ما رأيكم فيما يوجه للتصوف من اتهام بأنه يعود في أصوله الأولى للبوذية؟ والمجوسية؟ والرهبانية... إلخ؟
الجواب:
قدمَّتُ أن التصوف الإسلامي، هو الربانية، فهو: إيمان وعمل، وعبادة، ودعوة، وأخلاق، وبر مطلق. وهو إرادة وجه الله في كل قول وعمل، أو نية، أو فكر، دنيوى أو أخروى، وهو التساوي بالبشرية إلى مستوى الإنسانية الرفيعة، فهو وحى من الوحى، وهو الدين كل الدين؛ لأنه بهذا الوصف ( طلب الكمال)، وطلبُ الكمال فرض عين، وهو علاج لأمراض النفوس، وما من إنسان إلا وهو مبتلّى بجانب - قَلَّ أو كثر- من النقص الذي نسميه: مرض النفس، أو الخُلق، وإنما جاءت رسالات السماء كلها لعلاج هذه الأمراض النفسية والخلقية أول ما تعالج في بنى أدم.
ولما كان التصوف قد تخصص في هذا الجانب، كان طلبهُ فرضًا شرعًاوعقليًا، وإنسانيًا واجتماعيًا – حتى يوجد الإنسان السوى الذي به تتسامى الحياة، وتتحقق خلافة الله على أرضه، وينتشر الحب والسماحة بين الناس، وتأخذ الحضارة والتقدمية روحهما الإيمانى المحقُق لمراد الله.
وأدلة ذلك جميعًا مما لا يغيب عن صغار طلبة العلم، ومما تزخر به علوم الكتاب والسنة.
ولا أعرف أن الكتاب والسنة نقلًا عن المجوسية، والبوذية والرهبانية شيئًا أبدًا أنما هو الغل المورث للتهم الكواذب، وتضليل خلق الله.
أما إذا كان المراد بالتصوف في السؤال، هو هذه الفلسفات الأجنبية عن العقيدة والشريعة، فهذا باب آخر، لا علاقة له بتصوف أهل القبلة، والاحتجاج بهؤلاء علينا فيه تلبيس الحق بالباطل، ثم إن أخذ البرىء بذنب المجرم: فعلة دنيئة.
على أن الذين اشتهروا بهذا الجانب الفلسفي، ممن ينُسْبَون إلى التصوُّف، عدد محدود، قد لا يجاوز العشرة، وسواء قبلت فلسفتهم التأويل والتوجيه – ولو من وجه ضعيف – أو لم تقبل، فهؤلاء، قد انتهى أمرهم نهائيا، وليس لفلسفتهم اليوم معتقد، ولا دارس. وقد أصبحت كتبهم بما فيها من الأفكار أشبه بنواويس الموتى: تُعْرَض – إذا عُرِضَت – للزينة، أو التاريخ والعبرة، فليس بين صوفية عصرنا من يرى رأيهم، أو يذهب مذهبهم، سواء على ظاهره، أو مع تأويله.
وأين فكُر الجماهير من العمال والفلاحين، وأنصاف المتعلمين، أو حتى كبار المثقفين، من كتب هؤلاء وألغازهم وأحاجيهم ؟!
هذا إذا أمكن الحصول على الكتب وعلى الوقت، وليس الأمر كذلك، ولا شك أن الوقوف عند هذا الجانب في هذا العصر: نوع من البحث الأثري، عن الحفريات المجهولة، في سراديب الرموس والأجداث: عصبية وحمية.
والغاضبون على التصوف جميعًا يحتجّون بهؤلاء، وقد انتهى أمر هؤلاء، فقد كانت مذاهبهم شخصية، لا تجد طريقها إلى الجماهير، لحاجتها إلى استعدادات وقابليات ومدارك، ومنطق لا يوافق لدى الكافة ومؤاخذةُ الخلف بفعل السلف- لو سلمنا جدلًا بأنهم سلف – أمر بعيد عن العلم والعدل.
والحكم على الكل بذنب البعض – لو سلمنا بهذه البعضية – أمر بعيد عن العلم والعدل.
ولو أن إخواننا (خصوم التصوف). نظروا إلى الواقع الفعلي. فكافحوا معنا منكرات العصر ومبتدعاته، من نحو: الطبل، والزمر، والرقص، وتحريف أسماء الله، وغير ذلك من مناكر المواد، والتجمعات العامة، وأخذوا طريق التعاون بالحسنى، والدعوة بالحكمة، لكان هذا أدنى إلى الصواب وأهدى سبيلًا، عند الله والناس.
أما حملتهم على هؤلاء الموتى، ممن جنحوا إلى الفلسفة، فاستئساد على الرمم، وصيال في غير مجال، ومبارزة مع الهواء الطلق؛ فهؤلاء الموتى، ما يملكون الدفع عن أنفسهم، وليس من ورائهم وراث يدافع عنهم، إلا – إذا وُجد – لمجرد التصويب وإحسان الظن بأهل القبلة، أو هو لمجرد الثقافة والتاريخ.
وهنا أقرر بملء الثقة واليقين، أنَّ كل ما جاء منسوبًا إلى التصوف مما يخالف الكتاب والسـنة، مهما كان مصـدره، فليس – فيما نرى – من ثمرة الإسـلام بوصـفه مقام (الإحسان) الذي سجله الحديث النبوي المشهور، كما قدمنا، وهو في تساميه أبعد من لهو الفلسفة وعبثها، وإن تأولت.
***