(فصل) أنكر على بعض الصوفية أنه وقع منه أن درجة الولاية أفضل من درجة النبوة. وهذا القول كفر قطعًا. وهذا القول لم يقصد به ما يفهم من ظاهره, بل هو مؤول بما سنذكره. ومع كونه مؤولا فهو شاذ مردود لم يقل به إلا بعضهم, وهو رد عليه.
وتأويله ما ذكره الشيخ علاء الدين القونوي في شرح التعرف: أن الولاية والنبوة بينهما عموم وخصوص مطلق, فكل نبي ولي, ولا عكس, فلا ينفك النبي عن كونه وليًا أصلاً, كما أن بين النبوة والرسالة عمومًا وخصوصًا مطلقًا, فلا ينفك الرسول عن كونه نبيًا أصلاً.
قال صاحب هذه المقالة: إن النبي من حيث كونه وليًا أفضل منه، من حيث كونه نبيًا, لأن الولاية وجهته إلى الحق, والنبوة وجهته إلى الخلق. ولا يلزم من ذلك ما ظن من المحذور, لأنه إنما كان يلزم تفضيل الولي على النبي لو وجد نبي غير ولي, وهذا لا يوجد, كما تقدم.
فالنبي فيه الولاية وزيادة النبوة, فهو أجل مقامًا وأسنى قدرًا, بل لا مناسبة بين مقامه ومقام غيره البتة.
ونظير هذا ما قاله الشيخ عز الدين بن عبد السلام: مقام النبوة أفضل من مقام الرسالة, كما حكاه ابن جماعة في شرح جمع الجوامع عنه, نظرًا إلى أن النبوة مقام العمل, فهي متعلقة بالله تعالى, والرسالة مقام التبليغ, فهي متعلقة بالخلق.
ثم إنه لا يلزم من هذه المقالة تفضيل النبي على الرسول لأنه لا يوجد رسول وهو غير نبي, حتى يلزم ذلك, بل الرسول نبي, وزيادة الرسالة, فهو أفضل من النبي قطعًا, لاجتماع المقامين فيه. فافهم.
وقد قال الشيخ أبو العباس المرسي في قول أبي يزيد البسطامي: (خضت بحرًا وقف الأنبياء بساحله). إنما يشكو أبو يزيد بهذا الكلام ضعفه وعجزه عن اللحاق بالأنبياء, ومراده أن الأنبياء خاضوا بحر التوحيد, ووقفوا في الجانب الآخر على ساحل الغرق يدعون الخلق إلى الخوض. أي فلو كنت كاملاً لوقفت حيث وقفوا.
قال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله: وهذا الذي فسر به الشيخ كلام أبي يزيد هو اللائق بمقام أبي يزيد, فإن المشهور عنه التعظيم لمراسم الشريعة, والقيام بكمال الأدب, حتى إنه حكي عنه أنه وصف رجل بالولاية فأتى إلى زيارته, فقعد في المسجد ينتظره, فخرج ذلك الرجل وتنخم في حائط المسجد, فرجع أبو يزيد ولم يجتمع به, وقال: هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب الشريعة كيف يؤمن على أسرار الله؟
قال: وما جاء عن الأكابر أولي الاستقامة مع الله سبحانه من أقوال وأفعال يستنكر ظاهرها أولناها لهم, لما علمنا من استقامتهم وحسن طريقتهم, وقد ورد: (لا تظنن بكلمة برزت من مسلم سوءًا وأنت تجد لها في الخير محملاً)([1]).
وقد قال الشيخ أبو العباس: جميع ما أخذ الأولياء مما أخذ الأنبياء كزق ملىء عسلا, رشحت منه رشحات, فما في باطن الزق للأنبياء, وتلك الرشحات للأولياء.
وقال أيضًا: الأنبياء يطالعون حقائق الأشياء, والأولياء يطالعون حقائق الأشياء، والأولياء يطالعون مثالها, لا هي, ولهذا قال حارثة -رضي الله عنه- لما سأله -صلى الله عليه وسلم- عن حقيقة إيمانه: (وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَىٰ أَهْلِ الْجَنَّةِ) ولم يقل: نظرت([2]).
وعبارة القونوي في هذه المسألة: لا نعلم خلافًا بين المقرين بالنبوات في تفضيل الأنبياء, وما يعزى إلى بعضهم من تفضيل الولي فقد تأوله هو أو غيره بأن كل نبي ولي قطعًا, وهو من حيث إنه ولي أفضل منه من حيث إنه نبي, لأن ولايته وجهته إلى الحق, ونبوته وجهته إلى الخلق. وفيه مع ذلك ما لا يخفى من الاستبشاع من جهة الإطلاق.
وقال صاحب التعرف: وأجمعوا على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل من البشر, وليس في البشر من يوازي الأنبياء في الفضل لا صدِّيق ولا ولي ولا غيره, وإن جل قدره وعظم خطره, وعلت رتبته.
قال القونوي: قصده في هذا الكلام الرد على ما يروى عن طائفة من الضلال أن الولي أفضل من النبي. وهذا إلحاد وضلال عند أهل التحقيق, وكفر لا يعتقده إلا كل زنديق. ومن ادَّعاه حُكم عليه بالتكفير والتضليل.
قال: نعم, وقع في كلام بعض المتأخرين([3]) أن الولاية أفضل من النبوة. وتأويله أن نُحْسِن الظن فيه بأنه أراد أن النبي فيه صفتان, وذكر نحو ما تقدم.