداث الوجد لا يتقاصر عن قول القائل، فيكون الحادي واحدًا منهم في ذلك.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: «من وقف بمكان كذا فله كذا، ومن قتل فله كذا، ومن أسر فله كذا». فتسارع الشبان، وأقام الشيوخ والوجوه عند الرايات، فلما فتح الله على المسلمين طلب الشبان أن يُجعل ذلك لهم، فقال الشيوخ: كنا ظهرًا لكم وردءًا فلا تذهبوا بالغنائم دوننا، فأنزل الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ﴾ [الأنفال: 1]، فقسم النبي صلى الله عليه وسلم بينهم بالسوية.
وقيل: إذا كان القوَّال من القوم يجعل كواحد منهم، وإذا لم يكن من القوم فما كان له قيمة يؤثر به، وما كان من خرق الفقراء يقسم بينهم.
وقيل: إذا كان القوال أجيرا فليس له منها شيء، وإن كان متبرعًا يؤثر بذلك، وكل هذا إذا لم يكن هناك شيخ يحكم، فأما إذا كان هناك شيخ يهاب ويمتثل أمره، فالشيخ يحكم في ذلك بما يرى، فقد تختلف الأحوال في ذلك وللشيخ اجتهاد فيفعل ما يرى فلا اعتراض لأحد عليه، وإن فداها بعض المحبين أو بعض الحاضرين فرضي القوال والقوم بما رضوا به، وعاد كل واحد منهم إلى خرقته فلا بأس بذلك، وإذا أصر واحد على الإيثار بما خرج منه لنية له في ذلك يؤثر بخرقته الحادي.
وأما تمزيق الخرقة المجروحة التي مزقها واجد صادقٌ عن غلبة سلبت اختياره كغلبة النفس فمن يعتمد إمساكه؛ فنيتهم في تفرقتها وتمزيقها التبرك بالخرقة؛ لأن الوجدَ أثر من آثار فضل الحق، وتمزيق الخرقة أثر من آثار الوجد، فصارت الخرقة متأثرة بأثر رباني من حقها أن تُفدى بالنفوس، وتترك على الرءوس إكرامًا وإعزازًا
تضوع أرواح نجد من ثيابهم |
* | يوم القدوم لقرب العهد بالدار |
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبل الغيثَ ويتبرك به، ويقول: «حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ». فالخرقة الممزقة حديثة العهد، فحكم المجروحة أن تفرق على الحاضرين، وحكم ما يتبعها من الخرق الصحاح أن يحكم فيها الشيخ، إن خصص بشيء منها بعض الفقراء فله ذلك، وإن خرقه خرقًا فله ذلك، ولا يقال: هذا تفريط وسرف؛ فإن الخرقة الصغيرة ينتفع بها في موضعها عند الحاجات كالكبيرة.
(وروي) عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضى الله عنه أنه قال: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة حرير، فأرسل بها إليَّ، فخرجت فيها، فقال لي: «ما كنت لأكره لنفسي شيء أرضاه لك، فشققها بين النساء خمرًا». وفي رواية: أتيته فقلت: ما أصنع بها، ألبسها؟ قال: «لا ولكن اجعلها خمرًا بين الفواطم»، أراد فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفاطمة بنت حمزة، وفي هذه الرواية أن الهدية كانت حلة مكفوفةً بحرير، وهذا وجه في السنة لتمزيق الثوب وجعله خِرَقًا.
(حكي) أن الفقهاء والصوفية بنيسابور اجتمعوا في دعوة، فوقعت الخرقة، وكان شيخ الفقهاء الشيخ أبا محمد الجويني، وشيخ الصوفية الشيخ أبا القاسم القشيري، فقسمت الخرقة على عادتهم فالتفت الشيخ أبو محمد إلى بعض الفقهاء، وقال سرًّا: هذا سرف وإضاعة للمال، فسمع أبو القاسم القشيري ولم يقل شيئًا حتى فرغت القسمة، ثم استدعى الخادم وقال: انظر في الجمع من معه سجادة خرق ائتني بها فجاءه بسجادة، ثم أحضر رجلًا من أهل الخبرة، فقال: هذه السجادة بكم تشترى في المزاد؟ قال: بدينار، قال: ولو كانت قطعة واحدة كم تساوي؟ قال: نصف دينار. ثم التفت إلى الشيخ أبي محمد وقال: هذا لا يسمى إضاعة المال، والخرقة الممزقة تقسم على جميع الحاضرين من كان من الجنس أو من غير الجنس إذا كان حسن الظن بالقوم معتقدًا للتبرك بالخِرقة.
(روى) طارق بن شهاب أن أهل البصرة غزوا نهاوند، وأمدهم أهل الكوفة، وعلى أهل الكوفة عمار بن ياسر، فظهروا، وأراد أهل البصرة ألَّا يقسموا لأهلِ الكوفة من الغنيمة شيئًا، فقال رجل من بني تميم لعمار: أيها الأجدع، تريد أن تشاركنا في غنائمنا، فكتب إلى عمر بذلك، فكتب عمر رضى الله عنه: أن الغنيمة لمن شهد الوقعة، وذهب بعضهم إلى أن المجروح من الخرق يقسم على الجمع وما كان من ذلك صحيحًا يعطى للقوَّال. واستدل بما روي عن أبي قتادة قال: لما وضعت الحرب أوزارها يوم حنين وفرغنا من القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ». وهذا له وجه في الخرقة الصحيحة، فأما المجروحة فحكمها أسهام الحاضرين، والقسمة لهم، ولو دخل على الجمع وقت القسمة من لم يكن حاضرًا قسم له.
(روى) أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: لما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خيبر بثلاث، فأسهم لنا ولم يسهم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا، ويكره للقوم حضور غير الجنس عندهم في السماع كمتزهد لا ذوق له من ذلك فينكر ما لا ينكر، أو صاحب دنيا يحوج إلى المداراة والتكلف، أو متكلف للوجد يشوش الوقت على الحاضرين بتواجده.
(أخبرنا) أبو زُرعة طاهر عن والده أبي الفضل الحافظ المقدسي قال: أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك المظفري بسرجس قال: أخبرنا أبو علي الفضل بن منصور بن نصر الكاغدي السمرقندي -إجازة- قال: حدثنا الهيثم بن كليب قال: أخبرنا أبو بكر عمار بن إسحاق قال: حدثنا سعيد بن عامر عن شعبة عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ نزل عليه جبريل عليه السلام فقال: يا رسول الله إن فقراء أمتك يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمئة عام ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «هل فيكم من ينشدنا؟». فقال بدوي: نعم يا رسول الله، فقال: «هات». فأنشأ الأعرابي:
قد لسعت حية الهوى كبدي |
* | فلا طبيب لها ولا راقي |
إلا الحبيب الذي شغفت به |
* | فعنده رقيتي وترياقي |
فتواجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتواجد الأصحاب معه حتى سقط رداؤه عن منكبه، فلما فرغوا أوى كل واحد منهم إلى مكانه، قال معاوية بن أبي سفيان: ما أحسن لعبكم يا رسول الله! فقال: «مه يا معاوية، ليس بكريم من لم يهتز عند سماع ذكر الحبيب»، ثم قسم ردائه رسول الله صلى الله عليه وسلم على من حاضرهم بأربعمئة قطعة، فهذا الحديث أوردناه مسندًا كما سمعناه ووجدناه، وقد تكلم في صحته أصحاب الحديث، وما وَجْدُنَا شيءٌ نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاكل وجدَ أهل الزمان وسماعهم واجتماعهم هيئتهم إلا هذا، وما أحسنه من حجة للصوفية وأهل الزمان في سماعهم تمزيقهم الخرق وقسمتها أن لو صح! والله أعلم، ويخالج سري أنه غير صحيح، ولم أجد فيه ذوق اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، وما كانوا يعتمدونه على ما بلغنا في هذا الحديث، ويأبى القلب قبولَه، والله أعلم بذلك.