(سألها أحد الصحافيين العرب وطلب ألا يذكر اسمه) قال:
السؤال الأول
( س ) يقولون: لم ترد كلمة صوفية أو تصوف في كتاب الله، أو على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة، والله تعالى يقول: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ)[آخر سورة الحج] ويقول: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة:3].
الجواب:
التصوف ليس دينا مستقلا عن الإسلام حتى يواجه الاحتجاج بهذه الآيات، وإنما التصوف مذهب من مذاهب المسلمين، يدور في فلك الإسلام، على أرقى وأنقى معانيه، وكما جاز أن يسمي البعض أنفسهم (أو سماهم الناس) «سلفية» بلا نقد ولا اعتراض، فالحكم هنا وهنا واحد. وهو أشبه بقولهم: مالكي، وشافعي، وحنبلي، وإباضي، وزبدي، ووهابي، وسعودي، وحافقي، وظاهري...إلخ.
فالسلفية، والتسلف، والسلفي، ألفاظ لم ترد إطلاقا لا في الكتاب، ولا في السنة، وهم يختصون أنفسهم بها ولا يرون بذلك بأسا، بل يرونها فخرا وشرفا.
والصوفية، والتصوف، والصوفي، ألفاظ شأنها شأن تلك الألفاظ، سواء بسواء، وحكمها حكمها من كل الوجوه، وليس كل اسم أو وصف لم يأت في القرآن، أو السنة، يحرم التسمي به، وكذلك الألقاب والنسب، فالاعتراض من هذه الوجهة ساقط ذليل، لا يقول به عالم ولا عاقل.
ثم إنه كان اسم (التصوف) غير موجود، بلفظه، فإن المادة والحقيقة موجودة، شأن كل علوم الدين التي وضعت أسمائها في عهد التدوين ثم إن الإسلام محيط شامل لكل أهل القبلة، سواء منهم الطيب والخبيث، فالقاتل من أهل القبلة (أهل لا إله إلا الله) مسلم. وكذلك الزاني، والسارق، والمرابي، والمرتشي، والفاجر، كما أن الصالح، والذاكر، والمخبت، والصابر، والمتوكل، والمجاهد، والمعطاء، والعابد، هو (من أهل لا إله إلا الله)؛ فكل واحد من هؤلاء مسلم عقيدة، وإن اختلف خلقا وعملا أو معاملة.
ومن ثم كان من التشريع القرآني: أن يُعرف الناس بخصائصهم.
وعلى هذا السبيل جاء في القرآن ذكر «المهاجرين والأنصار» وجاء ذكر «الصديقين، والشهداء والصالحين» كما جاء ذكر «السابقين، والمقربين، والمخبتين، والأولين، والآخرين». وفي آية الأحزاب (إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ)[الأحزاب:35] ذكر الله عشرة أصناف من المسلمين، كما تناثرت في القرآن أوصاف أخرى، لأهل القبلة غير وصف المسلم.
فإذا ذكرنا الناس بخصائصهم فذلك اقتضاء طبيعي حتمي للتعريف والتصنيف، لا يمكن أن يعترض عليه عاقل ولا عالم، فهو من المسلمات البدهية، التي لا تخفيها المغاليط والجهالات، والتعصب الكريه.
فإذا أضفنا إليه «أنه كما رأيت – تشريع قرآني متبع – كانت اللجاجة حوله هرطقة عصبية لا احترام لها، لمخالفتها للمنهج القرآني، ثم لمعقولية الأشياء وطبائعها».
وعلى هذا السنن جاء في القرآن ما هو مدني، وما هو مكي، وعرف الناس كثيرا من الصحابة بخصائص النسبة إلى أوطانهم الأولى، فقالوا: «بلال الحبشي» و«صهيب الرومي»، «سلمان الفارسي». كما ينسب كثير من الناس إلى الحرف والمهن، والوظائف، والأعمال المختلفة، بلا نكير في كافة الأزمنة والأمكنة؛ فالنسبة إذن إلى المذهب أو الدعوة شيء لا بدعة فيه، ولا حرمة، ولا كراهة.
وهكذا يقال كما قدمنا: مسلم شافعي، أو مالكي، أو حنبلي، أو شيعي، أو وهابي، أو مصري، أو شامي، أو يمني، أو مغربي، أو صوفي، أو سلفي، بحكم الاقتضاء الذاتي والقواعد اللغوية والمنهج القرآني والطبيعة الحتمية المحكمة، والضرورة العقلية الحاكمة.
جمعية كذا وكذا:
إن المغرمين بتكرار هذا الاستشكال التافه، هم بعض إخواننا من أتباع بعض الجمعيات المعروفة بمظهرياتها وتطرفها وسطحيتها.
ونحن نسأل هؤلاء الإخوة: هل جاء في القرآن أو السنة مثلا «اسم الجمعية الفلانية، أو العلانية، أو جماعة كذا وكذا».
إن الحكم هنا، هو الحكم هناك، فكيف يكون هنا حلالا، ثم يكون هناك حراما؟
أيها الإخوة: شيئا من العقل... شيئا من العلم... بل شيئا من الأخلاق!!
ومن جهة واقعة: ما هو الشيء الذي يراد باسم التصوف الإسلامي؟
إنه هو: الإيمان، والعمل، والحب، والأخلاق، والعبادة، والتسامي، والدعوة، والجهاد على أرقى مستوياتها جميعا، وهذه العناصر جميعا، وما يتفرع منها أمهات ومقامات التصوف كلها، من الصبر والتوكل، والعفو، والرضا، والشكر، وغيره من أصول منصوص عليها في الكتاب والسنة باتفاق أهل القبلة.
وقد أطلقوا عليها اصطلاحا: لفظ التصوف، فأطلق أنت عليها ما شئت من الأسماء فإن الأسماء لا تغير الحقائق: سمه: تنسكا، أو تبتلا، أو تزكيا، أو ربانية؛ فالناس يتعاملون مع حقائق الأشياء، لا مع أسمائهم!!
أسماء علوم الإسلام:
ثم انظر معي يهدك الله: هل جاء في القرآن أو السنة اسم (علم أصول الدين) أو (علم أصول الفقه) أو (علم مصطلح الحديث) أو (علم الفقه المقارن) أو (علم التفسير) أو (مقارنة الأديان) أو (علم النحو) أو علم (البلاغة) أو (البيان) أو (علم الأخلاق) أو (علم الكلام) أو غيرها من العلوم الدينية، أو العربية، فضلا عن أسماء علم الحضارة والفنون والثقافة، والرياضة، والطب، والفلك، والذرة على تنوعها ومراتبها؟ طبعا لا، ثم لا!!
فلماذا لا يوجه هذا الاعتراض على أسماء هذه العلوم، كما يوجه إلى علم التصوف؟!.
وكيف يجوز الأمر الواحد في جانب، ويمتنع في جانب آخر مع التماثل المطلق في كافة الأركان القياسية والعلمية؟
هذه دعوى متهافتة من البداية والنهاية، دعوى الاضغان، والعصبية، والعنصرية، والمذهبية التي لا عقل لها، ولا علم بها ولا خلق معها، ولا تقوى فيها، والإسلام والعقل – على وسع رحابه – يرفضها وينكرها ولا يرضى عن أصحابها، فليس من ورائها إلا الفتنة وتفتيت الإسلام، وضياع المسلمين، كأنما لم يبق من الموبقات شيء، وهي بغير حدود ولا قيود.
الدخيل والمدسوس في علوم الدين
وقد أكثروا القول بأنه: يجب القضاء على التصوف لما فيه من دخيل ومدسوس.
نقول: فهل نقضي أيضا على (الحديث النبوي) لأنه فيه عشرات الألوف من الدخيل والمدسوس!؟
وهل نقضي على التفسير لأنه بعض كتبه محشو بالعبرانيات، والخرافة، والتهويل، وبلاهة النقل، وسوء التأويل، والشطط، وتأكيد الشعوذة!؟
وهل نقضي على كتب (التوحيد) لما فيها من القضايا المنحرفة، والأفكار المضطربة، والمذاهب المفتونة، والتصورات الضالة، والأقيسة المضللة!؟
وهل نقضي على كتب (الفقه) لأنها متخمة بالفروض المستبعدَة، والخلافات المستكرَهة، والأفكار المعقدة، والحيل المنافقة، والاستخراجات المؤسفة!؟
ثم، هل، وهل، وهل، إلى آخر هذه السلسلة الطويلة!؟
إن المعقول المجهول: أن تطلب التبيان، والنصح والتصحيح، وتجريد هذه العلوم من أمراضها، ومما أصابها من الطفيليات، والحشو والتخلف، والتجمد، والفضول، واللغو، والالتواء، والزغل.
وهذا ما فعله كثير من السلف ي.
وهذا هو ما يجب أن يُطبق على علم التصوف تمامًا، وإلا لم يكن المراد الإصلاح أبدا، إنما هو الهدم والتخريب والتدمير المجنون، الذي لا ينتسب إلى عقل، ولا إلى خلق، ولا إلى علم، ولا إلى دين.
وهذا ما لا يمكن أن يرضاه مسلم يقدَّر معنى شهادة +لا إله إلا اللهَّ_ وما يترتب عليها، وما يتعلق بها في الخصوص والعموم، وفي الحِسِّ والمعنى، وفي الحاضر والمستقبل. واللَّه لا يحب الظالمين.
***
السؤال الثاني
(س) يقول بعضهم ماذا يضر الإسلام لو أننا شطبنا التصوف من بيئة المسلمين؟ (كما جاء في مقال بعض المجلات السلفية).
الجواب:
الإجابة هنا في غاية البساطة؛ فالتصوف كما عرفه أهله بأنه (التخلي عن كل دنيّ، والتحلي بكل سنيّ) حسا، ومعنى، وخصوصا، وعموما، مع الفرد والمجتمع، على ما تقرر في كتاب الله وسنة رسوله، وإن اختلفت المفاهيم والاجتهادات في الفروع، وبخاصة فيما يتعلق بالأخلاق، والآداب، والسلوك، والعبادة، والدعوة.
فالتصوف بهذا المعنى هو: حقيقة الإسلام، وهو ما نعتقده، ونخدمه، ونتعبد به، وندعو إليه، ونكافح دونه، فإذا ما شطبنا كل هذا المعنى من الإسلام، فما الذي يكون قد بقي من الإسلام؟.
أما التصوف بمعنى الحلول والاتحاد والوحدة المحرمة، وبمعنى الطبل، والزمر، والرقص، والخرافة، وتحريف أسماء الله، والتعطل، والتبطل، والقول برفع التكليف، أو مخالفة الشريعة للحقيقة، ودعاوي الولاية، والإتجار بالخوارق، وما إلى ذلك، فنحن والصوفية، الشرعيون جميعا: أول من نادى وينادي بشطبه، كما نادى سلف الصوفية بشطبه، وما تألفت (العشيرة) وجاهدت إلا لهذه الخدمة!!
ولكن إخواننا خصوم التصوف الحق، يشعرون من قرارة نفوسهم بقوته، وصموده، وصحته، وخلوده، فليجأون إلى التهويل والتعميم، والنفخ في (بالونات) القشور، والسطوح، والمجازفة، بإصدار أحكام: الشرك، والردة، والكفر، والزندقة، والفسق، على كل من ليس منهم.
وهم معذرون – عند أنفسهم – بما نعلمه نحن وما يعلمونه، مما تكفي فيه الإشارة عن العبارة.
أعاذنا الله من عبادة: المشالح، واللحى البترولية، واتخاذ الدين وسيلة إلى الدنيا الفانية، ولا قوة إلا بالله.
***
السؤال الثالث
(س) ولكنهم يقولون: إن ما يعترضون فيه على التصوف أمور تتصل«بلا إله إلا اللّه»...بالتوحيد؟
الجواب:
إجماع السلف والخلف على أن «أهل القبلة كلهم موحدون» وما صدر من بعضهم «جهلًا أو تأويلًا، أو اجتهادًا، أو غيره، من عمل أو قول، وخصوصا من المتشابه، تعين أن يحمل على أشرف وأحب وجوهه، وإن كان احتمالا واحدا من تسعة وتسعين احتمالا، فليس من حق أحد أن يخرج أحدا من دين الله إلا أن يكون كفر كفرا «بواحا صراحا» لا يحتمل العذر أو التأويل.
وليس كذلك شأن واحد من الصوفية الأبرار.
ألا ترى كيف غضب رسول ع على ذلك الصحابي الذي قتل رجلا نطق بالشهادتين «تقاة» وهو ع يردد: «أقالها وقتلته؟؟!».
وكيف تبرّأ الرسول من عمل الصحابي الذي قتل من قالوا «صبأنا» يريدون «وحدنا» وخرجنا من الكفر إلى الإيمان([1])، وكيف لم يعترض رسول الله على سيدنا «سعد» عندما جعل عين الماء صدقة على أمه. وقال: «هذه لأم سعد». وكيف أنه ع عصم دماء «المنافقين» بنطق الشهادتين، وهو يعلم أشخاصهم وأسرارهم، وكيف أن الإسلام قرر دفع الحدود بالشبهات([2])، فـ «لأن يخطئ القاضي في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة». والمذاهب الإسلامية أولى بهذه القاعدة.
لهذا كله، كان: كل من نطق بالشهادتين موحدًا، معصوم الدم والمال، وإن جهل وإن عصى([3]).
وأخيرًا: هو من أهل الجنة بنص الأحاديث الثابتة في كل ما قدَّمناه.
أما إنه شيء يتصل بـ «لا إله إلا الله». فهل هناك شيء لا يتصل بها؟
كل شيء عرفه الناس أو يعرفونه، من كل أقوالهم، وأعمالهم، وأحوالهم، وأفكارهم، فهو متصل بـ «لا إله إلا الله» بوجه من الوجوه، وبحقيقة من حقائق الأزل والأبد.
ألم أقل لك: إنها السطحية، والغرور، وإنه التهويل، وإنه الخروج بالأشياء عن أسمائها وأحكامها، وإلباس المسميات غير أسمائها في سبيل تأييد المذهب، وتأكيد العنصرية التي يرفضها الدين والعلم، والخلق، في سبيل العمالة، وبيع الدين، والوطن جميعا.
***
السؤال الرابع
وهنا أذن مؤذن الوقت، فقال السائل الصحفي للشيخ:
بهذه المناسبة: ما رأيكم في الأذان الشرعي، والبدعي؟
فقال الشيخ: أرجو أن نتحدث في هذا بعد الصلاة.
ثم بعد أن ختمت الصلاة، قال الشيخ:
الجواب:
وهذه أيضا من المسائل البسيطة، والدقيقة في الوقت نفسه، لولا ما يثيرونه حولها فليس هناك أذان شرعي، وأذان بدعي، إنه الأذان الإسلامي، فلا يجوز أن يسمى مبتدعا من يذكر الناس بالشهادتين، ويدعوهم إلى الصلاة والفلاح، في الوقت الذي حددته الشريعة، وبالألفاظ الواردة، وإن التوى بها لسانه، أو تجاوز في أسلوب الأداء.
ولكن هناك أذان «منغَّم»، وأنا أميل إلى الأذان البسيط؛ لأنه أسلوب عملي، يستطيع أن يقوم به أكثر الناس بلا تكلف ولا صناعة ولا معاناة، ولكنني أنكر طريقة الأداء التي يتعمدها بعضهم في أداء هذا الأذان البسيط، فيخرج به عن سماحته وحسن هديه، حتى لكأنه في معركة ضارية مع الريح، هي إلى الإزعاج والتحدي والغل أقرب منها إلى الدعوة والتذكير، وليس هذا من أذان الإسلام في شيء على الإطلاق.
إن رسول الله ع أمر صاحب رؤيا الأذان، أن يعلمه بلالًا «لأنه أندى([4]) صوتا». وقد سمع عمر بن عبد العزيز رجلا يفزع الناس بالأذان فقال له: «أذِّن أذانا سمحا، وإلا فاعتزلنا». وقد كان الناس - لعهد النبوة - يضربون المثل بأداء الأذان الجميل من «أبي محذورة» أحد مؤذني رسول الله ع، حتى قال بعض شعرائهم:
بما تلَى من سوره |
* |
وبالأذان مِن أبي محذوره |
لأفعلن فعلةً مشكوره
فقرن حسن تلاوة رسول الله للقرآن بحسن أداء أبي محذورة للأذان
بقي من سؤالك: هل الأذان «جزم» أو «إعراب» !؟
هذا وارد، وهذا وارد، وقد ذكرت الحديث الدال على الإعراب مسندًا مشروحًا في بعض ما كتبتُ قبلًا (بمجلة المسلم)، ثم اطلعت أخيرًا على بحث طيب للأستاذ «ناصر الدين الألباني» وهو من كبار (المتمسلفة) يقرر فيه صحة الأذان بالإعراب، مستدلًا بما استدللت به، مع زيادات أخرى.
والإعراب هنا: معناه، جمع التكبيرتين مع (رفع) أي ضم الراء في التكبيرة الأولى.
أما قولك: «بأي السورتين كان يؤذن لرسول الله؟» فذلك ما لا يجرؤ عالم يخشى الله أن يحدده على التعيين؛ فإنه لم يكن لعهد رسول الله «ريكردر» يسجل الصوت والأداء، فمتى تحقق في الأذان تصحيح الألفاظ، وحسن الإلقاء، فذلك هو المشروع، ولهذا اختلفت طريقة الأداء والأصوات في جميع بلاد المسلمين.
ولقد كنت في صباي أذهب أحيانًا – قبل أذان الوقت – مع بعض لداتي من الأزهر إلى مسجد المرحوم «الشيخ محمود خطاب السبكي» س، لأتمتع ومن معي بسماع الأذان من المرحوم «الشيخ سرحان» مؤذن المسجد وقتئذ، فقد كان يؤذن هذا الأذان البسيط بـ «حال» كما يقول الصوفية: فيتأثر به كل من سمعه، لدرجة البكاء في بعض الأحيان.
أما الأذان «المنغَّم» فلا يجوز إذا خرج بالكلمات عن أصولها المقررة في علمي اللغة والتجويد: «لا شك في ذلك» فهو لهذا مكروه، ولكنه لا يكون كبيرة موبقة، أو بدعة مهلكة.
***
السؤال الخامس
(س) بهذه المناسبة، لاحظت أن إمام الصلاة هنا، لا لحية له، وقد رأيت بعضهم لا يصلي خلف من لا لحية له، بل يريمه بالفسوق؟
الجواب:
لا يوجد مسلم واحد يقول بأن اللحية ليست سنّة، سواء أكان ملتحيا أم لا؛ فسنيتها ثابتة، لا يماري في ذلك أحد إطلاقًا، أما أن تاركها فاسق، فهذا الحكم هو: الفسوق عن العلم وعن السنة معًا وهذا ما حدا به إلى كثرة البيان في هذا الباب.
وفي كتاب (زاد المسلم) وشرحه (فتح المنعم)، ما يؤكد هذا المعنى، عند ذكر إعفاء اللحى وإحفاء الشوارب، وهل هو مما عمت به البلوى؟
إنك تستطيع أن تسمي تارك توفير اللحية «مخالفًا، أو مقصرًا، أو مهملًا، أو متهاونًا، أو حتى عاصيًا».أما أن تقارن بينه وبين مرتكب الكبائر الموبقة، فتسحب عليه حكم الفسق لعدم توفير اللحية، فهذا هو الغلو في الدين بغير حق، وبغير عقل أيضًا، وإلا فبماذا تصف القاتل، والزاني، والسارق، والمرابي، واللائط، وقاطع الطريق؟؟ ونحوهم من المسلمين؟؟
راجع إن شئت مبطلات الصلاة ومفسداتها، في كل مذهب إسلامي، فلن تجد من مبطلاتها، ترك توفير اللحية، فلماذا لا يصلي أحدهم وراء الحليق المتفقَّه، وبخاصة إذا اعترف بالتقصير، مقرًا بالسنية!؟ وحكم السنة: الأجر على العمل، والحرمان منه مع الترك، ولم يقل أحد بأن حكم السنة هو حكم الفرض أبدًا.
إن مما حفظناه عن شيوخنا، قولهم: «إن من السنة إيمانًا، ترك السنة أحيانًا؛ لئلا تأخذ حكم الفرض عيانا»!!.
يا ولدي: أركان الإسلام خمسة، وليس منها توفير اللحية، وأركان الإيمان، وأركان الإحسان (كما صح بها حديث جبريل) ليس منها توفير اللحية. وشروط صحة الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والطهارة، ليس منها اللحية، وكذلك مبطلات العبادات، كلها ليس منها ترك توفير اللحية، على جميع المذاهب، سلفًا وخلفًا، كتابًا وسنة، نصًا واجتهادا.
إذن فهي ليست سنة عبادة إنما هي سنة عادة، وكان العرب على اختلاف أديانهم، وعقائدهم، يطلقون لحاهم، ولا زال الأحبار والرهبان، في الشرائع السماوية والأرضية يطلقون لحاهم، فهي ليست من سنن الإسلام الخاصة به، أو التي يخالف بها سواه، فتكون فرقًا بين المسلم، وغير المسلم أو بين التقي والشقي.
ولا يزال من يسمونهم «الفنانون، والفلاسفة» في عصرنا «والخنافس، والهيبز، والمجاهرون بالفسق، والملحدون، والشيوعيون والرقاصون، والطبالون ومثلهم» يطلقون لحاهم.
فالتغالي بتسمية تاركها فاسقًا، قول بعيد عن الإنصاف العلمي والديني، وعن حب السنة، وعن حب رسول الله عليه السلام، وعن يسر الإسلام ورفقه.
***
السؤال السادس
(س) يظهر أن مفهوم إحفاء الشوارب يختلف من جمعية لأخرى، ومن رجل لآخر؛ فقد شاع في هذه الأيام استئصال الشوارب نهائيًا، مع توفير اللحى بكثافة؟
الجواب:
هذه ظاهرة عجيبة فعلا - فيما أعرف- فإن ألفاظ الأحاديث التي أحفظها في هذا الباب بين «قصوا، وأحفوا» وهما لا يؤديان معنى الحلق أو الإبادة، أو الاستئصال الذي نراه اليوم، فالإحفاء يفسره النص، والمراد به: تقصير الشارب، فقط لما في ذلك من منافع صحية وعملية، ولذا كان مما اختاروه جميعا: أن تظهر أطراف الشفة تحت الشارب أي أن يكون هناك شارب، ولكن لا يتدلى على الفم؛ لأن الشارب علامة كبرى من أهم علامات الرجولة: «والتنسيق بينه وبين اللحية يعطي المهابة، والرجولة، ولهذا شرطوا ارتباط سوالف الشارب باللحية.
يا ولدي: الإسلام: سَمْحٌ هين لين([5])، وهو في نفس الوقت قوي صامد شامخ، وفي الحديث:«إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأَمْرِ كُلِّهِ»([6]) ويقول عليه السلام: «يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا»([7]) ويقول: «لَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا» انظر إلى قوله: «قاربوا» بل إلى قوله ع: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»([8]).فقد أذن لنا فيما أمر: أن نأتي منه ما استطعنا. وليس بعد هذا تيسير أو رفق وسماحة.
وفي حديث ابن عمر: كنا إذا بايعنا رسول الله ع على السمع والطاعة، قال: «فيما اسْتَطَعْتُمْ...»([9]) والله يقول: (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التغابن:16].
فأين هذا مما نرى الآن، وما نجد من عدوانية بغيضة باسم السنة، ومن ضغينة على الناس، وغرور، وحقد، وغل أسود وأحمر، وأزرق، باسمها، على حين يقول الله على لسان المؤمنين (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا)[الحشر:10]. سماحة الإسلام، هي العلاج ولكن: كيف تكون علاجا، وقد جعلوا منها كآبة وتهجما، وغما، وأغلالا وسعيرا، وسجنا كبيرا، بما يلوون من عنقها، وما يعسرون من يسيرها، وما يفسدون من أحكام الفروض والنوافل والسنن، وما ينقلون من أحكام الأصول إلى الفروع، كأن من شرط إعفاء اللحية: بغض جميع الناس.
ولقد قرأت في الأعداد الأخيرة من مجلة (الدعوة) كلمة لأخينا في الله الشيخ محمد الغزالي السقا تهكما عنيفا على من يظنون أن حقيقة التدين في شعرات تعفى، وشعرات تحفى، واستشهد بقول المتنبي فيما هجا به كافورا ومن حوله:
أغايةُ الدين أن تحفوا شواربكم!؟ |
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!! |
وقد رأينا بأعيننا المرحوم الأستاذ الشيخ محمود خطاب السبكي (مؤسس الجمعية الشرعية)، ورأينا المرحوم الشيخ حامد الفقي (مؤسس أنصار السنة)، ورأينا المرحوم الشيخ رشيد رضا، ورأينا المرحوم الشيخ محمد زاهد الكوثري، ورأينا المرحوم الشيخ مصطفى صبري (آخر مشايخ الإسلام في تركيا لعهد الخلافة)، ورأينا غير واحد من شيوخ الأزهر المرموقين، كالمرحوم الشيخ الخضر الحسين؛ والمراغي، وعشرات لا تحصى من كبار العلماء وأهل الفضل، ورأينا صور من لم ندرك من الأشياخ كالمرحوم الشيخ سليم البشري، ومن قبله الشيخ محمد عبده، فلم نلاحظ أن واحدا منهم استأصل شاربه وأباده نهائيا بهذه الطريقة الحديثة، والتي نقول: إن الجمهور يسميها (مسخا) للسنة والفطرة.
بل يظهر أيضا أن التجديد وصل إلى تصفيف اللحية، فرأينا منها الآن الشكل (العماني) والشكل (الإيراني) والشكل (الهندي) والشكل (البترولي) والشكل (الصيني، والروسي، والأوربي) مما خرج بالموضوع عن المعنى الديني نهائيا.
عودة إلى ظاهرة إبادة الشوارب
ورد بالغ الأهمية
انتشرت هذه الظاهرة انتشارا ملفتا للنظر، فترى الشاب أو الرجل يفتح الله عليه، ويوفقه فيوفر لحيته ويعفيها، ثم يذهب فيستأصل شاربه ويبيده فيبدو للناس خلقا آخر، إن لم يكن كريهًا فهو على الأقل: لافت للنظر.
وكنت أشرت إلى هذا في بعض إجاباتي على أسئلة بعض الصحفيين، وقررت أن الإبادة والاستئصال بهذه الطريقة نوع من (المسخ) الذي لا يتلائم مع تقاليد الإسلام وجماله (ودعوته إلى التوسط والتجمل والتنسيق) فجاءني كتاب من ولدي السيد: الدكتور «عز الدين طه الدالي» يطلب مزيد من التدليل أو الرجوع عن هذا الرأي.
فأقول: إنني لا أزال عند رأيي، وقد قال مالك والشافعي: (إحفاء الشارب مُثلةٌ) وعندهما أن المراد بالإحفاء أو الإنهاك في الحديث، هو أن يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة فلا يغطيها الشعر، وهذا هو القص، أي الأمر الوسط المفسر لواقع الحكم وحكمة التشريع.
والإسلام دين الوسطية بين الإفراط والتفريط.
وقال أشهب: سألت مالكا عمَّن يُحْفِي شاربه -يعني يستأصله- فقال: «أرى أن يوجع ضربا»، أي أن مالكا يرى هذا الفعل معصية تستوجب التعزير، فوق أنها عندها شنعة، ومسخ، وتشويه، وقبح لافت للنظر. «فصاحبه يبدو لا هو شيخ ولا هو صبي». وجاء عنهتأنه قال لمن يحلق شاربه: «هذه بدعة ظهرت في الناس». أي لمخالفتها للفطرة التي ميزت ظواهر الفرق بين الرجولة والأنوثة، دون تشويه، ولا مثلة، ولا شنعة ولا مسخ، ولا لفت نظر، والله تعالى سوى الإنسان وعدله وخلقه في أحسن تقويم.
وأخرج أحمد، والترمذي، والنسائي، وصححه- قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شاربه فَلَيْسَ مِنَّا». فهو صريح في أن المراد بالقص والإحفاء، والإنهاك، مجرد الأخذ من الشارب، أي تخفيف كثافة شعره، وهو الكم المشترك بين جميع الأحاديث الواردة في هذا الباب، وهو المناسب للذوق والانسجام.
ويظهر أنها عادة انفرد بها بعض أهل مصر من قديم وقد لامهم المتنبي في ميمته المشهورة التي وجهها إلى «كافور الأخشيد» يقول:
أغاية الدين أن تحفوا شورابكم |
* |
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم |
ولذلك قال محدث الصعيد الإمام ابن دقيق العيد: «لا أعلم أحدًا قال بقص الشارب من حيث هو» أي إبادته واستئصاله، فيكون أشبه شيء بالمسخ والمثلة!
والسادة الإمامية يمنعون ذلك منعًا باتًا.
وقد روى عامر بن الزبير، أن أمير المؤمنين عمر، كان إذا غضب فتل شاربه ونفخ، يعني فتل السبالين وهما طرفا الشارب ولا يتأتى ذلك مع استئصال الشارب وإبادته واستهلاكه، ومسخ صورة صاحبه وليس أحد أعرف بالسنة من الخلفاء الراشدين، فظهر أن استهلاك الشارب وإبادته مع إعفاء اللحية، إنما هو نوع من التبدع والغلواء في الدين بغير حق ولا برهان صحيح.
غفر الله لنا جميعا، وهدانا إلى ما يحب ويرضى، وهو الموفق والمستعان.
***
السؤال السابع
(س) ألا ترى أن في ترك أو إهمال توفير اللحى تعطيلا لبعض السنن!؟
الجواب: نعم، ولا أقول أبدا بالترك، ولكنها ليست من السنن الأصول - كما أسلفت- أعني السنن التي ترتبط بالعقيدة أو العبادة، فكم من سنن أخرى معطلة، لا يجرؤ على العمل بها أحد من هؤلاء، فمثلا كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم (قدح) يضعه تحت سريره ليتبول فيه وفي بعض كتب الشمائل: كانت له صلى الله عليه وسلم غدائر يعني ضفائر) !. وكان صلى الله عليه وسلم إذا أكل لعق أصابعه، أو ألعقها غيره.
وكان صلى الله عليه وسلم يكتحل بالإثمد، ويحث عليه.
وكان يضطجع في الفجر بين السنة والفريضة.
وكان، وكان – كما هو ثابت في كتب الشمائل والخصائص وهي سنن معطلة لا يعمل بها منهم أحد.
والملاحظ أن إخواننا هؤلاء، ما شاءوا فعلوا، وما شاءوا تركوا، فما اختلط فعله: جعلوه من سنن العبادة، وإن لم يكن منها.
وما اختاروا تركه، جعلوه من سنن العادة، وإن لم يكن منها، حتى اختلط الأمر على العامة، فلا يميزون بين ما هو دين، وما هو دنيا، وما هو من سنن العادة، أو سنن العبادة.
ومثل هذا بالضبط: ما يجري في أمور البدع، فما شاءوا منها حرموا، وما شاءوا منها أحلوا، وليس لهم في هذا قانون مطرد، إنما هو حب المخالفة، والتنافس في الغلو والتطرف، والتفاني في إكراه الناس على الاقتداء بهم في محاولات الشذوذ والتفرد باسم السنة.
فإذا ضربت مثلا في البدع في جمع القرآن، ثم بإدراجه بين دفتين، ثم بنقط حروفه، ثم بتشكيل كلماته، ثم بترقيمه، ثم ببيان مدنيه ومكيه، مع أسماء سوره، ثم بتقسيمه إلى أجزاء وأحزب وأرباع، ثم بالإشارة إلى أنواع وقوفه، وإلى مكان سجود التلاوة منه، إلى آخر هذه المبتدعات الإيجابية الأصيلة في صميم كتاب الله، وهو أصل الإسلام ودستوره الخالد ثم إذا ذكرت: كيف تحرَّج أبو بكر من مجرد جمع القرآن، وعدَّه بدعة ثم أجازه بعد إلحاح عمرا.
لو عرضت هذا التاريخ في مواطن الكلام على البدع لذهبوا بك المذاهب، وربما عدوه من «المصالح المرسلة»، ومن ذا الذي «ابتدع» لفظ المصالح المرسلة؟ ومن ذا الذي وضع قوانينها؟ إنهم الناس، فكيف يدافع عن البدعة بالبدعة!؟
وهذا هو «الميكروفون» أدخل على الصلوات كلها، وعلى خطب الجمعة، ودروس الوعظ، وتلاوة القرآن إلخ، فكيف جاز هذا، وهو بدعة؟
فالأمر عميق فسيح متشعَّب! نسأل الله السلامة، ولا علاج إلا بسماحة الإسلام ويسره ورفقه والتنزه من وباء دعوى احتكار الصواب، وقذف جمهور المسلمين المخلصين بالجهل والخروج من دين اللّه.
***
السؤال الثامن
(س) لي سؤال فقهي أخير، وهو: أنني أرى في مسجدكم هذا محرابا ويقولون: إن المحاريب محرمة في الإسلام، فما رأيكم؟
الجواب: قبل الرد على هذا السؤال أحب أن أصحح خطأ شائعا، انبنى عليه خطأ آخر؛ فالخطـأ لا يُنْتِج إلا خطأ، وأخيرا لا يصح إلا الصحيح.
فليس ما ترى في مسجدنا، ولا في مساجد المسلمين كلها ما هو «المحراب» على صورته عند أهل الكتاب، إن ما ترى إنما هو علامة اتجاه القبلة، وهو ما تنطبق عليه قوانين «المصالح المرسلة» إن لم نقل أن لها أصلا من عمل رسول الله، بما كان يدل به على القبلة من العصا يغرسها أو الجذع الذي كان يخطب عليه. إلخ.
فليس هو محرابا أبدا، ويجب أن نسمي الأشياء بأسمائها، حتى لا نضل الصواب والثواب.
هذا أولا، أما ثانيًا: فلن أتعرض لمدى صحة أحاديث النهي عن المحاريب، أفرد لها السيوطي جزءا، ورد عليه علماء من آخرهم الشيخ الصديق الغماري ردا علميًا محكمًا.
لكنني سأفترض صحة الحديث جدلا، وأعود بك إلى نصوص القرآن المجيد لنرى، إن كان ما تراه في مساجدنا محرابا فعليا، ينطبق عليه النهي – على فرض صحة الأحاديث وعدم تأويلها – بعيدًا عن خلاف الفقهاء فيه.
المحراب في القرآن، وعند أهل الكتاب، شيء يدخل الناس فيه، فيؤويهم ويرد العيون عنهم، وفيه يتعبدون، وهو يتسع لأكثر من شخص، مع حاجياته، وهو يستر من فيه عن أعين الناس، وهو شيء يخرج الإنسان من داخله ليتحدث إلى الناس في خارجه، وهو شيء مسور مرتفع إلخ، كما ستوضحه النصوص القرآنية المحكمة فيما يأتي: فالله تعالى يقول عن مريم: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ [آل عمران: 37] فالمحراب هنا شيء يدخل الناس فيه، ليصلوا أو يتصلوا بمن فيه وما فيه.
والله تعالى يقول عن زكريا: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ﴾ [مريم:11] «فالمحراب هنا شيء يخرج من في داخله إلى من هم في خارجه ليتحدث إليهم».
ويقول الله تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ﴾[ص:21]. فهو شيء مرتفع الجدران «يقفز» الناس من فوق سوره ليصلوا إلى داخله، ومن هنا كان فزع داود، عندما لم يدخلوا عليه المحراب من بابه، كما في سورة «ص».
ويقول الله تعالى عن زكريا أيضا: ﴿فَنَادَتْهُ المَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ﴾[آل عمران:29]. فهو شيء يقوم القائم في داخله للصلاة والتعبد.
فهل هذه الصورة القرآنية المفصلة للمحراب، تتحقق بأي شكل في«القبلة» التي اتخذها المسلمون للدلالة على اتجاه الكعبة الشريفة، مما يستفيد منه الخاص والعام؟ فهو من المصالح الضرورية التي لا ترفضها قواعد الإسلام العامة، وحسبك هذا في الرد على هذه «الجزئية» التي جعلوها «كلةً» وأطلقوا الاسم على غير مسماه، ولا ضرر فيها ولا ضرار.
على أن بعض الأئمة – كابن الهمام – يرى أنه كان لمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في عهد رسول صلى الله عليه وسلم محراب: أخذًا من حديث (وائل بن حجر – بضم الحاء وسكون الجيم – عند البيهقي، وفيه: «فدَخَلَ الْمِحْرَابَ» قالوا: وهو أحق بالتعويل من حديث عبد المهيمن بن عباس الذي ينفي وجود المحراب في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه هو نفسه -روى عند الطبراني- من حديث سهل بن سعد ت، وفيه «فلما بني له محراب: تقدم إليه». فلعله أراد بحديث النفي، كونها على خصوص صورة محاريب أهل الكتاب.
وبيان هذا البحث يرجع فيه إلى تعليق الشيخ الغماري على رسالة السيوطي، وإلى كتاب الشيخ عمر بن عبد الوهاب الجندي، وإلى كلمة الشيخ الكوثري، فهي نص في هذا الموضوع وإن كان ما قلته فيه الكفاية.
أما أنها نوع من التشييد والزخرفة، فقد جدد عثمان ا مسجد رسول الله وبناه «بالحجر الملون» وسقفه «بخشب الساج»، وجاء عمر بن عبد العزيز – على علمه وتقواه وورعه – فزاد في المسجد وجدده وزينه بالرخام والفسيفساء (عام87هـ) والتابعون موجودون، بل وبعض الصحابة، مما جعل لهذا الموضوع مفهوما إسلاميا عمليا، لا يختلف عليه عاقل؛ فالممنوع من الزخرفة هو: ما يشغل الإنسان، ويلهيه عن صلاته، وهذا يختلف باختلاف الأعصار والأمصار، وحضارة المجتمع.
فهل رأيت كيف أنَّ أكثر ما يُثار من هذه الجوانب، زوبعة في فنجان، بل في «كستبان»، وأنه نفخ في الرماد، لا يعقب إلا التشويه.. والعمى، والتيه، والضياع.
وإخواننا هؤلاء، يظنون أنهم وحدهم أهل العلم، وأهل الجنة، وأن الله أعطاهم حق التصرف فيها، والوصاية عليها من دون البشر، ومن لم يكن منهم من المسلمين: فالنار مأواه، مع المجوس والصابئة ولا قوة إلا بالله.
صلى الله عليه وسلم، والقرآن ينزل فيهم، وهم (المنافقون)، فهل معنى هذا أن جميع الصحابة كانوا منحرفين، لوجود المنحرفين فيهم؟
إن المنحرفين موجودون (وسيظلون) في كل طائفة إلى يوم القيامة، وهذه طبيعة التجمعات البشرية، ومنها تجمعات المتمسلفة: مَن سبق، ومَن لحق.
***
السؤال العاشر
(س) هل زيارة القبور وثنيةٌ صوفية!؟
الجواب: كيف وقد أمرنا بزيارتها، وزارها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والأمة كلها من بعده، وأجاز صلى الله عليه وسلم للنساء زيارة القبور بشروطها، بل وقد جاء القرآن بزيارة قبور الصالحين؛ فإن الله عندما أنزل قوله تعالى:﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ -أي: من المنافقين- ﴿مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾ [التوبة:84]. كان معنى هذا أن يقوم الرسول على قبور الصالحين، وقد فعل حتى مع المرأة التي كانت تَقُمُّ المسجد.
والممنوع شد الرحال إلى المساجد، لا إلى القبور، وفَرْقٌ كبير بين المساجد والقبور، فتأمل بعمق على أنه مما ثبت عن عمرا أنه قال: «لو أن مسجد قباء في طرف الدنيا لشددنا إليه الرحال»، مما يؤكد أن حديث شد الرحال: ليس على إطلاقه.
وراجع ما كتبناه مفصلا في شرح هذا الحديث الهام، ففيه الجديد المفيد.
***
السؤال الحادي عشر
س: هل رسالة «المجموعة المباركة»، طافحة بالأحاديث الكاذبة؟
الجواب: نعم، وهي من وضع أعداء الإسلام عموما، وأعداء التصوف خصوصا، لأغراض في غاية العمق والسواد، ثم إن الاسم الرمزي الخرافي، الذي جعلوه لمؤلف هذا الكتاب، لا ذكر له في تاريخ الإسلام، ثم إنه لم يذكر في هذا الكتاب، كلمة واحدة عن التصوف، فكيف يحاسب الصوفية عليه!؟
***
السؤال الثاني عشر
س: هل اتخاذ الشيخ وساطة شركية؟
الجواب: هذا كذب على العلم، وعلى الإسلام. نعم إمامُ الكل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن لماذا نتخذ الإمام في الصلاة؟
ولماذا نذهب إلى الخبراء فيما لا علم لنا به؟
ولماذا نزل جبريل بالوحي على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الله قادرًا أن يلهمه إياه إلهاما؟
ولماذا أمرنا الله بالقدوة، والأسوة في القرآن؟
وكيف والله يقول:﴿الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان:59]. ويقول تعالى للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾[الأنعام:90]؟
لابد لكل علم من معلم.
من شك في ذلك خالف الواقع، والحس، والمعنى، والمعقول، والمنقول.
أتعرف: القراءة، والكتابة، وعلوم الرياضة، والطب والفلك من غير معلم؟.
أتعرف أن تقرأ القرآن دون مُوقِّف عليم؟
أتعرف أن تتعلم لغة قوم دون خبير بصير؟
أليس في ذهاب موسى إلى الخضر أكبر دليل!؟
أليس الله يقول: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء:7].
إذن هل هناك مهنة أو حرفة في الدنيا تنال من غير ممارس مجرب، فاتخاذ الشيخ: عمل لابد منه للسالك إلى الله، حتى لا يتخذ إلهه هواه.
***
السؤال الثالث عشر
س: هل استحضار الشيخ عند الورد شرك؟
الجواب: هل لو شعر الإنسان قلبيًا، بأن عليه حافظين، كرامًا كاتبين في كل لحظة، يكون قد أشرك؟!
وهل ما يخطر على بال العبد من صور الملائكة والجن والعرش والتماثيل، والأشخاص وغيرها في الصلاة ومختلف العبادات يعتبر شركًا خصوصًا إذا جاء ذكرها فيما يتلوه من القرآن؟!
الأصل: أن المريد يبدأ دخول الحضرة الإلهية، بتصور من كان سببًا في صلته بالله، وفاء له، وتبركًا به، ثم هو يَفْنَى بعد هذا من ذهنه وتصوره بمجرد اندماجه في الذكر، فهو نوع من الاستصحاب الروحي المؤقت، لطرد الشيطان والخواطر الصارفة، استعدادًا للقيام بحق الله، والاستغراق في أنواره، وهو ليس من الشروط الأكيدة في السلوك، ولكنه نوع من العلاج، ووسائل التصفية والتنقية، وطرد الشيطان، وبخاصة للمبتدئين.
فلا شِرْكَ، ولا خوف من شرك، بل هو التوحيد كل التوحيد.
***
السؤال الرابع عشر
س: هل الناس متساوون عند الله؟
ولماذا جعل الصوفية لرجالهم رتبًا خاصة!؟
الجواب: نعم يتساوون في الحقوق والواجبات الإلهية، ولكنهم يتفاوتون في الأعمال، ولكن: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾[الأنعام:132]. ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾[الزُّخرف:32]. وليس إيمان أبي بكر كإيمان قاتل في سجن طره ﴿هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ﴾؟ [الأنعام: 50]. و﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[سورة الزُّمر:9]. ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾[سورة الحديد:10]. ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُوم﴾ [سورة الصَّفات:164]. ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله﴾[ سورة آل عمران:163]. ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ [سورة الأنعام:165]. ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجَّارِ﴾!؟ [سورة ص:28].
ومن هنا كانت «الولاية» مراتب: طبعا وشرعًا: «وما زاد الصوفية إلا أنهم وضعوا لهذه المراتب أسماء للتعريف والتمييز» وأنت حر في أن تأخذ أو تدع، ولكل طائفة اصطلاح، وهذا اصطلاحهم الخاص، لا يُجْبرون أحدًا عليه.
***
السؤال الخامس عشر
«س» كيف تجول الأراوح في السماء، وجبريل كان يستفتح ومعه النبي صلى الله عليه وسلم؟! وما هو معنى الكشف الروحي؟
الجواب: كان استفتاح جبريل من أجل أن معه الرسول صلى الله عليه وسلم الذي عرج بجسده وروحه، والجسد شيء غريب على السماء؛ فلا بد من الاستئذان له، وإلا فالروح سماوية الأصل، ووطنها الأول والأخير: السماء وبرزخ الأرواح الذي ذكره القرآن جزء من السماء([10]).
وللروح إدراكات كبرى إذا خلصت من شوائب الظلمانية والجسدية والطينية، وذلك ما يسمونه: الكشف والشهود، وفي الحديث «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ»([11]) ونور الله لا يُحَدّ، وفي القرآن ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾[سورة الأنفال:29]. وفيه: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾[سورة التغابن:11]. وفيه ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾[سورة الأنبياء:79]. فتدبر وتعمق فيما وراء الألفاظ. غير أنه من المفيد أن تعرف أن الصوفية يريدون بالكشف: «خصوص المحسوسات»، ويريدون بالشهود: «خصوص المساتير والغيبيات» ولكل مقام رجال.
***
السؤال السادس عشر
«س» هل احترام المريد لشيخه وثنية؟
الجواب: كيف هذا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:«لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرَفْ لِعَالِمِنَا حقه»([12]) وأدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم هو أدب المريدين مع الأشياخ، وقد أمر الله الأنبياء بتعظيم الآباء، وأمر المأموم أن يتأخر عن الإمام، فهل هذه وثنية؟ وكانوا يقبلون يد الرسول صلى الله عليه وسلم، ورجله (تأمل) كما هو ثابت في الأحاديث الصحيحة، وكانوا يحملون عنه حذاءه ورداءه، ولا يتقدمون عليه، ولا يقدمون بين يديه، ويتبركون بآثاره (راجع الشمائل والخصائص) وآداب الصحابة، وليس في ذلك خصوصية؛ فالأدب علم، والتصوف أدب مع الله ومع الناس.
وهل جاء نص بعدم احترام الأشياخ أو الأولياء؟
وهل كان سجود إخوة يوسف ليوسف عبادة؟ أم كان احترامًا جاز في شريعتهم؟.
فاحترم التابع للمتبوع، والصغير للكبير: أصل إسلامي توحيدي لا خلاف عليه، وإلا كان نفس الأدب، وحسن الأخلاق شركا -ألم تقرأ كيف كان أدب موسى مع الخضر عليهما الصلاة والسلام، وكيف كان فتى موسى (يوشع) يحمل عن موسى متاعه، وكيف أمرنا الإسلام باتخاذ «الأمير» وطاعته، مهما قلَّ العدد.
صح أن اثنين من كبار الصحابة خرجا معًا إلى مكان ما، فقال أحدهما للآخر: «إما أن تكون أميري، أو أكون أميرك».
قال: بل كن أميري.
قال: «فاحمل عني بردتي ومتاعي».
شيئا من التفكير يرحمك الله، لكن إذا انحرف الاحترام إلى التقديس: فشيء مرفوض: قولًا وحدّا!!
***
السؤال السابع عشر
«س» لماذا لا يكون للمريد إلا شيخ واحد؟
الجواب: هم لا يمنعون أن يتردد المريد على أي إنسان للتزود بالثقافة والعلم، ولكنهم يمنعون أن يجمع المريد بين عدة وسائل للسلوك؛ فإنه لا يجوز للمأموم أن يأتم إلا بواحد في الفرض الواحد، ولا يجوز للمريض أن يتناول أدوية عدد من الأطباء في وقت واحد، والتربية شيء غير العلم؛ فالعلم: مطالب تأتلف، والسلوك مشارب تختلف، فهو أبوة روحيًا، ولا يمكن أن يكون للإنسان إلا أب واحد، وحب الأب لا يمنع حب الأعمام والأخوال وتوقيرهم.
فإذا توفي الشيخ قبل نضوج المريد، جاز للمريد أن يتخذ من يتم به رحلته، وإذا ثبت أن الشيخ جاهل، أو منحرف، تعين أن يبحث المريد عن سواه. فإذا تم للمريد مقامه، جاز أن يتلقى للتبرك عن عدد من الأشياخ، دون أن يدع طريقه الأصيل الذي كان سبب الفتح بحال من الأحوال؛ كشأن كبار الرجال، سلفا وخلفًا، وكما هو مسجل في «أثباتهم» وإجازتهم.
***
السؤال الثامن عشر
«س» ما الفرق بين الاعتراض على الشيخ، والاستفسار، أو الاستفتاء؟
الجواب: اعتراض المريد على الشيخ: علامة نقص الثقة، وفقدان المحبة إذا كان الشيخ مستكملا لشروط الداعية المربِّي.
وهناك فرق بين أن يستفسر المريد، وأن يستفهم – والاستفهام حقُّه الطبيعي المتعين – وبين أن يتعالم ويعترض وينكر بلا هدى ولا خلق، وهذا ما لا يستقيم مع أدب التربية والسلوك والتلقي وحقوق الأبوة الروحية.
المعترض: منكر، والمنكر مُتَحَدّ، فلا ثقة له في شيخه. وبهذا فسدت تبعيته، كما تفسد مأموية المأموم إذا فقد الثقة في طهارة إمامه، والعكس غير صحيح.
وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يستفتون الرسول صلى الله عليه وسلم ويستفهمون.
والمريد إما على قدم أبي بكر، مع الرسول صلى الله عليه وسلم - وهو قدم إسماعيل مع أبيه – أي: ثقة، وتصديق، وتسليم مطلق، وإما على قدم عمر؛ إيمان وثقة وحب للمعرفة بالسؤال المهذب، وكلاهما على خير.
أما الصنف الثالث، فلا خير فيه، ولا أثر لسيره وسلوكه، بل هو سير وسلوك عكسي هابط.
ولدينا مثل عملي ساقه القرآن في صحبة موسى للعبد الصالح عليهما سلام الله، أي أدب في الطلب، تأمل قوله: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾[الكهف:66]. ولقد أنكر موسى أشياء، ولكن بأدب، ثم رجع يسترضي معلمه معتذرا، وهذه أدنى مراتب الصحبة في الله.
أما الاعتراض، والتعالم والإنكار بلا تحقيق، فمقام إبليس من رب العالمين، ومن أقوالهم: «من سُلب الثقةَ في شيخه، سُلب المددَ من ربه».
***
السؤال التاسع عشر
«س» هل تأذن لي بسؤال آخر في الفقه أيضا؟ سمعتكم هنا تجهرون بالبسملة في قراءة الفاتحة، وقد رأيت بعضكم يمنعها بعنف شديد، وبعضكم على العكس؟؟
الجواب: الجهر أو الإسرار بالبسملة من مسائل الفروع المختلف فيها، وعلامَ العنف والشدة! وقد نقل الإمام الشوكاني في «نيل الأوطار» إجماع الأمة على عدم تأثيم من أثبتها، ولا من نفاها، فلكل منهما دليله، وكلاهما على صواب؟!.
ويقول الإمام الحازمي في نصب الراية: من فعلها أو تركها فقد أتى بالسنة.
قلنا: وذلك لكثرة أحاديث النفي والإثبات، ومعنى هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها مرة، ويسر بها مرة أخرى، وهو اختيار الشيخ خطاب في «الدين الخالص» واختيار كثير من السلف، وهو ما يجب ترجيحه والأخذ به.
وعندنا أن الإثبات أحوط، ودليله أقوى وأصح، ويؤتى بها للخروج من الخلاف عند أهل الفقه، كما هو مقرر في علم الأصول، وإليك بعض التفاصيل:
فقد روى أحمد والنسائي بسند صحيح، عن أنس أنهم كانوا لا يجهرون بالبسملة (ومعناها أنهم كانوا يسرون بها) فقد كان أنس يصلي قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعه يسر بها على غير حديث عبد الله بن مغفل فإنه كان يصلي في الصفوف الأخرى، فلا يسمع ما يسمع أنس، ولهذا نفى الإتيان بالبسملة، وأخذ بقوله المالكية في الفرض فقطـ، وخيروا المصلي في النافلة أن يأتي بها، أو يدع (وهنا نظر).
ولكن الأحناف قالوا: يسر بالبسملة في السرية والجهرية، وأما مذهب الشافعية والحنابلة وأبي ثور، وأبي عبيد، فهو الجهر بالبسملة وجوبا في أول الفاتحة، وهو مذهب الليث، وإسحاق، وابن المبارك، وأحمد – في إحدى روايته – لما أخرجه الطبراني في الأوسط بسند رجاله ثقات عنه صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله سبع آيات (أي سورة الحمد لله) إحداهن بسم الله الرحمن الرحيم».
وأخرج الدارقطني بسند رجاله ثقات، عنه صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأتم الحمد لله (أي سورة الحمد لله) فاقرءوا بـ «بسم الله الرحمن الرحيم».
وفي حديث صححه الحاكم والذهبي: أن سعيد بن جبير سأل ابن عباس: «هل البسملة آية من الفاتحة؟ قال: نعم».
وأخرج الدارقطني أنه صلى الله عليه وسلم: كان يجهر بـ «بسم الله الرحمن الرحيم».
وعند بعضهم أنها آية مستقلة، يستفتح بها في كل سورة (عدا التوبة).
ورأى الشافعية أن البسملة آية من كل سورة، وهو قول ابن عباس، وابن الزبير، وابن عمر، وابن المبارك، الذي يقول: « من ترك البسملة «أي في تلاوة القرآن» فقد ترك مائة وثلاثة عشر آية».
قلنا: وهي ثابتة بالتواتر، وإثبات الصحابة لها في المصحف أعظم دليل على أنها آية من كل سورة، أو قبل كل سورة، ويؤيده حديث مسلم وأبي داود، عنه صلى الله عليه وسلم «أنزلت علي آنفا سورة»، فقرأ: إنا أعطيناك الكوثر مبتدءًا ببسم الله الرحمن الرحيم. وبهذا أخذ أمثال: قالون والكسائي، وابن كثير، وعاصم من أصحاب القراءات.
وقد نقل الفخر الرازي في تفسيره أن علي بن أبي طالب كان يجهر بالبسملة في جميع الصلوات، قال: (ومن اقتدى بعلي فقد اهتدى).
وأخرج الحاكم، الذهبي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف ختم السورة، وبداية الأخرى حتى تنزل (بسم الله الرحمن الرحيم).
وحسبك قوله صلى الله عليه وسلم: «كل أمر ذي بال (أهمية) لا يبدأ فيه بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) فهو أبتر، أو أقطع، أو أجذم». (روايات)([13]).
وهل هناك أمر ذي بال أهم من تلاوة القرآن، وبخاصة في الصلاة؟
إن الكلام في هذا الجانب طويل، وفي حاجة إلى تفصيل أكثر وتنظير، ويكفي أن تعرف أن الإثبات والنفي كلاهما جائز، ولكن الإثبات أكد وأقوى وأحوط وأرضى، كما بيناه آنفا، فلا داعي للعنف والتأثيم، إذا تطهرنا من أوضار التعصب.
***
السؤال العشرون
«س» سؤال آخر: ما رأيكم في المسح أعلى العمامة والقلنسوة؟!
الجواب: المسح على العمامة وحدها، أو مع الناصية: أجازه ابن حنبل، وأبو ثور، والأوزاعي، والثوري، والقاسم بن محمد، وغيرهم: أخذوا بحديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح ناصيته مع العمامة.
وفي بعض الروايات: «مسح على العمامة وحدها»، ثم ماثلوا ذلك بالمسح على الخفين.
وخالفهم في ذلك – قائلا بعدم الجواز:- أبو حنيفة، والشافعي، ومالك.
والرأي: أنه لا يصار إلى ذلك إلا عند الضرورة؛ فالمسح على العمامة «ومثلها القلنسوة والطربوش» رخصه لا تفيد معنى الالتزام ولا الاستمرار – فيما نرجح – وإنما هي للضرورة، والله أعلم.
***
السؤال الحادي والعشرون
«س» رأيتكم تختمون الصلاة سرا مرة وجهرا مرة أخرى في المغرب والعشاء، فما رأيكم في هذا وقد منع بعضكم الختام الجهري؟
الجواب: نرى أن هذا وهذا جائز، كل في موضعه.
أما الجهر، فقد أخرج السبعة «وماذا تريد بعد السبعة الصحاح» عن ابن عباس «أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة، كان على عهد النبيصلى الله عليه وسلم». كذلك أخرج أحمد ومسلم، والشافعي، وآخرون، عن ابن الزبيرا: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته يقول بصوته الأعلى (لاحظ قوله صوته الأعلى): «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون». مع خلاف يسير في ألفاظ الروايات، كما صح في حديث أبي داود أنهم كانوا يعرفون الفراغ من الصلاة بما يسمعون من الذكر في المسجد.
فهذه الأحاديث واضحة صريحة في جواز رفع الصوت بختام الصلاة، وأنه هو السنة.
وأما القول بالمخافتة: فهو اجتهاد واستحسان، كما قال الشافعي في «الأم»: «اختار للإمام والمأموم أن يذكرا الله بعد الانصراف من الصلاة ويخفيان الذكر..» إلخ، فالإسرار عنده اختيار شخصي، ويفسره قول النووي: قال أصحابنا «إن الذكر والدعاء بعد الصلاة يستحب أن يُسَرَّ بهما» فهو مجرد استحباب واختيار: أي اجتهاد خاص؛ لعدم ورود النص المحكم بالنهي عن رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة تحديدًا، بل الجهر هو السنة الصريحة كما رأيت، ولم يقع لنا أن إماما من الأربعة حكم بأن هذا حرام صريح، أو منسوخ بنص محكم، والنص لا يُنسَخ بالاجتهاد.
أما القول بالتشويش على المصلين ونحوهم، فإننا نرى الواعظ والمدرس يرفع صوته بالقول في المسجد بين الصلوات، وفي حضور المصلين، ولا ينكر أحد عليه أو يمنعه، فإذا جاز هذا هنا، فقد جاز هذا هناك، لوحدة الحكم والسبب.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث بأمور الدين في المسجد، ويعلم الناس، ويحفظهم القرآن، فيتلوه ويتلون بعده، حتى يحفظوه كما كان يقضي في الخصومات، ويجهز السرايا والبعوث، ويوصيهم، ويستشير أصحابه، ويعقد أولوية الغزو، ويعقد الزواج بالمسجد، وكان يقابل الوفود بقضها وقضيضها، ويستمع لخطبائها، ويرد عليهم: جهرًا بالمسجد، والناس تصلي بين يديه!!
وقد كان صلى الله عليه وسلم يستمع للشعراء في المسجد ويجيزهم، وكان لشاعره حسان بن ثابت منبر في المسجد يرقى عليه ويلقي قصائده بأعلى صوته إلخ.. إلخ.
أما القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجهر ليعلم الناس، ثم عدل عن الجهر فقول لم يقم عليه دليل علمي حاسم.
ومع هذا فنحن نلاحظ الظروف والمناسبات، فنجهر حين نرى في الجهر إحياء للسنة وتعليمًا للناس، وتشجيعًا لهم، ونسر حين نرى في السر خيرًا لابد منه.
ثم متابعة لمن اختار الإسرار، فلا اعتراض على جهر من جهر، ولا على إسرار من أسر؛ فلكل طرف منهما دليله ومناسبته.
ومن الإسلام وضعُ كُلِّ شيء في محله، ونبذ التعصب المقيت، ودعاوي احتكار الصواب، والوصاية على الدين، وتأثيم أهل القبلة وتجريمهم بلا كتاب صريح، ولا سنة صحيحة، ولا اجتهاد مستنير، والله المستعان.
نقول هذا، ولا ندَّعي العصمة، ولا احتكار الصواب ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء:82] ونستغفر الله ونتوب إليه.
([1]) جاء في تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى جـ4 ص3.6 طبع الحلبي ما نصه: «عن أنس قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها!!». فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي عليه السلام فقال: «دَعُوا لِي أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقْتُمْ مِثْلَ أُحُدٍ أَوْ مِثْلَ الْجِبَالِ ذَهَبُا مَا بَلَغْتُمْ أَعْمَالَهُمْ». ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد الموجه بهذا الخطاب كان يوم صلح الحديبية وفتح مكة، وكانت هذه المشاجرة بينهما في بني جذيمة الذين بعث إليهم رسول الله ع خالد بن الوليد بعد الفتح فجعلوا يقولون:«صبأنا صبأنا». فلم يحسنوا أن يقولوا: «أسلمنا». فأمر خالد بقتلهم وقتل من أسر منهم فخالفه عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر وغيرهما فاختصم خالد وعبد الرحمن بسبب ذلك» اهـ. وقال رسول الله عليه السلام- فما رواه الطبراني- : «لن يخرج أحد من الإيمان إلا بجحود ما دخل فيه».
([2]) لقولهع: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» (رواه ابن عدي في جزء له، وابن أبي شيبة والترمذي والحاكم، والبيهقي، والدارقطني، وأبو مسلم الكجي، وابن السمعاني).
([3]) قال رسول الله عليه السلام: «كفوا عن أهل لا إله إلا الله، لا تكفروهم بذنب؛ فمن أكفر أهل لا إله إلا الله، فهو إلى الكفر أقرب». (رواه الطبراني).
([4]) قال في القاموس: «وأندى...أو حَسُنَ صوته». «...وهو ندى الصوت – كغنى – : بعيده». اهـ.
وقد جمع سيدنا بلال س بينهما: كان جميل الصوت رفيعه.
وقال الشاعر:
وقلتُ ادعى وأدعو إن أندى |
* | الصوت أن ينادي دعيان |
أي أعلى وأرفع، وأشد إسماعًا لمن يناديه.
([5]) بسكون الياء فيهما، وليس بالتشديد، راجع في ذلك مختار الصحاح، وذلك معناه أن فيه القوة ولكنه يستعمل اللين والرفق، وأما بالتشديد فمعناه: الضعيف، أو باللفظ البلدي (الخرع).
([6]) وورد أن رسول الله ع قال: «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عليه مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ». رواه البخاري في الأدب وأبو داود.
([8]) ومن ألفاظه «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» رواه مسلم.
([9]) وفي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا».