بم تعلل فضيلتكم كون شيوخ التصوف من الفرس، وأحفاد المجوس، في العصر الإسلامي؟ وكيف تعلل ازدهار التصوف في القرن السابع، وما بعده بين العرب والمنتسبين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
الجواب:
ليتك يا ولدي لم توجه إليّ هذا السؤال العنصري الذي لا يرضاه الله ولا رسوله، أولم تقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13] وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10] وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا فضل لأبيض على أحمر، ولا لعربي على عجمي إلا بالتقوى»([1]) وقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وفخرها بالآباء مؤمن تَقِىٌّ وَفَاجِرٌ شَقِىٌّ أنتم لآدم وآدم مِنْ تُرَابٍ»([2]) وقوله صلى الله عليه وسلم ، وقد تمعر وجهه غضبًا: «ليدعن أقوام فخرهم بأقوام إنما هم حطب من حطب جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن»([3]).
ألم يأتك أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحق به سيدنا سلمان الفارسي، فقال: «سلمان مِنَا أهل البيت»، ألم يرسل الله رسوله للناس كافة بشيرًا ونذيرًا ؟!
إنها حَمِيَّةُ الجاهلية، يرددها ببغاوات البشر، بلا تدبر، ولا بينة.
وهل جاء الإسلام للعرب وحدهم، فاغتصبه منهم غيرهم، فأصبحوا منبوذين؟!
لم هذه الشعوبية، والعنصرية الكريهة، التي ينكرها الإسلام، وتنكرها الإنسانية الشريفة ؟!
أليس الإمام البخاري، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والطبراني، والبيهقي، والأكثرية الغالبة من رجال الحديث، كلهم من غير العرب، وكذلك طائفة من أكبر المفسرين، كالزمخشري، والنيسابوري، وطائفة من أكبر علماء البلاغة، كالجرجاني، والتفتازاني!؟
من هو طارق بن زياد، وموسى بن نصير، هذان المَولَيَان القائدان الفاتحان، اللذان أسسا للإسلام مجدًا تاريخيًا، لا يمحوه الزمان؟
من هو أبو حنيفة النعمان؟ أليس كان من الموالي، ولولاه ما كان لبني تيم الله ذكر ولا فخر([4]).
يا ولدي: إمامُ مصر الليثُ بن سعد، أصله من (أصبهان)، إمام أهل السنة، أحمد بن حنبل، أصله من (مَرْو) والإمام المفسر الطبري، أصله من (طبرستان)، والشعبيّ علامة التابعين وإمامهم، كانت أمه من (جلولاء)، والحسن البصري، الكوكب الفرد، كان أبوه من (مَيسانَ).
وهذه علاّمة اللغة سيبويه، فارسي الأصل، والإمام الكسائي، فخر اللغة العربية، أصله من فارس، وتلميذه الإمام الفَرّاء من الديلم، ثم إن ابن مسكويه وابن سينا، والفارابي، كانوا فُرسًا أعجمين.
اسمع يا ولدي: فقيه مكة، عطاء بن رباح، وفقيه اليمن: طاووس بن كيسان، وفقيه اليمامة: يحيى بن أبي كثير، وفقيه الشام: مكحول، وفقيه الجزيرة: ميمون بن مهران، وفقيه خراسان: الضحاك بن مزاحم، وفقيها البصرة والكوفة: إبراهيم النخعي وابن سيرين، كل أولئك ليسوا من العرب أصلًا، ولكنهم برزوا في جوانب العلم والفكر والمعرفة والدين؛ كانوا الأئمة بكل ما في اللفظ من معنى يتجدد ولا يفنى.
إنما يتفاضل الناس بالأحلام([5]) لا بالأرحام، والناس عند الله سواسية كأسنان المشط، والله يقول:﴿وَلَا تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ [البقرة:237] ولقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد (مولاه) على جيش كان فيه أبو بكر وعمر. وعندما أراد عمر أن يستخلف قال: « لو كان سالمُ مولى حذيفة حيًا لولَّيتُه!!». تأمل هذا الموقف الخطير.
يا ولدى، ها هم أهل العلم: لا يكادون يذكرون ابنَ عمر إلا ذكروا معه مولاه نافعًا، ولا يكاد يذكر أنس بن مالك، إلا ومعه مولاه ابن سيرين. ولا يكاد يذكر ابن عباس، إلا ومعه مولاه عكرمة. ولا يكاد يذكر أبو هريرة إلا ومعه مولاه ابن هرمز.. وما أكثر هذه الأمثلة في الإسلام.
لقد أطلتُ عليك – عامدًا في هذا المجال – يا ولدي؛ فإن هذه الشعوبية هي التي كانت مسمار النعش في وحدة الإسلام، والتي انتهت بما يسمى زورًا بـ «النهضة العربية» وهي التي قصمت ظهر الخلافة، وشتت العرب أوزاعًا وشيعًا ودويلات هزيلة متناحرة باسم العروبة، والقومية، التي تُستخدم الآن بلا وعى ولا تدبر.
ولنرجع إلى سؤالك في تعليل كون بعض الشيوخ الصوفية الأوائل من الفرس؛ فهؤلاء الناس اجتهدوا في هذا الجانب، كما اجتهد غيرهم ممن ذكرنا أسماءهم، فاستحقوا التقديم والإمامة كمسلمين، فإذا قيل:
إنهم فعلوا ذلك ليحطموا الإسلام من الداخل، فهذه قضية، إذا فرضنا نهوض دليلها في واحد، فلن ينهض هذا الدليل في كل واحد. وفي كل طائفة طيب وخبيث، والحلال بين والحرام بين، ولو طبقنا قاعدة سوء الظن بالفرس، أو بغير العرب عمومًا، لأذهبنا ثلثي علوم الإسلام، ولكان أول ما ننبذه كتاب البخاري، ومن والاه، فهل هذا منطق يقول به إنسان سوي أو قاض منصف؟ ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ=٤- يَوْمٍ عَظِيم﴾ [المطففين: 4-5] أولا يذكرون قوله تعالى:﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ﴾[ص: 62].
إن من أحفاد المجوس: من خدم الإسلام أصدق الخدمات في الثقافات والعلوم، والفتوحات والفنون... وراجع إن شئت من حضرنا ذكرهم وأسلفناه، ومن ورائهم صف شريف طويل معروف، لم نشر إليه، وهؤلاء شــأنهم – بالضبط شـأن كبار الصحابة (وقد كانوا – أى الصحابة – من المشركين).
أما تعليل ازدهار التصوف في القرن السابع، وما بعده بين العرب، والمنسوبين بحق أو بباطل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا السؤال يحتاج إلى تكملة: هي أن هذا الازدهار في هذا القرن وما قبله، كان بين العرب وغيرهم، وكان هذا نتيجة لطبيعة الأشياء؛ فإن تطور الدعوة الصوفية وامتدادها، كان قد أهل الكثيرين للزعامة والاجتهاد في هذا الوقت، كثمرة للتفاعل، والتطور فيما سبق هذا الزمان.
فمثلًا: نجد من صوفية القرن السابع أمثال أبي الحسن الشاذلي، وأحمد البدوي. وابن دقيق العيد، ومجد الدين القشيري، وزكي الدين المنذري – ونجد من قبلهم في القرن السادس أمثال أحمد الرفاعي، وأبي مدين. ونجد في القرن الخامس، أمثال الغزالي، وعبد القادر الجيلاني. وفي الثالث والرابع أمثال: الجنيد، والشبلي، ومن قبلهم ذو النون المصري، وأبو يزيد. ومن قبلهم الحسن البصري، وسفيان الثوري، ومالك بن دينار، وإبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، وشقيق البلخي، وحاتم الأصم – بكل ما في تواريخهم من صدق وكذب، وأصيل ودخيل.
أضف إلى ذلك موضوع التطور والامتداد، وقابلية البيئة، بما كان من الحروب الصليبية والتترية والمغولية، واضطراب عاصمة الخلافة ببغداد، ومثل هذه الظروف بطبعها تدفع الناس إلى الله تلقائيًا، وقد جربنا نحن أخيرًا في العاشر من رمضان، فمن أجل هذا وما هو منه، أو يتعلق به، كان هذا الازدهار الذي تشير إليه.
***
([1]) وفي رواية ذكرها ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:13] «يا أيها الناس، وإن الله تعالى قد أذهب عنكم غُبيّةَ الجاهلية وتعظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله، ورجل فاجر شقي هين على الله». إلى آخر الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم.