من الاتهامات الموجهة إلى التصوف:
(أ) أنه لا سند له من الكتاب والسنة.
(ب) أنه دخيل على الإسلام.
(جـ) أنه يدعو إلى عقائد تتعارض مع عقيدة التوحيد، كالحلول، والاتحاد والوحدة.
(د) أنه يدعو إلى تقديس المشايخ، والاستعانة بهم في الشدائد، واعتقاد أنهم يملكون النفع والضر.
(هـ) أنه يدعو إلى التواكل والسلبية.
الجواب:
(أ) أما أن التصوف لا سند له من الكتاب والسنة: فقول ساقط بعد كل ما قدمنا، فإذا لم يكن التعبد ومكارم الأخلاق ومحاسبة النفس، والأخذ بالأحْوَط، ومجاهدة الهوى والشيطان، إذا لم يكن كل ذلك له سند من الكتاب والسنة، فقد جهل الناسُ الكتاب والسنة، وفيما قدمنا أدلة مكررة على أن تصوف المسلمين هو عصارة الإسلام وإكسيره، لا يمتري في ذلك إلا ذو هَوًى، أو مَن هوَى !؟.
(ب) وبهذا، وبالذي قدَّمنا، يتأكد أن التصوف نابع من العقيدة، والبيئة الإسلامية جملة وتفصيلًا، وليس هو بدخيل على دين الله، إنما الدخيل، هو هذه الدعوى العصبية المتشنجة، التي تفوح بالغرض، والمرض، وحسبك أنها بضاعة استشراقية، استعمارية صهيونية، لا هم لها إلا انتقاض الإسلام.
(جـ) أما أن التصوف يدعو إلى عقائد الحلول والاتحاد والوحدة، فليس هذا هو تصوف المسلمين، وإنما هو تصوف أجنبي، أعجمي، مدسوس والمتهمون به نفر معدود محدود، انتهى أمرهم، وليس لهم اليوم تابع ولا وارث، كما قدمنا، وأصبح ما نسب إليهم بحق أو بباطل، سواء قبل التأويل، أو لم يقبله، نوعًا من الحفريات التاريخية، التي لا يتابعها إلا الهواة والمتخصصون، إن وجد اليوم هواة ومتخصصون في البحث عن مقابر الأفكار المهملة، وإلا أصحاب الهوى الذي يُعْمِي ويصم، ولا اعتبار لأولئك ولا هؤلاء.
وقد أصبح الكلام اليوم في هذا الجانب نوعًا من مجرد الإثارة والتشويه، والعبث وإضاعة الأوقات، والتشويش على أفاضل الناس، وشراء العاجلة بالآجلة.
وإنما يقول الصوفية بنوع معين من الفناء، فصَّله الشيخ ابن تيمية في (رسائله) بشيء من الإنصاف، وأشار إليه الشيخ ابن القيم في شرحه على كتاب الهروي([1]) وشتان ما بين هذا والقول الفاجر بالحلول، والاتحاد، والوحدة المنكرة.
(د) أما أن التصوف يدعو إلى تقديس المشايخ، والاستعانة بهم في الشدائد، واعتقاد أنهم يملكون النفع والضرر: فهذا كلام فيه تجاوز ومغالطة؛ فإن التصوف يدعو إلى احترام الشيخ كوالد روحي، وهو أدب إسلامي مقرَّر، لا خلاف عليه. وفي الحديث الصحيح: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، ولم يعرف لعالمنا حقه»([2])، ولا تنس تأديب الله للصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو أصل أدب التابع مع المتبوع([3]).
أما الاستعانة بدعاء الشيخ، وابتهاله إلى الله في شدائد أبنائه، فهو أدب إسلامي ثابت، يعرفه كل من قرأ (باب الدعاء) في كتب المسلمين.
أما أنهم يزعمون أنهم يملكون النفع والضرر، فالذي يملك هو الله وحده، وعندما يغضب الشيخ لربه من مخالف لله فيدعو، فيغضب الله لغضب وليه، ويستجيب له، فلا يقال عندئذ إن الشيخ يملك نفعًا ولا ضرًا، إنما هو من باب: «لئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه»([4]) من حديث البخاري.
والقول بغير هذا إنما هو مسخٌ للصورة بالمغالاة والإغراق والتنفير.
وإذا كان هناك شيء من ذلك فرضًا جدليًا فهو مما يعالج بالبيان والإرشاد والقول الطيب، ونحن في أمة تحكمها الأمية، فلا ننكر أن فيها ضلالة وجهالة، وإنما في حاجة – أشد الحاجة – إلى النصح والتوجيه بالحكمة البالغة، والموعظة البليغة.
(هـ) بقي القول بأن التصوف يدعو إلى السلبية والتواكل.
التصوف الحق هو: الإسلام، وليس في الإسلام سلبية، ولا تواكل، وإنما هي أمراض اجتماعية لصقت بالتصوُّف زورًا وبهتانًا، وقد كان عبد الله بن المبارك، يحج عامًا ويجاهد عامًا، وقد كان شقيق البلخي فارسًا مغوارًا، يطلب الموت حتى استشهد في سبيل الله، وكذلك كان حاتم الأصم، مقاتلًا بارعًا، له في الجهاد مواقف وكرامات.
وقدَّمْتُ أنَّ أبا الحسن الشاذلي كان صاحب مزارع وتجارات، وأن شمس الدين الدمياطي بنى برج دمياط من ماله الخاص، ومن ربحه من تجارته.
وإذا تتبعتَ آداب المريدين بكتب الصوفية، لوجدتهم جميعًا يدفعون تلاميذهم إلى العمل والإنتاج، ويعرفون تمامًا كل ما ورد في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عن أشياخهم في الله الذين يؤكدون لهم أنه لا يمكن تحقيق خلافة الله على الأرض بالسلبية والتواكل والاستسلام، فإذا تغالى أو تطرَّف واحدٌ، فليس هو كل واحد.
ولقد ثبت في الحديث أن بعض الصحابة تغالى بأكثر مما يفعل الرهبان، والنبي صلى الله عليه وسلم حيّ، فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم ([5]) فإذا انفرد واحد بمغالاته، فليس هذا بقانون ولا قاعدة في الجميع، ولا بعار يؤخذ به سواه.
نزل أحد المريدين على زاوية الشيخ ضيفًا، فأقراه ثلاثة أيام.
ثم قال له: يا ولدي قد انتهت مدة الضيافة.
فقال المريد: إنما جئتُ لأتصوَّف.
قال الشيخ : «ليس التصوف عندنا أن تَصُفَّ قدميك وغيرك يمون لك، ولكن أبدأ برغيفيك فأحرزهما، ثم تصوَّف، ثم اجعل منشارك مسبحتك، واذكر على دقات الفأس والمكوك».
وقد كانت الألقاب الصوفية تدل على ما يتناولونه من حرف ومهن وصناعات:
فمنهم الدقّاق، والسمّاك، والورّاق، والخوّاص، وهكذا تعرف أنهم كانوا بحق أمثالًا للمسلم الكامل إيمانًا، وعملًا وإيجابية، وصلة كبرى بالله.
فالتواكل مرض دخيل على التصوف الصحيح، يعالجه صوفية العلماء، كلٌّ بأسلوبه.
***
([1]) كتاب منازل السائرين لشيخ الإسلام: عبد الله بن محمد بن إسماعيل الأنصاري الهروي الحنبلي الصوفي المتوفى سنة 481هـ، شرحه أبو بكر بن قيم الجوزية الدمشقي الحنبلي المتوفي سنة 751هـ، وسماه «مدراج السالكين».
([2]) رواه الترمذي عن ابن عمر، وأبو يعلى عن أنس، والعسكري عن عبادة بن الصامت، والقضاعي عن ابن عباس.
راجع كشف الخفا ومزيل الإلباس عن كثير من الأحاديث المشتهرة على ألسنة الناس جـ2 ص173. لتستفيد. و«المقاصد الحسنة» ص356.
([4]) ومن نصوصه، ما رواه الطبراني في معجمه الكبير عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فأكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، وقلبه الذي يعقل به، فإذا دعاني أجبتُه، وإذا سألني أعطيته، وإن استنصرني نصرتُه، وأحب ما تعبدني عبدي به: النصح لي».
([5]) وحديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل متفق عليه، ورواه الإمام أحمد، وأبو داود عن سعد، وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن سَمُرَةَ.
وروى الدارمي عن سعد بن أبي وقاص ا أنه قال: «لما كان من أمر عثمان بن مظعون الذي كان من ترك النساء بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: «يا عثمان إني لم أومر بالرهبانية».
وروى البغوي في معجم الصحابة، والطبراني في معجم الصحابة كذلك أن عثمان بن مظغون قال: يا رسول الله: إني رجل تشق علي هذه العزوبة في المغازي فتأذن لي يا رسول الله في الخصاء فأختصي؟
قال: «لا، ولكن عليك يا ابن مظعون بالصيام فإنه مجفرة».