ثابت أن المسلمين لم يعرفوا التصوف، إلا بعد ثلاثة قرون من انتشار الإسلام.
(أ) فهل يحتاج الإسلام إلى التصوف؟
(ب) هل التصوف يضيف جديدًا إلى الإسلام؟
(جـ) وما هو الفرق بين الزهد الإسلامي والتصوف؟
الجواب:
من الذي قال بأن المسلمين لم يعرفوا التصوف إلا بعد القرون الثلاثة الأولى؟
هذه مجازفة: ليست بعلمية، ولا تاريخية، وليس لها سند، فإذا كان المراد بأنهم لم يعرفوا لفظ التصوف إلا بعد القرون الثلاثة، فليس هذا بصحيح أيضًا([1]) فقد أثبت مؤرخو اللغة وغيرهم أن هذا اللفظ كان عندما اشتهروا بالخشونة والرجولة، ولبس الصوف، والاستعداد للجهاد، فإن تصوف المسلمين: دعوة إلى القوة، والحرية، والمساواة، والتكافل، والإخاء، والتوحيد، ومعالي الأمور، لبناء شخصية المسلم المتكامل، وكان عهد التدوين قد بدأ بمن كتب الحديث في عهد رسول صلى الله عليه وسلم ، وظل ينمو حتى ازدهر في أواخر القرن الأول، وأوائل الثاني، بتحرير الحديث والفقه، والتفسير، واللغة، وما إلى ذلك([2]).
أما إذا كان المراد بأن مادة التصوف وحقيقته وأصوله وموضوعه لم تُعرف إلا بعد هذه المدة، فالخطأ هنا يستحيل إلى خطيئة؛ فمادة التصوف من حيث العبادة، والخلق -على أوسع معاني العبادة والخلق- موجودة مشهودة في الكتاب والسنة، شأن بقية مواد علوم الدين، فإذا لم يكن لفظ (التصوف) موجودًا في هذا العقد، فقد كانت العبادات والأخلاق، وتربية النفس، ووسائل العلاقة بالله، والارتفاع بإنسانية الإنسان، كل هذه مسجلة في دين الله، وهي التصوف (سماه الناس كذلك) فالاسم حادث، والمادة قديمة بقدم الكتاب والسنة، شأن بقية علوم الدين سواء بسواء.
ولم يكن هذا بدعًا، فلم يكن في هذا العهد علم باسـم ( الفقه) ولا باسم (الأصول) ولا باسم ( مصطلح الحديث)، ولا غير ذلك من علوم الدين، ولكن المادة كانت موجودة بين دفتي الكتاب والسنة. فلما دٌونت العلوم، ورٌسمت القواعد والمصطلحات، أطلقت الأسماء حسبما رجحته الظروف الواقعية آنذاك.
وإذن، فلماذا ننكر تسمية التصوف، ولا ننكر تسمية بقية علوم الدين، والشأن واحد!؟
ثم لماذا ننكر تسمية (التصوف) ولا ننكر تسمية (التسَلُّف) ؟!.
مزيد بيان عن كلمة التصوف:
في « لسان العرب» لابن منظور يقول: «الصوف: للضأن، والصوفه أخص... ثم قال: والصوفة: كل من ولي شيئًا من عمل البيت الحرام وهو الصوفان.... وصوفة: أبو حَيّ من مضر، كانوا يخدمون الكعبة في الجاهلية، وهي أعظم ما يولى يومئذ»... ثم قال:
«وصوفة حي من تميم كانوا يجيزون الحاج في الجاهلية من منى فيكونون أول من يدفع يقال في الحج: أجيزي صوفة....».
وفي هذا المعنى يقول ابن الجوزي: أنبأنا محمد بن ناصر، عن أبي إسحاق إبراهيم بن سعد الحبال، قال: قال أبو محمد بن سعيد الحافظ، سألت وليد بن القاسم: إلى أي شيء ينسب الصوفي؟ فقال: كان قوم على دين إبراهيم في الجاهلية يقال لهم: صوفة، انقطعوا إلى الله عز وجل، وقطنوا الكعبة، فمن شبه بهم فهم الصوفية.
ثم قال: فهؤلاء المعرفون بصوفة، ولد الغوث بن مر، بن أخي تميم.
وفي المعجم الوسيط: «صَوَّفَ فلانًا: جعله من الصوفية، و«تصوف فلان» صار من الصوفية. «والتصوُّف» طريقة سلوكية قوامها التقشف والتحلَّي بالفضائل، لتزكو النفس وتسمو الروح. «وعلم التصوف» مجموعة المبادئ التي يعتقدها المتصوفة، والآداب التي يتأدبون بها في مجتمعاتهم وخلواتهم. و«الصوفي» من يتبع طريقة التصوف.
وهكذا يتأكد: أن كلمة التوصف عربية قديمة، في لغة العرب، فمن أرجعها إلى (سوفيا) اليونانية، فقد جهل وانحرف وقلد العميان، ومن ادعى أنها بدعة محدثة، كان أشد جهلًا وانحرافًا؛ فالتصوف أخلاق، وعبادة، ودعوة، وجهاد، وسلوك، فهو وحي من الوحي ودين من الدين.
إن كلمة صوفي بعيدة كل البعد – من حيث المعنى والمبنى – عن التأثر باليونان، فقد عرفت واستعملت قبل نهاية القرن الثاني الهجري، حيث أطلقت على أبي هاشم الكوفي (المتوفى سنة 150هـ)، وإن هذا النوع من التصوف وليد لحركة الإسلام ذاته، وإن العرب استمدوا أول علمهم بفلسفة أرسطوطاليس من شراح الأفلاطونية الحديثة، وليس كتاب «أثولوجيا أرسطوطاليس» الذي نقل إلى العربية حوالي 840م إلا ملخصًا لمذهب الأفلاطونية الحديثة.
ويؤيد هذا الاتجاه المحقق من واقع التاريخ «عباس محمود العقاد في كتابه «الفلسفة القرآنية» حيث يقول: «لكن التصوف في الحقيقة غير دخيل في العقيدة الإسلامية؛ لأنه – كما قلنا في كتابنا – « أثر العرب في الحضارة الأوربية»: مبثوث في آيات القرآن الكريم، مستكن بأصوله في عقائده الصريحة. فالمسلم يقرأ في كتابه أن: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:11] فيقرأ خلاصـة العلم الذي يعلمه دارس الحكمة الإلهية، ويقرأ في كــتابه ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾[الذريات:50] فيعلم ما يعلمه تلاميذ المتصوفة البوذيين حين يؤمنون بأن ملابسة العالم تكدر سعادة الروح، وأن الفرار منه، أو الفرار إلى الله: هو باب النجاة... فالمسلم: الذي يقرأ هذه الآيات – وهو مطبوع على التصوف والبحث عن خفايا الآثار ودقائق الحكمة.
(ب) أما: هل الإسلام يحتاج إلى التصوف؟ فإذا كان الشيء يحتاج إلى نفسه، جاز أن يقال: إن الإسلام يحتاج إلى التصوف.
الإسلام انقياد ظاهري، لا يتم إلا بالانقياد الباطني، وإلا كان نفاقًا.
والانقياد الباطني هو: الإيمان بوصفه عملًا من أعمال القلب، التي نسميها «التصوف»، فليس التصوف شيئًا غير الإسلام، حتى يقال: إنه يحتاج إليه، أو يستغنى عنه، إنما التصوف هو ذروة الدين كله، مقام «الإحسان» التقوى، والتزكية، والربانية، كما قدَّمنا، فهو الغاية والثمرة التي لا تتاح إلا لسالك مُريد موفَّق ذَوّاق.
وهكذا نجد: أن السؤال الذي يقول: هل التصوف يضيف جديدًا إلى الإسلام سؤال غير وارد، والإجابة عليه واضحة في الرد على الشطر السابق.
أين هذا السؤال من قوله تعالى: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا﴾[المائدة:3].
إن التصوف الحق هو: الإسلام في أعلى مستوياته.
ومن أعجب العجب من بعضهم أن يكتب أنه يقبل أوصاف الشكر والصبر والورع والزهد والذكر والفكر، من كتب المتمسلفة، ولا يقبلها من كتب المتصوفة، تعصبًا وغلًا للذين آمنوا.
أما الفرق بينه وبين الزهد الإسلامى: فإن الصوفي أكبر من زاهد؛ لأن الزاهد إنما يزهد في الدنيا، وهي لا شيء، فالزهد في الدنيا زهد في لا شيء، والزاهد في (لا شيء) غافل أو جاهل، لكن زهد الصوفي منصب على كل ما يبعده عن الله، على أي وضع يكون، أما كل ما يذكره بالله (ولو المال) فليس هو بزاهد فيه.
دخل صوفي على أحد الخلفاء، فحدثه، فأجازه الخليفة بما لم يكافئ بمثله أحدًا قبله: فاعتذر الصوفي عن قبول عطية الخليفة، فاندهش الخليفة قائلًا له: ما أزهدك!! قال الصوفي: بل أنت أزهد مني يا أمير المؤمنين.
قال: كيف؟
قال: لأنني أزهد في الدنيا، وهي لا شيء، وأنت تزهد في الآخرة، وهي كل شيء([3]).
الزهد عند الصوفية: أن تكون الدنيا في يده، لا في قلبه؛ لأن الزاهد (غير الصوفي) تاجر، يحرم نفسه من متع الدنيا، ليعوضها أضعافًا في الآخرة، ولا كذلك الصوفي الذي لا يحرم نفسه متعة أحلها الله، إلا إذا حجبته عن الله.
وهذا أبو الحسن الشاذلي ا، كان صاحب تجارات ومزارع، وهذا شمس الدين الدمياطي، كان تاجرًا من أثرى علماء الصوفية، وهو الذي بنى برج دمياط من ماله الخاص في عهد السلطان الغوري، وهذا الليث بن سعد، فقيه مصر، وإمام زهادها، كان أثرى أهل عصره. ولم تمنع هؤلاء أموالهم أن يكونوا أزهد الناس في الدنيا إذا شغلتهم عن الله. ولكنهم لم تشغلهم بعد، بل كانت طريقهم إليه عز وجل!!
وهكذا يتضح أن سحق الشخصية بالزهد المادي، والتبتل البشري مما لا تعرفه قوانين التصوف الإسلامي.
وقد كان من أعيان الزاهدين من الصحابة: بلال، وسلمان، وأبو ذر، وتميم الداري، أول من جلس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام عمر يذكر الناس بالله في يوم الجمعة.
فإنما الزهد في حده المحدود، مما جاء عن كثير من الصحابة والتابعين وتابعيهم كما أسلفنا.
وفي صدر هؤلاء جميعًا زهد (العمرين) ابن الخطاب، وابن عبد العزيز بعد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كانت الدنيا في أيديهم، ولم تكن في قلوبهم، فاستغنوا برب الدنيا عن الدنيا وما فيها ومن فيها.
إن الذي يملك هو الذي يزهد، أما الذي لا يملك، ففي أي شيء يزهد؟!
***
([1]) هذا الذي قالوه: إنما هو من كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، قال في كتابه «الصوفية والفقراء» :«الحمد لله: أما لفظ الصوفية، فإنه لم يكن مشهورًا في القرون الثلاثة وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك». وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام أحمد بن حنبل، وأبي سليمان الداراني، وغيرهما.
وقد روي عن سفيان الثوري أنه تكلم به، وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري. وتنازعوا في المعنى الذي أضيف إليه الصوفي؛ فإنه من أسماء النسب كالقرشي، والمدني، وأمثال ذلك، فقيل: إنه نسبة إلى أهل الصفة، وهو غلط؛ لأنه لو كان كذلك لقيل: صُفي. وقيل: إنه نسبة إلى الصف المقدم بين يدى الله، وهو أيضًا غلط، فإنه لو كان كذلك لقيل: صَفي. وقيل: «نسبة إلى صوفة بن أُد بن طابخة قبيلة من العرب كانوا يجاورون بمكة من الزمن القديم، ينسب إليهم النساك» إلى آخر ما قال. وقال أيضًا بعد كلام: «... والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله؛ ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين...». إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى، فراجعه هناك.