[19]
سيدي مكين الدين الأسمر([1])
(610- 692)
القطبُ الرباني، صاحب المكاشفات والمجاهدات، الحائز لأسرار أهل الحقائق والتمكين، شيخ المشايخ الراسخين، الفقيه المحدّث سيدي ومولاي عبد الله بن منصور الإسكندراني الشاذلي المقرئ الشهير بمكين الدين الأسمر قُدّس سرُّه العزيز. كان رضى الله عنه من أرباب المجاهدات، وله مكاشفات عجيبة، وأحوال غريبة.
مولده بالإسكندرية، وبها نشأ، وحفظ القرآن، وبرع فيه وفي علومه حتى صار أوحدَ أهلِ زمانه، وأُسندتْ إليه المشيخةُ في الفن، فكان شيخَ القراءات في عموم الشرق، وشُدَّت إليه الرِّحال، ووفدت عليه أكابرُ الرجال.
أخذ عن أبي القاسم الصفراوي رحمه الله علمَ القراءات فأقرأ النَّاسَ مدةً، وكان في بدايته قدّس الله سره يخيطُ الملابس، ويتقوَّتُ من ذلك، وهو مع ذلك يطلبُ العلم، ووصل في المجاهدة أنه كان يَعدُّ كلامَه الذي صدر منه بالنهار، فإذا جاء المساء حاسبَ نفسه، فما وجد من خيرٍ حمدَ الله وأثنى عليه، وما وجدَ من غير ذلك تابَ إلى الله وأنابَ، وبذلك صار من الأبدال.
قال فيه سيدي أبو الحسن الشاذلي رضى الله عنه: الشيخ مكينُ الدين الأسمر أحدُ السبعة الأبدال.
وله كرامات ومكاشفات، قال ابن عطاء الله في «لطائف المنن»: جاء الفقيه مكين الدين الأسمر إلى سيدي أبي العباس وقال له: يا سيدي، رأيتُ ليلةَ القدر، ولكنْ ليست كما أراها كل سنةٍ، رأيتُها هذه السنة ولا نورَ لها. فقال له الشيخ: نورُكَ طَمَسَ نورها يا مكين الدين.
ولقد كنت مع الشيخ مكين هذا بالجامع الغربي من إسكندرية في العشر الأخير من شهر رمضان ليلة السادس والعشرين، فقال لي الأستاذ مكين الدين: أنا الساعةَ أَرى ملائكةً صاعدةً هابطة في تهيئة وتعبئة، أرأيت تأهُّبَ أهلِ العروس له قبل ليلةٍ، كذلك رأيتُهم. فلمَّا كانتِ الليلة الثالثة وهي ليلة الثامن والعشرين قال لي: رأيتُ هذه الليلةَ كالمتغيِّظَة، وهي تقول: هبْ أنَّ لليلة القدر حقًّا يُرعى، أما لي حقٌّ يرعى؟
وكان الأستاذ مكين الدين من أرباب البصائر، ومن النافذين إلى الله.
وكان الأستاذ أبو الحسن يقول عنه: بينكم رجلٌ يقال له عبد الله بن منصور أسمرُ اللون، أبيضُ القلب، والله إنه ليكاشفني، وأنا مع أهلي وعلى فراشي.
ومرةً أُخرى قال فيه: ما سلكتُ غيبًا من غيوب الله إلا وعمامته تحت قدمي.
ولقد أخبرني الأستاذ مكين الدين هذا قال: دخلت مسجد النبي دنيال بالإسكندرية بالدِّيماس، فوجدتُ النبيَّ المدفون هناك قائمًا يُصلي، وعليه عباءةٌ مخطَّطة، فقال لي: تقدَّم، فصلِّ؛ فإنكم من أمَّة نبيٍّ لا ينبغي التقدُّم عليه. فقلت له: بحقِّ هذا النبي إلا ما تقدَّمت أنت، فصلّيتَ. قال: فأنا أقول بحقِّ هذا النبي إلا وقد وضعَ فمَه على فمي إجلالًا للفظ النبيِّ، كي لا تبرزَ في الهواء، قال: فتقدَّمتُ فصلّيت.
وأخبرني الأستاذ مكين قال: بتُّ ليلة بالقَرَافة، وكانت ليلةَ الجمعة، فلمَّا قام الزُّوارُ وقمت معهم، وهم يتلون إلى أن انتهوا في التلاوة إلى سورة يوسف إلى قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ﴾ [يوسف: 58]، وانتهوا في الزيارة إلى قبور إخوة يوسف، فرأيت القبرَ قد انشقَّ، وطلع منه إنسانٌ طويلٌ، صغيرُ الرأس، آدم اللونِ، وهو يقول: من أخبركم بقصَّتنا؟ هكذا كانت قصتنا.
ولقد كنت يومًا مضطجعًا وأنا ساكنٌ مطمئن، فوجدتُ في قلبي انزعاجًا على بغتة، وباعثًا يبعثني على الاجتماع بالأستاذ مكين الدين رضي الله تعالى عنه، فقمت مسرعًا، فدققتُ عليه الباب، فخرج، فلمَّا وقعَ نظرُه عليَّ قال لي: أنت ما تجيء حتَّى يسيرَ النَّاسُ خلفك. وتبسَّم في وجهي، فقلت له: سيدي، قد جئتُ، فدخل وأخرج لي وعاءً، وقال لي: هذا الوعاء اذهب به إلى الأستاذ أبي العباس، وقل له: قد كتبتُ آيات من القرآن ومحوتُها بماء زمزم([2])، وشيء من العسل. فذهبتُ بذلك إلى الأستاذ، فقال لي: ما هذا؟ قلت: أرسله إليكم الفقيهُ المكين الأسمر، فأدلى فيه إصبعًا واحدًا، وقال: هذا بحسب البركة، وفرَّغَ الوعاء، وملأه عسلًا، وقال لي: اذهب به إليه. فذهبتُ بذلك، ثم عدت إليه بعد ذلك فقال لي: رأيتُ البارحة ملائكةٌ أتوني بأوعيةٍ من زجاج مملوءةٍ شرابًا، وهم يقولون: خذ هذا عوضَ ما أهديتَ الأستاذ أبي العباس. انتهى كلام ابن عطاء الله رضى الله عنه في «لطائف المنن».
وكرامات سيدي مكين الدين لا تُحصر، كان رضى الله عنه في زمنه شيخَ القرَّاء، قرأ عليه ناسٌ كثيرون وجماعة آخرون.
توفي نفعنا الله به بإسكندرية سنة 692 ومولده بها سنة 610، ودفن إلى جانب سيدي أبي العباس المُرسي رضى الله عنه في ضريحٍ أُعدَّ له، ومقامُه ثمَّ ظاهرٌ يُزار ويُتبرَّك به، نفع الله به المسلمين.