(فصل) قال أبوطالب المكي في (قوت القلوب): اعلم أن العبد إذا كان يذكر الله تعالى بالمعرفة وعلم اليقين لم يسعه تقليد أحد من العلماء, وكذلك كان المتقدمون إذا افتتحوا هذا المقام خالفوا من حملوا عنه العلم لمزيد اليقين والإفهام. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: (ليس أحد إلا يأخذ من قوله ويترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-). وقد كان تعلَّم من زيد بن ثابت الفقه, وقرأ علىٰ أُبَيّ بن كعب, ثم خالف زيدًا في الفقه, وأُبَيًّا في القراءة.
وقال بعض الفقهاء من السلف: ما جاءنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَبِلْنَاهُ على الرأس والعين, وما جاءنا عن الصحابة فنأخذ منه ونترك، وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال. قالوا ونقول, ولأجل ذلك كان الفقهاء يكرهون التقليد, ويقولون: لا ينبغي للرجل أن يفتي حتى يعرف اختلاف العلماء أي فيختار منها الأحوط للدين والأقوى باليقين, فلو كانوا يحبون أن يفتي العالم بمذهب غيره لم يحتج أن يعرف الاختلاف, ولكان إذا عرف مذهب صاحبه كفاه.
ومن ثم قيل([1]): إن العبد يسأل غدًا فيقال له: ماذا علمت فيما علمت؟ ولا يقال له: فيما عمل غيرك. وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ﴾ [الروم:56] فقرن بينهما, فدل على أنه من أوتي إيمانًا ويقينًا أوتي علمًا, كما أن من أوتي علمًا نافعًا أوتي إيمانًا. وهذا أحد الوجوه في معنى قوله تعالى: ﴿كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾ [المجادلة: من آية22] أي قوَّاهم بعلم الإيمان, فعلم الإيمان هو روحه, وتكون الهاء عائدة على الإيمان.
وكذا العالم الذي هو من أهل الاستنباط والاستدلال في الكتاب والسنة ومعرفة أداء الصنعة وآلة الصنع لأنه ذو تمييز وبصيرة, ومن أهل التدبر والعبرة.
ثم قال: وقد كان من هدي أهل العلم في قعودهم أن يجتمع أحدهم في قعوده, وينصب ركبتيه, ومنهم من كان يقعد على قدميه ويضع مرفقيه على ركبتيه. كذلك كانت شمائل كل من تكلم في هذا العلم إلى وقت أبي القاسم الجنيد ولذلك روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقعد القرفصاء ويحتبي بيديه([2]).
وأول من قعد على كرسي يحيى بن معاذ الرازي, وفي زمن الجنيد أبو حمزة البغدادي, فعاب الأشياخ ذلك عليه, ولم يكن ذلك سيرة العارفين الذين يتكلمون في علم المعرفة واليقين, إنما كان جلوسهم الاحتباء, وإنما يجلس متربعا النحاة وأهل اللغة وأبناء الدنيا من علماء المفتين, وهي جلسة المتكبرين([3])، ومن التواضع الاجتماع في الجلسة.
ثم قال: وأصول مقامات اليقين تسعة : (التوبة, والصبر, والشكر, والرجاء, والخوف, والزهد, والتوكل, والرضى, والمحبة). هذا آخر ما لخصته من كتاب (القوت).
([1]) ورد معناه من حديث أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّىٰ يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ فِيه، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ». رواه التِّرْمِذيّ وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وروى البيهقي عن معاذ مرفوعًا: «مَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أنفقه، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ» وورد نحوه من حديث ابن مسعود رواه البيهقي وقال: غريب.
([2]) روى أبوداود والبخاري في الأدب والترمذي في الشمائل، والطبراني عن قَيْلَة بنت مَخْرَمَة أَنَّهَا رَأَت النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَاعِدًا الْقُرْفُصَاءَ، قَالَتْ: فَلَمَّا رَأَيْتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الْمُتَخَشِّعَ فِي الْجِلْسَةِ أُرْعِدْتُ مِنَ الْفَرَقِ. قال الحافظ ابن عبدالبر: حديث حسن، وأخرج أبوداود والترمذي في الشمائل بإسناد ضعيف عن أَبِي سَعِيد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا جَلَسَ احْتَبَىٰ بِيَدِهِ. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ مُحْتَبِيًا بِيَديه.