خطاب صوفي جامع([1])
يا ولدي:
سألتني عن التصوف الحق، وها أنذا – بإذن الله – أكتب إليك شيئًا مما يحضرني من «هوامشه» وأوجِّهك إلى بعض آفاق مشارفه، لتتعرف على بعض حقائقه فأنقل إليك بعض ما قال رجاله، وفي بعض ما بلغني إليه حاله، وما كان من فيض الحق جل جلاله. وقد يفوتني التنسيق والتزويق، ولكنني أسأل الله ألا يفوتني التحقيق والتوفيق.
«اللهم إني أعوذ بك أن أتكلف ما لا أحسن، أو أقول ما لا أعلم، أو أماري في حق أعتقده، أو أجادل عن باطل أنتقده أو أتخذ العلم صناعة، أو الدين بضاعة، أو أطلب الدنيا بنسيان رب الدنيا، أو أعمل للآخرة رياء وزورا».
يا ولدي: قالوا: التصوف العلمي: تجربة تصل بك إلى التذوق والصفاء والمشاهدة والوصول إلى سر الذات، والخلافة على الأرض، وسبيله: العلم والعبادة، فلا يغني عنك فيها سواك؛ فإنه لا يمكن أن يتذوق لك منها غيرك، كما لا يمكن أن ترى بعين رجل آخر.
فهل تستطيع أن تعرف طعم «التفاح مثلا» دون أن تمضغه بالفعل؟
وهل يكفي أن تنظر إلى العسل، أو أن تعرف مكوناته لتتمتع بحلاوته، دون أن يحتويه الفم أو يعركه اللسان؟
وهل يمكن أن يتحقق الشبع، أو ينطفئ العطش بالتصور والخيال دون تناول الطعام والشراب، فعلا وواقعًا!؟ طبعا: لا.
وكذلك لا يغني في هذه التجربة مجرد العلم. ولا توصل إليها دروب الفلسفة؛ فالعلم والفلسفة أعمال عقلية، وهذه التجربة من الأعمال القلبية الوجدانية، وشتان ما بينهما، غير أن التعبيرات الصوفية، إذا عولجت بالإحساس والتعمق، والمعاناة والتذوق، كانت قادرة على تغيير الباطن الذي به يتغير الظاهر، فيولَدُ الإنسان ولادة جديدة، كلها إشراق وحب وبركة وإنتاج «هكذا قال الشيوخ»!
أما مجرد قراءة كتب التصوف بلا معاناة، فهذه متعة ذهنية وثقافة عقلية، وقد تشارك فيها النفس الأمارة بالسوء، فتكون طريقا إلى الضلالة طردًا أو عكسًا.
أما المنح الروحية، والإشراقات القلبية فهي نتيجة الجهود والأعمال؛ فالصوفية أرباب أحوال، لا أصحاب أقوال، ولم ينل المشاهدة من ترك المجاهدة.
يا ولدي: إن التصوف خدمة تتكيف بحاجة كل عصر، وكل إنسان، وكل وطن فهي تجسيد شامل لعملية الاستخلاف على الأرض ثم إن الهداية أيضا: جهد معاناة، والشيخ دليل فقط؛ فمن لم يسع لم يصل، ومن لم يلتمس المعارج، لا يتسامى ولا يترقى. ومن لم يتحرك لم ينتقل، ومن اعتمد على ما عنده وحده اغتر، فتاه وضل.
وفي ذلك قول:
يقول: هل اتخاذُ الشيـ |
* | ـخِ محتومّ على القاصد ؟ |
فقلت وهل تَرَبّي قَـ |
* | ـط مولودٌ بلا والد؟ |
وهل: يُتْمُ اليتيم كفا |
* | هُ فاستغنى عن الرافد ؟؟ |
وهل أبصرت مكفو |
* | فًا ولا يحتاج للقائد |
وهل علمٌ، وهل فَـ |
* | ـن بغير المرشد الراشد |
وكيف يسير في الصحـ |
* | ـرا غريبّ؟ أعزل وافد؟ |
وبابُ الله مفتوح |
* | ولكن من هو الرائد؟ |
تأمل ما أتى «موسى» |
* | وقصته مع العابد |
تأمل بعثةَ«الهاد |
* | ى» فيها الشاهد الخالد |
يا ولدي: إن نسبك إلى الله: أصح من نسبك إلى أبيك. ثم إنه من استأذن على الله أذن له، ومن قرع بابه تعالى أدخله، ونحن إنما نشير إلى الحقيقة ونبين السبيل، وندع المريد الصادق ليصل إلى غاية الطريق بجهده، فليس شيخك من سمعت منه، ولكن شيخك من أخذت عنه، ومن جاهد: عدل، ومن اجتهد: وصل.
يا ولدي: الشريعة جاءت بتكليف الخلق، والحقيقة جاءت بتعريف الحق.
فالشريعة أن تعبده، والطريقة أن تقصده والحقيقة أن تشهده. ثم إن الشريعة قيام بما أمر به وبصر، والحقيقة شهود لما قضى وقدر.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشريعة أقواله والطريقة أفعاله، والحقيقة أحواله.
فشريعة بلا حقيقة: عاطلة، وحقيقة بلا شريعة: باطلة، ولهذا قالوا:
«من تشرع ولم يتحقق فقد تعوق، أو تفسق، ومن تحقق ولم يتشرع فقد تهرطق، أو تزندق».
واعلم يا ولدي أن الشريعة ليست إلا الحقيقة، والحقيقة ليست إلا الشريعة، فهما شيء واحد، لا يتم أحد جزءيه إلا بالآخر، وقد جمع الحق تعالى بينهما، فمحال أن يفرق إنسان ما جمع الله.
ثم تأمل يا ولدي قولك «لا إله إلا الله» هذه حقيقة، «محمد رسول الله» هذه شريعة.
فلو فرق بينهما أحد هلك، فإن من رد الحقيقة: أشرك، ومن رد الشريعة: ألحد([2]).
ثم تأمل قوله تعالى «إياك نعبد» تجد الشريعة، «وإياك نستعين» تجد الحقيقة، هما شيء واحد يستحيل طرح أحد جزءيه. عبادة العبد: ظاهر الأمر، وإعانة الله: باطنة، ولابد لكل ظاهر من باطن كالروح في الجسد، والماء في العود.
الحقيقة من الشريعة، كالثمرة من الشجرة والأريج من الزهرة، والحرارة من الجمرة، فلابد من هذه لتلك، فاستحال قيام حقيقة بغير شريعة.
يا ولدي: انظر بعين عقلك وقلبك إلى هذا الدعاء، الذي يناجي به أحد العارفين من أشياخنا ربه فيقول:
«إلهي: إذا طلبت منك الدنيا فقد طلبت غيرك([3]) ، وإذا سألتك ما ضمنت لي، فقد اتهمتك([4]) وإن سكن قلبي إلى غيرك فقد أشركت بك([5])»!!
جلت أوصافك عن الحدوث، فكيف أكون معك؟([6]) تنزهت ذاتك عن العلل، فكيف أكون قريبًا بذاتي منك؟! وتعاليت عن الأغيار، فكيف يكون قوامي بغيرك» ؟!
إنه كلام كأنه صدى من روح القدس، وكأنما اقتبسه الشيخ من ألحان الذين يحملون العرش، ومن حوله، ومن تسابيح الأرواح المهيمة بآفاق الملأ الأعلى، كلام فيه رائحة مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقباس من أضواء سدرة المنتهى، وملامح من صدى الحقيقة والشريعة.
إن التصوف – عندنا – هو «علم المعرفة»، فهو تصحيح الإسلام وتحقيق الإيمان، وتأكيد الإحسان([7]).
ومن هنا كان واجبا: لا يمكن تحصيله، بمجرد القراءة، ويبدو ذلك واضحًا في هؤلاء الذين يدرسون التصوف علمًا، ولا يمارسونه عملا!!
وهم يحملون أعلى الألقاب العلمية، وكان يسميهم والدي «عربات النقل البشرية» أو «سعاة بريد المعرفة». إنما التصوف رفع الأستار عن أسرار الكونيات، لإدراك أنوار شموس الحقائق، فلابد – مع العلم – من المعاناة والممارسة.
والتصوف: التقوى، والتصوف: التزكية، وهما مقام يجمع الخوف والرجاء، وينهض بالعقيدة والخلق، وبه تتحقق إنسانية الإنسان، وإنه ما من آية في القرآن إلا وهي تربط الدنيا بالآخرة، وتجعلها وسيلة إليها «من باب التقوى وطريق التزكية».
ألم يقل الله ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ [الأعلى:14 ] و﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ [الشمس: 9] ألم يكن من سر الرسالات «التزكية»: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: ١٢٩].
نعم: التصوف: أدب، فالعقيدة: أدب، والعبادة: أدب، والمعاملة: أدب.
ولقد كان شيخنا الوالد يكثر أن يقول: «اللهم علمنا الأدب» و«من تعلم الأدب: بلغ الأرب.
وهنا يصل العبد إلى رتبة «الربانية» بالعلم والدرس والممارسة ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾. [آل عمران: 79].
يا ولدي: الصوفي أكثر من فقيه؛ فالفقيه: وقف عند الأقوال([8]).
والصوفي أكثر من عابد؛ إذ العابد وقف عند الأعمال، أما هو فقد جمع بينهما، فأثمر: الأحوال.
والصوفي أكثر من زاهد؛ إذ الزاهد في الدنيا زاهد في لا شيء.
أما الصوفي فلا يزهد إلا فيما يحجبه عن الله، وبهذا يجعل الدنيا في يده، لا في قلبه.
وهكذا يصبح التصوف: فرض عين؛ لأنه: طلب الكمال، وما من مخلوق إلا وفيه نقص يجب استكماله، وبالتالي كان كل علم يمكن الاستغناء عنه، إلا التصوف؛ لأن موضوعه: الذات، والروح وعلاقة الوجود بالوجود، ارتباط الغيب بالشهادة، والملك بالملكوت، وكل علم بعد هذا فهو نافلة.
جاء شاب إلى مرشد صوفي، فقال له: يا ولدي إن كنت تريد الدنيا والجنة فعليك بفقيه، وإن كنت تريد رب الدنيا ورب الجنة، فهلم إلينا».
نعم من وجد الله، فما فقد شيئا، وإن فقد.
ومن فقد الله، فما وجد شيئا، -وإن وجد-؛ فشئون الدنيا كلها كشئون الآخرة كلها؛ ﴿كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ﴾ [النساء : 78]!.
يا ولدي: البشر: مدر: لا يخلو من كدر. فمن نظر إلى الخلق: هلك، ومن نظر إلى الحق: سلك وملك.
ولكن عليك بخلوص النية من قيود المقامات، وأغلال الأحوال، وعبادة الآمال.
ثم إنه ليس العجب ممن هلك كيف هلك، ولكن العجب ممن نجا كيف نجا!
يا ولدي: إذا قيل: إن التصوف من الصفاء، فقد أصبح اسم التصوف أعظم من أن يكون له جنس يشتق منه؛ لأن الشرط في الاشتقاق التجانس، والموجودات كلها، ضد الصفاء، إنها كدر «إلا ما كان لله» ولا يشتق الشيء من ضده.
ثم إن «الصوفي» هو صاحب الوصول. «والمتصوف» صاحب الأصول، والمستصوف «المتمصوف» صاحب الفضول، رضي المحجوب: كشف المحجوب.
والتصوف: فناء صفة العبد ببقاء صفة المعبود. ومن هنا كان الصوفي هو الذي لا يملك ولا يملك، أي لا يملك نفسه ؛ لأنه ملك لله، وبهذا لا يملكه غيره من مال أو جاه، أو بشر، ثم إن صحة الملكية تكون للموجود، والصوفي في حب ربه مفقود.
والمبتدئ في الصوفية يرى نفسه ولكن يراها ناقصة فهي مع هذا حجاب بينه وبين الله أما المنتهي فقد غض بصره عن نفسه؛ فلا يراها بالكلية لأنه يرى قيومها الموجود الحق لا سواه، وما لا قيومية له من نفسه فهو: عدم مجسد.
يا ولدي: الصوفي قائم بربه على قلبه، وقائم بقلبه على نفسه، وقائم بنفسه على من يليه، وهذه القوامة هي: التحقق بالتصوف الرفيع: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ ﴾[المائدة: 8].
والصوفي يقيم أمر الخلق في مقامه، ويقيم أمر الحق في مقامه، فيظهر ما ينبغي أن يظهر، ويستر ما ينبغي أن يستر، ويقوم بواجب وقته كأفضل ما يقوم رجل، وبه يستقيم عاتق الميزان بروح الربانية.
إن الله أمرنا بالتصوف، فهو يقول: ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾[آل عمران:79].
والربانية عندنا هي «التصوف» فهي في الآية علم ودراسة، ومقتضى ذلك: العمل، والعمل الصحيح.
فالتصوف هو الربانية وهو التقوى، وهو التزكية، وثلاثتها شيء واحد، لابد لبعضه من بعض فلا ربانية بلا تقوى، ولا تقوى بلا تزكية.
وتستطيع أن تسمي ذلك جميعًا «البر» و﴿وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ [البقرة : 189] فاقرأ آيات من «سورة البقرة» وغيرها([9]) وسترى أن جماع ذلك وملاكه هو «الخلق».
فالتصوف. خلق. من زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف وبالتالي زاد عليك في الإنسانية، فنفع وانتفع، وأدى رسالة البشرية بروح سماوية علية.
وهكذا تشرق لك بعض معاني قوله تعالى:﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[سورة القلم:4] فما كان من عظمة في شئون الدنيا والدين، فإنما هي أثر للخلق العظيم.
يا ولدي: ليس للشيطان على الصوفي الصادق سبيل؛ لأنه تحقق بالعبودية المحبة، فدخل في قدس ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾[الحجر: 43].
وقد عرف الشيطان هذا واعترف به فقال: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ﴾[ص 82، 83]. وقال: ﴿لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ=٣٩- إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ﴾[الحجر: 39، 40]. ومن ثم كانت العبودية أعلى مراتب القرب: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: 1]. و﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾[الفرقان: 1]. و﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾[النجم: 10] ﴿نِعْمَ العَبْدُ﴾ [ص: 30 ]. ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾[الزخرف : 59].
واعلم يا ولدي وعلم الناس: أن التصوف الحق مقيد بأحكام الكتاب والسنة، على أساس العزيمة، وحذار من الصيرورة إلى الرخصة، إلا في حدها المحدود؛ فالتصوف – من حيث هو – علم وعمل، وخلق، وعبادة، وجهاد، ودعوة، هو أصل مؤصل مما جاء به الوحي، وحثت عليه الشريعة كما رأيت، فهو كما قلنا «طلب الكمال». وكل امرئ – مهما يكن شأنه – فيه وجه، أو وجوه من النقص، وبهذا يصبح التصوف واجبا عينيا، لا عذر لأحد معه.
«هذا هو تصوفنا» وهو علم فقه المعرفة، ولا شأن لنا بتصوف الآخرين و ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ [الطور : 21].
وهكذا يكون الصوفي والمسلم النموذجي، تمثيلا للإنسانية الرفيعة، واندماجا في موكب الحياة الزاخرة بالجد وبالمجد، والعمل الروحي والعمل الحضاري الخالد.
يعيش الصوفي: بدن مع الخلق وروح مع الحق، الفرق في لسانه، والجمع مع جنانه([10]) ، وهو يعلم أن العمل مع الغفلة خير من الغفلة عن العمل!!
يا ولدي: التصوف دعوة «الحب» الذي فقده الناس، ففقدوا الحقيقة الإنسانية في الأجساد البشرية.
والحب هو: الخصيصة المميزة للسالك الصوفي؛ فهو يحب الله وبالتالي: يحب خلق الله، فهو يحبهم بحب ربهم وهو بحكم حبه لهم: يسعى في خيرهم وبرهم.
وتصور يا ولدي مجتمعًا يحكمه «الحب، والسلام، والتسامح، والتيسير، واللين، والتعبد، والتعاطف، والشرف، والإيثار، وتحري معالي الأمور؛ كيف يكون أفراده؟ وكيف تمضي حضارته؟!
إن العنف، والقسوة، والقهر، والتعالي، والخبث، والتعالي، والبذاءة، والتعالم والاندفاع وأذى الناس، أقذار لا يعرفها التصوف.
واسمع الآن الشاعر الصوفي يحدو على شاطئ الحب قائلًا:
رأى المجنونُ في الصحراء كلبًا |
* | فمدَّ له من الإحسان ذيلا! |
فلاموه على ما كان منه |
* | وقالوا كم أنلت الكلب نيلا |
فقال: دعوا الملامة إن عيني |
* | رأته ليلة في حي «ليلى»؟! |
يا ولدي: يقول السادة رضي الله عنهم: سر الحقيقة ظاهر، وعلم المعرفة منصوب، وباب الوصول مفتوح، وما حجبكم إلا رؤية أنفسكم فعشش فيها الكبر، وباض وأفرخ!! والكبر ميراث إبليس.
وهم ما يقولون رضي الله عنهم: الطريق واضح، والدليل لائح، والداعي أسمع، فاقنع وأمتع. وما التحير بعد ذلك إلا من غفلة النفس وغلبة الهوى واعتقاد الفضل على السوى.
يا ولدي : لقد كان التصوف ثورة على الترف والاستعجام والانحلال، واللامبالاة.
فإذا دخلته المغالاة فتلك طبيعة الأشياء، وهذه قصة الصحابة الذين أرادوا أن يصوموا بلا فطر، وأن يعيشوا على الطعام الرمزي، وأن يتركوا النساء والأولاد، وأن يصلوا الليل والنهار: تعبدًا وانقطاعًا عن الحياة فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأرشدهم إلى الوسطية والاعتدال([11]): ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة:143].
كان ذلك والوحي ينزل، والرسول صلى الله عليه وسلم حي فإذا دخل التصوف الغلاة والمتنطعون، واستبدلوا حكم إحياء النفس بقتل النفس، أو اختاروا الخبيث على الطيب، فليس هذا عيبا في التصوف نفسه «فالتصوف شيء غير التمصوف» ولا يمكن أن يحمل الإسلام وزر المسلم الذي ينحرف.
وهل يترك المسلم التقي إسلامه، لأن في المسلمين قوما ضلوا السبيل؟
«التصوف دعوة إلى الحرية المطلقة والسيادة التامة على النفس والشهوة، وعلى الشيطان، وعلى العبودية لغير الله، وعلى كل صغار خلقي أو فكري، فهو أصل التحرر المطلق من أغلال المادة والهوى، لأن الصوفي قد تحقق بقوله، لا إله إلا الله».
فالتصوف «يا ولدي» كما رأيت – فوق أنه دعوة - «الحب والنور، والفيض، والبركة والمدد» هو دعوة للحرية المطلقة ورفض كل عبودية – حسية أو معنوية – لغير الله، فهو يا ولدي: رد اعتبار الإنسانية للإنسان، بعد ما فقد الإنسان اعتباره، واستبعدته المادة ومكاره الأخلاق، والكيوف المتحكمة، والشهوات المظلمة، والآمال المعتمة، التصوف – يا ولدي – هو ترميم بناء الباطن بعد أن تحطم الإنسان من داخله.
التصوف الحق دعوة إلى القوة، والعلم، والتوحيد، والعزة، والعدالة والمساواة والإحياء، والتكافل، والتكامل والتجديد، والابتكار، والسيادة والقيادة؛ لأن الله خلق المسلم الحق ليمارس كل هذا وما يترتب عليه، وما يتفرع عنه: قولا، وعملا، وحالا ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143] ولكل كلمة من كل ذلك شرح عريق عميق، أصله الكتاب والسنة، وفرعه الفيض والمدد.
وهكذا كان من فاته التصوف الحق، فقد فاته الخير الذي قد لا يعوض على الإطلاق. وأي خير يكون إذا انقطعت علاقة المرء بالسماء وما وراء هذا من الأسرار والأنوار؟!.
إن عند التصوف ما عند الناس، وليس عند الناس ما عند الصوفية.
يا ولدي: قد يعترض عليك بعضهم بأقوال، لم يفهمها، مما جاء عن بعض السلف، والسلف بشر، فإن أخطأوا فوزرهم على أنفسهم ولا نسأل عنهم ولا نؤاخذ بما اجترحوا ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الإسراء: 15].
ولكننا نعتقد أنهم أرادوا الخير، وكانت لهم ظروف وصروف وملابسات، أجبرتهم على الرمز والإشارة أو إلى الإلغاز والتحجية، ومادامت أقوالهم تقبل التأويل الإيماني، ولو من وجه واحد من مائة وجه آخر، فإننا نحمله على هذا الوجه الواحد المؤمن، بحسن الظن، وبحكم العلم، وندع ما وراء ذلك لله وحده، فليس أحد يقول أو يكتب شيئا، وهو يعتقد أنه يدخل به النار وليس من حق أحد أن يحكم على أحد بالخروج من الملة إلا بدليل لا شبهة فيه «على مثل ضوء الشمس»([12]).
ونحن نعتقد أن لكلام القوم مفاتيح لمستغلقات مترامية الأبعاد، فهي لخاصة الخاصة، فما لم نفهمهم على مرادهم اليقيني، فلندع لله أمرهم، ولنستغفر الله لنا ولهم ونقول: لعلهم تأولوا، أو اجتهدوا فأخطأوا، هذا موقفنا: مبرأ من الوغى([13]) والدعوى، على طريق الحب، والخير، والأدب.
يا ولدي: غاية كل متحرك إلى سكون، ونهاية كل متكون ألا يكون فإذا كان ذلك كذلك فلم التهالك على الهالك؟
يقول أشياخنا: أصول صحبتنا سبعة:
1- علو المهمة.
2- وحفظ الحرمة.
3- وحسن الخدمة.
4- ونفوذ العزمة.
5- وتعظيم النعمة.
6- والنصح للأمة.
7- ودفع الباطل بالحكمة.
وهم يقولون: «إذا ألف القلب الإعراض عن الله. صحبته الوقيعة في أوليائه».
وقلما رأيت في خصوم التصوف رقة الإسلام أو سعة الأفق، أو سماحة النبوة، أو رفق الولاية، أو حسن الظن أو أدب المعاملة فإن ذلك كله إنما ينبع من معين التواضع، الذي هو خميرة مكارم الأخلاق.
وهؤلاء قد حرموا هذه النعمة؛ فليس منهم إلا جاف الطبع، معتم القلب، غليظ الروح، ثقيل الظل، مظلم، معتم، كأنما هو سجان فظ، أو صاحب «مشنقة» كنود؛ فهو متأزم معقد، حامل غل على الذين آمنوا([14])، يكاد الكبر يتفجر من جنبيه، تعاليا على الناس، وتألها عليهم؛ فقد زعموا لأنفسهم العصمة وضمان الجنة، وأقاموا من أشخاصهم أوصياء على دين الله، كأنما الدين ما عندهم وحدهم، إلا من رحم الله، وقليل ما هم.
ويعلم الله أننا نأسى لهم، ونعطف عليهم، مما ابتلاهم الله به، وندعو الله بظهر الغيب لهم، ولا نزال نعتقد أن فيهم خيرًا، نرجو أن يغلب عليهم، وما ذلك على الله بعزيز.
إن الناس لا يطلبون الله والجنة بما صح عند غيرهم، وإنما يطلبون ذلك بما صح عندهم، فإن أصابوا فأجران، وإن أخطأوا فأجر([15])، وعند الله مزيد، ولكل امرئ ما نوى.
يا ولدي: هذه لمحة «على هامش التصوف» وأرجو أن يكون لي عودة إلى مثل هذا الحديث معك، إن كان في العمر مدد، فهو حديث غير ممنون: ذو شئون، وشجون!!
وإني أقول ما قال السادة: لو أن الخاطئين خرسوا ما تحدثنا إليكم.
ويعلم الله لو كان للذنوب ريح ما دنا منا أحد([16]) إلى أحد.
أقول قولي هذا، وأستغفر لي، ولكم، وللمسلمين.
([1]) هذا الخطاب الذي ستقرؤه أوصيت به أحد أبنائى في الطريق وكتبته هنا لعل الله تبارك وتعالى ينفع به.
([3]) لأن الدنيا كلها ملك لله تعالى، فكيف يترك المالك ويطلب المملوك ؟! ألم تر أن الله تعالى قال للدنيا «من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه».
([4]) ما ضمنه الله تعالى أشياء كثيرة: منها الرزق، وقد أقسم الله تعالى أنه حق، فقال: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ=٢٢- فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ [الذاريات: 22، 23] وقد سمعها عربي فقال: «من أغضب رب العزة حتى أقسم؟».
([5]) ومن سكن قلبه إلى غير الله فقد أشرك قال تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 164].
([7]) هي مراتب الحديث المعروف الذي ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه»، وهو حديث معروف مشهور بين أهل العلم.
([8]) قال ابن كثير رحمه الله تبارك وتعالى، وهو أحد تلاميذ ابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى: عند تفسير قوله تعالى:﴿وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة:18]، وقال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فلم يرد عليه. فتلا عليه الصوفي هذه الآية: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾ [المائدة:18]، وهذا الذي قاله: حسن إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى رحمة واسعة، فراجعه هناك لتستفيد.
([12]) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على مثل الشمس، فاشهد أو دَعْ». رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس مرفوعا، ولفظه: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد، وإلا فدع». ورواه الديلمي بلفظ «يا ابن عباس لا تشهد إلا على أمر يضيء لك كضياء الشمس». ورواه الطبراني والديلمي أيضا عن ابن عمر.