ما حكم الاعتقاد في قدرة بعض الأشياخ على الاطلاع على الغيب؟
وقد نفى القرآن عن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه علمه بالغيب؟
الجواب:
هذا الباب مما لاينبغي فيه التعميم المبهم، فإن الغيب نوعان:
1- غيب حقيقي.
2- وغيب مجازي.
فالغيب الحقيقي: ما كان في مكنون العلم الإلهي، لا يحيط به إلا الله وحده.
أما الغيب المجازي: فما قد كشف الله عنه لمن شاء من خلقه، فهو العلم الذي تنزل به الملائكة والروح بإذن ربهم من كل أمر، وبخاصة حين – يفرق – في ليلة القدر - كل أمر حكيم – (ومن معاني الفرق: الكشف، والإظهار، والبيان).
ومما يدخل في الغيب المجازي: ما يكون من الأحداث الكونية التي تقع في منطقة ما، فيراها من هم حولها، ولا يراها ولا يعرفها الآخرون.
فالغيب الحقيقي: لله وحده ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام:59].
وقد يتفضل الله على بعض رسله فيحيطهم علمًا بما يشاء من علمه؛ تأييدًا لهم، وتعجيزًا لخصمهم ﴿عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا=٢٦- إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجنّ:26 ، 27]، كما كان عيسى عليه السلام ينبئ الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم([1]). وكما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - في أعلام نبوته – عن وقائع وأحداث جاءت في حياته وبعد مماته، كما حدث بها بكل تحديد.
وهناك نفر من أهل الله – ولله أهلون من عباده، كما صح في الحديث الكريم([2])- فربما أفاض الله على بعضهم ببعض الغيب الحقيقي أو المجازي، فضلا منه ونعمة، كما قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ [البقرة:255]. أي أن هؤلاء يحيطهم الله بشيء من علمه شاءه لهم، وهم ليسوا برسل ولا أنبياء.
ومعنى كل هذا: أن الله تعالى يتعطف على بعض الخواص من عباده بما يشاء من بحر علمه، فلا أحد يستطيع أن يحيط بشيء من علم الله بقدرته بشخصيته أو إرادته، إلا أن يشاء الله! وهو قوله تعالى – على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ [الأعراف:188] أي فلا أعلم- إلا ما علمني ربي، وما كشف عنه لي، ومن هذا الوجه أيضًا قوله تعالى: ﴿وعلمناه من لدنًا علمًا﴾ [الكهف: 65]. وقوله على لسان يوسف عليه السلام في تأويله الرؤيا ﴿ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ [يوسف:37] ، وقوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ [النساء:113]...... إلخ. كل هذا في الغيب الحقيقي.
أما المجازي: وهو ما خرج من نطاق المكنون الرباني، فلا يمتنع أن تكون هناك وسائل للإحاطة به.
وقد فصل الإمام الآلوسي هذا الجانب تفصيلًا مفيدًا حاسمًا.
وقد يكون من هذه الوسائل: صفاء النفوس بطول ملازمة العبادة والاستغراق فيها، وعدم الانشغال بغير الله – شأن أولياء الله الصالحين.
وقد يكون من هذه الوسائل ما هو آلى فلسفي، كالذي نراه في فقراء الهنود.
وقد يكون من هذه الوسائل استخدام الشياطين، كما جاء في الصحيح: «إن الشياطين يذهبون في العنان فيخطفون الكلمة من الملك، فيقروّنها في آذان الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة»([3]).
وقد يكون من هذه الوسائل تطوع بعض صالحي الجن، بما لا بأس به مع بعض الصالحين من الإنس. وقد يكون بأسباب أخرى كثيرة جدًا – فالأمر متشابه متشعب دقيق، لا تحكمه العواطف المنفعلة.
وبين أيدينا من التجارب الواقعية ما يغطي كل هذه الأنواع وغيرها، مما لم نشر إليه، وهو كثير.
وهذه الأصول كلها يجب أن يستنبطها من يتصدى للحكم على الغيب؛ فإن فتنة تعميم الأحكام، والتهويل والإيهام، كثيرًا ما تخرج بطرفي القضية عن المنهج العلمي، أو العلم المنهجي، فلا يتحقق إنصاف، ولا ينصف تحقيق.