(فصل) فإن قلت: كيف يكون الحسن أول الأقطاب, وقبله أبو بكر وعمر وعثمان وعلي؟
قلت: ظهر لي أن يقال: معناه أن الحسن أول من كانت له الخلافة الباطنة منفردة عن الظاهرة, فإن القطب هو خليفة النبي -صلى الله عليه وسلم- ووارث الأمر من بعده, وكأن الحسن -رضي الله عنه- لما ترك الخلافة الظاهرة ابتغاء وجه الله, وحقن دماء المسلمين, عوضه الله ما هو أجل منها, وهو الخلافة الباطنية, ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرًا منه.
وأما الخلفاء الأربعة -رضي الله عنهم- فكانت لهم الخلافتان الظاهرة والباطنة معا, ولم يجتمعا لأحد بعدهم إلا أن يكون عمر بن عبد العزيز([1]).
(فصل) قال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله: كان من مذهب الشيخ أبي العباس أنه لا يلزم أن يكون القطب شريفًا حسنيًا, بل قد يكون من غير هذا القبيل.
(فصل) قال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله: الوارث للرجل هو الظاهر بعلمه وحاله, وهو الذي تظهر طريق المورث على يديه يفسر مجملها, ويبسط مختصرها, ويرفع منارها, ويبث أنوارها, يعرف الناس بما كان ذلك الرجل عليه من العلم بالله والمعرفة والتعوذ والاحتظاء من نوره, حتى إذا فرط الناس في محبته وتعظيمه في حياته استدركوا ذلك بعد وفاته, لأن كل ما هو مقدور عليه مزهود فيه, وكل معجوز عنه متطلع إليه بالشغف.
قال الشيخ أبو العباس: يكون الرجل بين أظهرهم فلا يلقون إليه بالاً, حتى إذا مات قالوا: كان فلان, وربما دخل في طريق الرجل بعد وفاته أكثر ممن دخل في حياته.
(فصل) إذا عرفت ما أوردناه من كلام الأئمة المتقدم ذكرهم علمت أن التصوف في نفسه علم شريف, وأن مداره على اتباع السنة وترك البدع, والتبري من النفس وعوائدها وحظوظها وأغراضها ومراداتها واختياراتها, والتسليم لله, والرضى به وبقضائه وطلب محبته, واحتقار ما سواه, كما قال الغزالي: التصوف تجريد القلب لله, واحتقار ما سواه. وهذا هو المراد من قولهم: الوصول إلى الله. كما قال ابن عباد في شرح الحكم: (اعلم أن ما دامت له همة وإرادة فأنت بعد في الطريق لم تصل فلو قد فنيت عنها لوصلت).
وقال بعض المتقدمين: الاتصال أن لا يشهد غير خالقه, فلا يصل بسره خاطر لغير صانعه. انتهى.
وعلمت أيضًا أنه قد كثر فيه الدخيل من قوم تشبهوا بأهله, وليسوا منهم, فأدخلوا فيه ما ليس منه, فأدى ذلك إلى إساءة الظن بالجميع, فوجه أهل العلم للتمييز بين الصنفين, ليعلم أهل الحق من أهل الباطل.
وقد تأملت الأمور التي أنكرها أئمة الشرع على الصوفية فلم أر صوفيا محققا يقول بشيء منها, وإنما يقول بها أهل البدع والغلاة الذين ادعوا أنهم صوفية, وليسوا بهم.
والراجع منها إلى أصل الدين أربعة:
الأول -وهو شرها- الحلول والاتحاد, وهو كفر صريح, وضلال مبين ولم يقل به أحد من المعتبرين, وحاشاهم من ذلك, بل ما زال المعتبرون من الصوفية ينبهون على تضليل من يقول به, وتكفيره ويحذرون منه. منهم الغزالي في عدة مواضع من الإحياء.
قال في باب السماع: الحالة الرابعة: سماع من جاوز الأحوال والمقامات, فعزب عن فهمه ما سوى الله, حتى عزب عن نفسه وأحوالها ومعاملاتها, وكان كالمدهوش الغائص في عين الشهود الذي يضاهي حاله حال النسوة اللاتي قطعن أيديهن في مشاهدة جمال يوسف -عليه السلام- حتى بهتن وسقط إحساسهن.
وعن مثل هذه الحالة تعبر الصوفية بأنه فني عن نفسه, فهو عن غيره أفنى. فكأنه فني عن كل شيء إلا عن الواحد المشهود, وفني أيضا عن الشهود, فإن القلب إن التفت إلى الشهود والى نفسه بأنه مشاهد فقد غفل عن الشهود.
والمستهتر بالمرئي لا التفات له في استغراقه إلى رؤيته وإلى عينه التي بها رؤيته, ولا إلى قلبه الذي به لذته, فالسكران لا خبر له من سكره, والمتلذذ لا خبر له من التذاذه, إنما خبره من الملتذ به فقط, ومثاله العلم بالشيء فإنه مغاير للعلم بالعلم بذلك الشيء، فالعالم بالشيء مهما ورد عليه العلم بالعلم بالشيء كان معرضًا عن الشيء, ومثل هذه الحالة قد تطرأ في حق المخلوقين, وتطرأ أيضا في حق الخالق, ولكنها في الغالب تكون كالبرق الخاطف الذي لا يثبت ولا يدوم, فإن دام لم تطقه القوة البشرية, فربما يضطرب تحت أعبائه اضطرابا تهلك فيه نفسه.
فهذه درجة الصديقين في الفهم والوجد, وهي أعلى الدرجات, لأن السماع على الأحوال نازل عن درجات الكمال, وهي ممتزجة بصفات البشرية, وهو نوع قصور, وإنما الكمال أن يفنى بالكلية عن نفسه وأحواله, أعني أنه ينساها, فلا يبقى له التفات إليها, كما لم يكن للنسوة التفات إلى اليد والسكين, فيسمع لله, وفي الله ومن الله, وبالله, وهذه رتبة من خاض لجة الحقائق, وعبر ساحل الأحوال والأعمال, واتحد بصفاء التوحيد, وتحقق بمحض الإخلاص, فلم يبق فيه منه شيء أصلا, بل خمدت بالكلية بشريته, وفني التفاته إلى صفات البشرية رأسًا. ولست أعني بفنائه فناء جسده, بل فناء قلبه, ولست أعني بالقلب اللحم والدم, بل سر لطيف له بالقلب الظاهر نسبة خفية.
إلى أن قال: ومن هنا نشأ خيال من ادعى الحلول والاتحاد وقال: أنا الحق, وحوله يدندن كلام النصارى في دعوى اتحاد اللاهوت بالناسوت, أو تدرعها بها, أو حلولها فيها, على ما اختلفت فيه عباراتهم, وهو غلط محض.
هذا كله كلام الغزالي.
وقال أيضًا في باب المحبة: من قويت بصيرته ولم تضعف منته فإنه في حال اعتدال أمره لا يرى إلا الله, ولا يعرف غيره, ويعلم أنه ليس في الوجود إلا الله, وأفعاله أثر من آثار قدرته, فهي تابعة له, فلا وجود لها في الحقيقة دونه, وإنما الوجود للواحد الحق الذي بيده وجود الأفعال كلها, ومن هذا حاله فلا ينظر في شيء من الأفعال إلا ويرى فيه الفاعل, ويذهل عن الفعل من حيث إنه سماء وأرض وحيوان وشجر, بل ينظر فيه من حيث إنه صنع, فلا يكون نظره مجاوزًا إلى غيره, كمن نظر في شعر إنسان, أو في خطه أو في تصنيفه, ورأى فيه الشاعر والمصنف, ورأى آثاره من حيث إنه أثره, لا من حيث إنه عفص وحبر وزاج مرقوم على بياض, فلا يكون نظره إلى غير المصنف.
وكذا العالم تصنيف الله تعالى, فمن نظر إليه أنه فعل الله, وعرفه من حيث إنه فعل الله, وأحبه من حيث إنه فعل الله, لم يكن ناظرا إلا في الله, ولا عارفا إلا بالله, ولا محبا إلا لله, وكان هو الموحد الحق الذي لا يرى إلا الله, بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه, بل من حيث إنه عبد الله, فهذا هو الذي يقال فيه إنه فني في التوحيد, وإنه فني عن نفسه, وإليه الإشارة بقول من قال: كنا بنا, ففنينا عنا, فبقينا بلا نحن.
فهذه أمور معلومة عند ذوي البصائر أشكلت لضعف الأفهام عن دركها, وقصور قدرة العلماء بها عن إيضاحها وبيانها بعبارة مفهمة موصلة للغرض إلى الأفهام, أو باشتغالهم بأنفسهم واعتقادهم أن بيان ذلك لغيرهم مما لا يعنيهم.
ثم قال: وقد تحزب الناس إلى قاصرين مالوا إلى التشبه إلى الظاهر, والى غالين مسرفين تجاوزوا إلى الاتحاد وقالوا بالحلول, حتى قال بعضهم: أنا الحق, وضل النصارى في عيسى, فقالوا: هو الإله. وقال آخرون: تدرع الناسوت باللاهوت. وقال آخرون: وأما الذين انكشف لهم استحالة التشبيه والتمثيل, واستحالة الاتحاد والحلول, واتضح لهم وجه الصواب, فهم الأقلون. انتهى كلام الغزالي.
فانظر وفقني الله وإياك: كيف بيَّن أن الفناء عما سوى الله وشهود الحق أمر اعتباري معنوي لا حسي, وان المراد به إسقاط الغير عن درجة الاعتبار, وأنه في حيز التلاشي والاحتقار, وأن المراد برؤية الله في كل شيء أنه يسبق إلى قلبه ذكر ربه عند رؤية كل شيء. قال بعض العارفين: يسبق إلى قلبه ذكر ربه. وانظر كيف صرح الغزالي في موضعين بتغليط من قال بالحلول والاتحاد وتضليله وتكفيره وإلحاقه بالنصارى, والغزالي أجل من اعتمد عليه في تحقيق هذا المقام فإنه فقيه أصولي متكلم صوفي محقق.
وقال القطب القسطلاني في كتابه السابق ذكره: المحبة مبتدأ دخول أودية الفنا, وأعلاها محبة خاصة الخاصة وهي النظر إلى ما أهلهم له من حبه لهم وحبهم له بلا علة, فتولهوا وتاهوا في هامه تلك الفكرة, وفاضت عليها مياه الأسرار الغيبية, حتى غسلت منهم دنس التعلق بالآثار الغيرية, فمحت منهم بقايا التطلعات النفسية, وحمت عنهم الالتفاتات إلى الجهات العلوية والسفلية. وهذه محبة الصديقين. قال الجنيد: المحبة إفراط الميل بلا نيل. يعني ميل القلب إلى الرب, والى ما أمر به مما يدعو إلى القرب بلا أمل عطاء وجزاء ذلك.
وقال أبو يعقوب: لا تصح المحبة إلا بالخروج عن كل الاختيار, مجردًا عن النظر إلى الأغيار, بعيدًا عن القرب إلى الاعتراض على مجاري الأقدار, مشغولا بالحق لا يسع وقته إلى شيء غيره, ولا يندفع حاله إلى شيء من الفترة.
ثم قال الجنيد: المشاهدة ثلاثة: مشاهدة من الرب, ومشاهدة الرب, ومشاهدة للرب. وقال: فالمشاهدة على ثلاث طبقات: مشاهدة بالحق, وهي نظر الوجدان بوجوه الاستدلالات على وحدانية الذات. ومشاهدة للحق, وهي نظر الحق في قيام المصنوعات وتمام المبدعات وصيانتها عن الآفات, ومشاهدة الحق, وهي نظر الحق قبل الأشياء, ورؤيته سابقًا قبل الإنشاء, وهي رؤية خالية عارية عن الوصف, عالية عن الكشف.
قال سهل بن عبد الله: المشاهدة إقامة الرؤية بأن العبودية مع فقدان الكل دونه.
ثم قال: الفناء والبقاء صفتان معتورتان في نفس العبد. إحداهما تخلف الأخرى, وهما في لسان الاشارى فناء الوصف المذموم, وبقاء الوصف المحمود, فإذا تم فناؤه عن الأخلاق والأحوال والأفعال ترقى منه إلى فنائه عن نفسه وعن الخلق باستيلاء شهوده, ففي هذه الحالة الخلق ونفسه موجودان, وإنما حصل له من الذهول ما غيبه عن الإحساس بوجودهما, والفناء استغراق في شهود مانع عن ملاحظة الحظوظ المتعلقة بموجود محدود, فيسقط عنه التمييز بنفي الأشكال اشتغالا بما بقي به, ففني عن رؤية الأشباه والأمثال, كما روي عن عامر بن عبد([2]) -أحد التابعين- أنه قال: ما أبالي امرأة زانية وحائطًا. والمتولي له في حركاته وسكناته الحق سبحانه, فيقوم بوظائفه, ويحفظه في تصرفاته, ويحميه عن مخالفاته, وذلك مستنبط من معنى قوله في الحديث: كنت له سمعا وبصرًا. وأما الفناء الذي يخلفه: فهو الإقامة على ما لله عليه بعد الفناء عما له من الحظوظ, فتبقى الأشياء كلها عنده كشيء واحد, فهو أبدا دائب في الموافقات دون المخالفات, فالباقي بالحق عبارة عن عبد فني عن نفسه, فهو يعقل الأشياء لا لحظ يجلب منفعة أو يدفع مضرة, بمعنى أنه لا يقصد ذلك, بمعنى أنه لا يجد حظا, بل إذا عمل قربة يقصد بعملها موافقة الأمر لا لذة نفسه في ذلك العمل, ولا يطلب ثوابا عليه.
ثم قال: ولا يظن جاهل بعلوم هذه الطائفة أن معنى الفناء هو ترك التمييز بين حقائق الأشياء وأحكامها فتصير الموجودات كلها شيئا واحدا, وتبقى المخلوقات له موافقات, فيبقى النهي عنده كالأمر لفنائه عن التمييز في الأحكام, فإن هذا مذهب معلول مدخول ذهب إليه من قصد تعطيل الشرائع وإبطال التكاليف, وهو مذهب الإباحية.
وإنما المعنى فيه ما قدمناه, من أنه فني عن أوصافه وملاحظات أغراضه, وبقي بأوصاف الحق, فإنه إنما يفعل الأشياء لغيره لا له, لوجود استغنائه عن المنافع والمضار.
وقال إبراهيم بن شَيبان: الفناء والبقاء يدور على إخلاص الوحدانية وصحة العبودية, وما كان غير هذا فهو المغاليط والزندقة.
ونقل معناه عن أبي يعقوب النهرجوري([3]).
وقال أبو سعيد الخراز: علامته ذهاب حظه من الدنيا والآخرة إلا من الله, ثم يبدو له باد من حق الله فيريه ذهاب حظه من رؤية حظه أن يتلاشى عن نفسه وتبقى رؤية ما كان من الله لله, فذهاب الحظ من الدنيا من ترك الأغراض، ومن الآخرة ترك طلب الأعواض, وذهاب حظه من رؤية حظه أن يتلاشى عن نفسه فلا يرى لها في جانب عظمة الله قدرا لحقارتها, فيشتغل بالله عن رؤية ذلك, فيبقى ما كان لله بالله, ويفنى عما سوى الله, فيكون ما كان في علم الله قبل إيجاده.
ثم قال: التوحيد يقع في الذات والصفات والأفعال, ففي الذات نفي الصفات بالإجراء, وفي الصفات نفي التشبيه بالأسماء, وفي الأفعال نفي الشريك في شيء من الأشياء.
قال الجنيد: أشرف كلمة في التوحيد ما قاله أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: سبحان من لم يجعل لخلقه سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته.
ثم قال: الجمع أن لا تشهد إلا الحق, وتفنى عما سواه, فتسلب الإرادات, وتطرح كلفة التطلع إلى العادات.
انتهى ما لخصناه من كلام القسطلاني.
فانظر كيف شرح هذه الألفاظ التي هي مظنة زلل الفهم شرحا بينا واضحا جاريا على قوانين الشريعة, مداره على إفراد الأمر لله وحده, وإسقاط ما سواه عن درجة الاعتبار ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾ [الأعراف:54]، وعلى ترك الإرادات والاختيارات, وترك منازعة القدرة, وترك حظوظ النفس, والقيام بالأوامر والنواهي لله وحده. لا لجلب ثواب, ولا لدفع عقاب, وهذا حال من عبد الله لله, خلاف من عبد الله للثواب وخوف العقاب, فإنما عبد لحظ نفسه, وإن كان هو محبة أيضا, لكنه في درجة الأبرار, وذلك درجة المقربين.
أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن موسى بن الصباح قال: إذا كان يوم القيامة يؤتى بأهل ولاية الله فيقومون بين يديه ثلاث أصناف, فيؤتى برجل من الصنف الأول, فيقول: عبدي, لماذا عملت؟ فيقول: يا رب خلقت الجنة وأشجارها وثمارها وأنهارها وحورها ونعيمها, وما أعددت لأهل طاعتك فيها, فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري شوقا إليها. فيقول إنما عملت للجنة فادخلها, ومن فضلي عليك أن أعتقتك من النار. فيدخلها هو ومن معه.
ثم يؤتى برجل من الصنف الثاني, فيقول: عبدي, لماذا عملت؟ فيقول: يا رب, خلقت نارا, وخلقت أغلالها وسعيرها وسمومها ويحمومها, وما أعددت لأعدائك ولأهل معصيتك فيها, فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري خوفا منها, فيقول: عبدي, إنما عملت خوفا من النار, فإني قد أعتقتك من النار, ومن فضلي عليك أدخلك جنتي. فيدخل هو ومن معه الجنة.
ثم يؤتى برجل من الصنف الثالث, فيقول: عبدي, لماذا عملت؟ فيقول: رب حبا لك, وشوقا إليك, وعزتك لقد أسهرت ليلي وأظمأت نهاري شوقا إليك, وحبا لك, فيقول الله: عبدي, إنما عملت حبا لي, وشوقا إلي فيتجلى له الرب, فيقول: ها أنا انظر إلي ثم يقول: من فضلي عليك أن أعتقتك من النار وأبحتك جنتي, وأزيرك ملائكتي وأسلم عليك بنفسي. فيدخل هو ومن معه الجنة.
وقال شارح منازل السائرين في بيان عجز العقول عن إدراك الذات المقدسة وترك الفكرة في ذلك: يعرف العبد أن عقله عاجز عن إدراك كل الموجودات من المخلوقات, فضلا عن خالقها, وقد عجزت العقول عن إدراك الخاصية التي يجذب بها المغناطيس الحديد, والسقمونيا الأخلاط الصفراوية, إلى غير ذلك, مع القطع بوجودها.
فإذا عرف العبد عجزه وآيس من الوقوف على غاية مطلبه, حمله ذلك على التمسك بحبل التعظيم والإجلال, وسلم بذلك من الوقوع في مسيء الاختلال.
وقال شارح منازل السائرين في شرح معرفة الخاصة: وإنما ترجحت هذه الدرجة من حيث ارتفاع هذه المصوفة لا بمعرفة الصفة.
قوله: (وهي تثبت بعلم الجمع) يريد المعارف وتعقلها بنفس الذات. وذلك أن من تحقق عنده العلم بانفراد الحق سبحانه بالفعل والصفة والذات, وقيام سائر الموجودات بما يخلقه لهم فيهم من الصفات والحياة, قاده ذلك إلى جمع الهمة عليه, وعكوفها لديه, وتصفو هذه المعرفة في ميدان الفناء عن ذكر غيره ورؤيته سواه. وإذا فني العبد عن غيره كملت معرفته ببقائه مع الحق, وقلة غفلاته عنه, بل عدمها وهو علم البقاء.
وإذا وصل من المعرفة إلى هذا الحد في التمكن شارف عين الجمع أي حقيقته, وصار الجمع له حالا, فعين الجمع بخلاف علم الجمع.
وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في الحكم: كن بأوصاف ربوبيته متعلقًا، وبأوصاف عبوديتك متحققًا، منعك أن تدعي ما ليس لك من المخلوقين, أفيبيح لك أن تدعي وصفه وهو رب العالمين.
وقال شارحه ابن عباد: التعلق بأوصاف الربوبية أن تشهد وجودك, ولوازم وجودك, لا شيء من جميع ذلك لك, ولا منك, وإنما هي عوار عندك, فلا ترى وجودك إلا ببقائه, ولا عزتك إلا بعزته, ولا قدرتك إلا بقدرته, ولا غناك إلا بغناه, إلى غير ذلك من الأوصاف, ولا يتم لك ذلك إلا أن تتحقق بأوصاف عبوديتك, من عدمك وفقرك, وذُلّك وعجزك. ثم أورد بعده كالدليل على ما ذكره من أنه لاحظ للعبد من صفات مولاه إلا التعلق بها فقط, وأن ادعاءه شيئا منها من كبائر معاصي القلب, ومن مشاركة المربوب للرب, ومن مقتضى الغيرة التي اتصف بها, ومن أفحص الفواحش عند العارفين وجود شيء من الشركة في قلب العبد بادعاء شيء من أوصاف الربوبية لنفسه عقدا أو قولا, لأن ذلك منازعة له, كما ورد: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قصمته»([4]).
ومعنى المنازعة: الدعوى قولاً وعبارة, والإضمار قصدا أو إشارة. ومعنى الغيرة في حقه تعالى أنه لا يرضى بمشاركة غيره فيما اختص به من صفات الربوبية, وفيما هو حق له من الأعمال الدينية. وإذا كان الحق تعالى منعك وحرم عليك أن تدعي ما ليس لك مما أعطى المخلوقين من الأموال, وسمى ذلك ظلما وعدوانا, فكيف يبيح لك أن تدعي وصفه وهو رب العالمين, لا شريك له في ذلك, لا أنت ولا غيرك؟ فهو إذًا أعظم الظلم وأشد العدوان. قال: وهذا المعنى الذي ضمنه المصنف هذه المسألة هو مرمى نظر الصوفية, وكل ما صنفوه أو دونوه وأمروا به ونهوا عنه من أقوال وأفعال وأحوال إنما هي وسائل إلى هذا المقصد الشريف والمقام المنيف, فشأنهم إنما هو العمل على موت نفوسهم وإسقاط حظوظها بالكلية. وليس ذلك هو المقصود لهم بالذات, وإنما غرضهم من ذلك ما يلزم عنه من انفراد الله تعالى بالوجود ولوازم الوجود انفرادا لا يشاركونه في شيء منه البتة.
وهذا كيمياء السعادة الذي أعوز أكثر الناس ولم يحظوا منه إلا بالإفلاس, إذ بذلك يستحق المرء عبودية الله الذي لا مقام للعبد أشرف منه.
ولهذا المعنى كانت عندهم حقائق خطرات الحظوظ, وخفيات هواجس الهوى وكل ما يقتضي بقاء النفس وثبوتها, من محبة المقامات وإيثار الألطاف والكرامات ذنوبا عظيمة وأخلاقا لئيمة قادحة في صدق العبودية والإخلاص للربوبية, يتوبون من جميع ذلك إلى ربهم, ويتعوذون به من شره.
وقال ابن عباد أيضا في شرح قول الحكم: الكون كله ظلمة, وإنما أناره ظهور الحق فيه, فمن رأى الكون ولم يشهده فيه أو معه, أو قبله, أو بعده, فقد أعوزه وجود الأنوار, وهذه الظروف المذكورة ليست بزمانية ولا مكانية لأن الزمان والمكان من جملة الأكوان.
قال: ومعرفة تفصيل هذا الظهور هو والتفرقة بين هذه الحقائق على ما هي عليه تعسر العبارة عنه, وقد زلت فيه أقدام كثير من الناس.
وممن نص على إكفار القائلين بالحلول والاتحاد من أهل التصوف الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في أول الحلية كما تقدم, وكذلك القاضي ناصر الدين البيضاوي الإمام في التفسير والفقه والكلام والأصول والتصوف, وانظر تفسيره المشهور تجده مشحونا بالتصوف. وقد نص في سورة المائدة على كفر من قال بالحلول والاتحاد.
وقال القاضي عياض في (الشفاء) ما معناه: أجمع المسلمون على كفر أصحاب الحلول ومن ادعى حلول الباري في واحد من الأشخاص, كقول بعض المتصوفة والباطنية والنصارى والقرامطة.
وانظر كيف نقل ذلك عن بعض الصوفية, وهم الغلاة منهم. لا كلهم, حاشاهم من ذلك, وكذلك لم ينقل أصحاب الكتب الكلامية ذلك إلا عن بعضهم.
قال الشيخ عز الدين بن جماعة في (شرح الكوكب الوقاد): يجب أن ينزه الله تعالى عن الحلول, خلافا للنصارى وبعض الصوفية, جل الله وتعالى عن قولهم علوًا كبيرًا.