[21]
سيدي أبو عبد الله بن عباد الخطيب([1])
(733-777)
شيخ مشايخ الإسلام، وكعبةُ القاصدين من الأنام، حجَّةُ الله، الوليُّ الكامل، والشيخُ الفقيه العامل، المصنِّفُ السالك، العارف المحقق الرَّباني، والقطب الفرد الصمداني، ذو العلوم الباهرة، والمحاسن المتطاهرة، سليلُ الخطباء، ونتيجة العلماء، البليغ الوجيه، النَّسيبُ الحسيب سيدنا ومولانا شيخ الشيوخ، وملاذُ أهلِ التمكين والرسوخ، الشاربُ من صافي الشراب، والآتي من الحقائق ما أبهر العقول والألباب، وليُّ الله الأكبر، وغوث الله الأشهر، سيدي الشيخ الفقيه الخطيب، الخاشع الخاشي الأستاذ العارف بالله مولانا سيدي محمد بن مولانا سيدي عبد الله بن مولانا سيدي مالك بن مولانا سيدي أبي إسحاق إبراهيم بن مولانا سيدي محمد بن مولانا سيدي مالك بن مولانا سيدي إبراهيم بن مولانا سيدي يحيى بن مولانا سيدي عباد، النفزي نسبًا([2])، الرُّنديُّ مولدًا([3])، الشاذلي طريقةً ومشربًا، الفاسي مزارًا ودارًا، الشهير بابن عباد الصوفي الزاهد الولي.
ولد رضي الله عنه وأرضاه ببلدته رُندة عام 733، وكان والده قدّس الله سره العالي من الأولياء ومن الخطباء، وبها نشأ، وحفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنوات، فأخذ في تحصيل العلوم، فأخذ علومَ أسرار القرآن من تفسير وقراءة عن والده، وقرأ عليه كتاب «قوت القلوب» لأبي طالب المكي، وأجازه بما فيه، وأخذَ علمَ العربية عن خاله، ثم أخذ في طريق التصوف بعد أن امتلأ من العلوم الشرعية، فأخذ في المباحثة على الأسرار الإلهية حتى أشير إليه، وتكلَّم في علوم الأحوال والمقامات، والعلل والآفات، فأحلَّ كثيرًا من المشكلات، وألف تآليفَ عجيبة، وتصانيف بديعة غريبة.
وكان رضى الله عنه الغالب عليه الحياءُ من الله تعالى، والتذلُّل بين يدي عظمته، وتنزيله نفسه منزلة الحشرات، لا يرى لنفسه مزيةً على مخلوق لما غلب عليه من هيبة الجلال وعظمة المالك وشهود المنة، ولم يتزوَّج قطُّ، ولم يملك أمةً، ولباسه في داره مرقعةٌ، فإذا خرجَ سترها بثوب أبيض أو أخضر، وكان مع ذلك آيةً في التحقق.
وكان ذا صمت، وسمتٍ([4])، وتجمُّلٍ، وزهدٍ، وتواضعٍ، وعفاف، مُعوّلًا في حل المشكلات على فتح العلام العليم، كثيرَ الوقار والحياء، جميلَ اللقاء، حسن الخُلُقِ والخَلْقِ، عالي الهمَّةِ مُتواضعًا، مُعظّمًا عند الخاصة والعامة.
قال الإمام القسنطيني: كنتُ إذا طلبتُه للدُّعاء احمر وجهه واستحيا كثيرًا، ويدعو لي.
وكان أكثرُ تمتُّعهُ من الدنيا بالطيب والبخور الكثير، ويتولى خدمة نفسه.
وكان الذي طلبه في وضع الشرح على «الحكم العطائية» سيدي أبو زكريا السراج فلم تسعه مخالفته، وقد قرَّبَ بها رضى الله عنه حقائقَ الشاذلية، كما قرَّب ابن رُشد مذهب الإمام مالك. قال سيدي أحمد بن زرُّوق: شرحتُ «الحكم» ستة وثلاثين شرحًا، فأبى اللهُ إلا ابنَ عباد في الظهور والاستعمال.
ورحل رضى الله عنه إلى طنجة([5])، وفاس([6])، والتلمسان([7])، وقدم إلى سلا([8])، فلقي بها الشيخ الحاج الصالح السني الزاهد الورع سيدي أبا العباس أحمد بن عمر بن محمد بن عاشر الولي المشهور، فأقام معه، وصحبه سنينَ عديدة، وأخذ عنه طريقةَ الشاذلي، وانقطعَ إليه، ولازم خدمته إلى أن تُوفي رضى الله عنه، وقبره بسلا مَحطُّ رجاء الطالبين، وكعبةُ قصد الراغبين، تلوح عليه أنوارُ العناية، وتُستمدُّ منه أنواء الهداية، وهو على ساحل البحر المحيط بخارج مدينة سلا المحروسة، والناسُ يشدُّون الرحال إليه من سائر بلاد المغرب الأقصى والأدنى، ويستشفون بتراب ضريحه الشريف، وكانت وفاته رضى الله عنه ونفع به عام 777، فرحلَ سيدي ابنُ عباد بعد وفاته إلى حضرة فاس، حرسها الله من كل باس، وتولَّى الإمامة والخطابة بمسجد القرويين من حضرة فاس، ومكثَ بها خمسةَ عشر عامًا، يُدرسُ، ويخطب، ويعظُ الناس.
وله خطبٌ مدوَّنةٌ بالمغرب، مشهورة بأيدي الناس، يقرؤونها، فيما يتعلَّق بمولد النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي السلطان تبرُّكًا.
وله رضى الله عنه تلامذةٌ أخيار مباركون.
وكان رضى الله عنه ممَّا منَّ الله به عليه تألُّفُ قلوبِ الصغار، فهم يحبُّونه محبَّةً تفوق محبتهم لآبائهم وأمهاتهم، وينتظرون خروجَه للصلاة، وهم عددٌ كثير، يأتون من كلِّ درب، ومن المكاتب البعيدة، فإذا رأوه ازدحموا على تقبيل يديه، وكذا كان ملوكُ زمانه يزدحمون عليه، ويتذلَّلون بين يديه.
وكان إذا خطبَ في الناس أبكاهم كبيرًا وصغيرًا، وكثيرًا ما كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ﴾ [النصر: 1]، وكانت تجتمع عموم أهل المغرب يوم الجمعة للصلاة وراءه، حتى السلطان وحاشيته وأتباعه، حتى لم يبقَ بالمسجد مكانٌ خالٍ من الناس.
ورفعت بعضُ أهل المغرب تظلمًا من الوالي، فخطب بحضرة الوالي والشهود: من الأمور المستحسنة ألا يبقى الوالي سنة، فكان كما قال.
وكان شيخه رحمه الله يقول: ابن عباد أمة وحده، ويشير إليه.
وكان رحمه الله يشيد بذكره، ويقدِّمه على سائر أصحابه، ويأمرهم بالأخذ عليه، والانتفاع به، والتسليم له، ويكرّرُ قوله: ابن عباد أمةٌ وحده، ولا شك كذلك.
ومن كراماته رضى الله عنه قال الشيخ أبو مسعود: كنت أقرأ في صحن جامع القرويين، والمؤذنون يؤذنون بالليل، فإذا بأبي عبد الله بن عباد خرجَ من باب داره، وجاء يطيرُ في الصحن، وهو جالسٌ متربعٌ حتى دخل في البلاط إلى أن وصل إلى الصومعة([9])، فمشيتُ فوجدته يُصلّي حول المحراب([10]).
وهو رحمه الله عند أهل فاس بمثابة الشافعي بمصر توفي رضى الله عنه بعد صلاة العصر يوم الجمعة بداره 4 رجب سنة 792، ودفن بكدية البراطل من داخل باب الفتوح.
ولما احتُضر جعلَ رأسه في حجر أبي القاسم من أصحابه، وأخذ يقرأ آية الكرسي إلى أن وصل إلى ﴿الحَيُّ القَيُّومُ﴾ [البقرة: 255]، فصار يكرِّرُها، فلقَّنه بعض الحاضرين بقية الآية الشريفة؛ ظنًا منه أنه غيرُ قادرٍ على كمالتها، فقال رضى الله عنه بلسان فصيح:
ما عوَّدوني أحبابي مقاطعةً |
* | بل عوَّدوني إن قاطعتُهم وصلوا |
وكان هذا آخر كلامه رضي الله عنه وأمدَّنا بأسراره.
وحضر جنازته السلطانُ أميرُ المسلمين أبو العباس أحمد، وخواصُّ أتباعه وفاسًا العتيق التي هي محلُّ الأعلام من الخاصِّ والعام، وفاسًا الجديد التي هي محلُّ الأمراء والأعيان، وأرباب المناصب، وذوي الشأن، وبعد أن دفنوه رضى الله عنه همَّتِ العامةُ بكسرِ نعشه تبرُّكًا به.
ومقامُه من الأماكن التي يُستجاب فيها الدعاء، وعليه قبَّةٌ مبنية معقودة، وضريحٌ يزوره الكبيرُ والصغير، ويتوسَّلُ إلى الله به الغني والفقير، وذو الحاجة والعليل، وما استجار به أحدٌ إلا أجاره.
وله رضى الله عنه كلامٌ في التصوف عال، فمن أراد الوقوف عليه فليراجع تآليفه، وقد ترجمه بتراجم حافلة كثيرٌ من ساداتنا أهل المغرب، ألَّفوا في مناقبه مُجلدات، منهم الإمام سيدي أحمد بن زرُّوق ألف كتابًا مستقلًّا في مناقبه وفضائله، وما ذكرت إلا نقطةً من بحرٍ تلاطم بالأمواج، ففضائلُه لا تُحصى، ومناقبه لا تُستقصى، فهو بحرٌ محيط لا ساحلَ له، اللهم، إنَّا نسألك بسرِّه لديك، ومكانته عندك يا الله يا الله يا الله، أن تمدنا بأسراره، وتنفحنا بأنواره، وتُميتنا على حبِّه وحبِّ أوليائك وأحبائك يا الله، اللهم إنَّا قد رفعنا حوائجنا إليك يا الله، فبسرِّه لا تردَّنا خائبين، واجعلنا من الذين تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم، واجعل آخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين. آمين آمين آمين، لا أرضى بواحد حتى أقول ألف آمين.
([1]) محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن مالك بن إبراهيم بن محمد بن مالك بن إبراهيم بن يحيى بن عباد النفزي الحميري، الرندي، أبو عبد الله، المعروف بابن عباد: متصوف باحث، من أهل «رندة» بالأندلس، تنقل بين فارس وتلمسان ومراكش وسلا وطنجة، واستقر خطيبًا للقرويين بفاس، ولد سنة 733هـ وتوفي سنة 777هـ بفاس. [«الأعلام» (5/299)].
([5]) طنجة: مدينة بالمغرب على البر المتصل بالإسكندرية والجزيرة الخضراء وهي في جزيرة الأندلس. [«معجم البلدان» (3/144)].
([7]) تِلِمْسان: بكسرتين وسكون الميم وسين مهملة وبعضهم يقول: تنمسان بالنون عوض اللام بالمغرب وهما مدينتان متجاورتان مسورتان بينهما رمية حجر إحداهما قديمة والأخرى حديثة. [«معجم البلدان» (2/44)].