[33]
الإمام الكبير مولانا أحمد زروق([1])
(846- 899)
بحر العلوم والمعارف، أستاذ كل مجذوب وعارف، القطب الرباني، والهيكل الصمداني أبو العباس مولانا أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنوسي الفاسي المعروف بزرُّوق.
كان رحمه الله عالمًا عاملًا، زاهدًا ورعًا، له تآليف عديدة لا تكاد تنحصر؛ منها تفسيره للقرآن العظيم، وشرحه على «رسالة ابن أبي زيد القيرواني»، وله ثلاثة شروح على متن «القرطبية»، وستة وثلاثون شرحًا على «الحكم العطائية»، وشرح على أسماء الله الحسنى، وشرحٌ على «دلائل الخيرات»، وله كتاب «النصائح»، وكتاب «قواعد الصوفية»، و«العقائد الخمس»، وله تآليف عديدة في التصوف، ورسائل، وعدة مؤلفات نفيسة.
عاش من العمر ثلاثًا وستين سنة، حسبوا له من يوم ولادته إلى يوم وفاته كرَّاسًا في النصف في كل يوم.
ولد رحمه الله يوم الخميس اثني عشرة محرم عام ثمان مئة وستة وأربعين، وتولى تربيته جدته لأمِّه، وكانت من الأولياء، ومن الصالحات الطاهرات، فلما تم عمره أربع سنوات حفظته القرآن، وصارت تربيه بالدلال والكمال، حتى نشأ محبًّا للعبادة، ملازمًا للأذكار.
فأخذ رحمه الله في تلقي العلوم الظاهرية، واستمر في طلبها حتى أُشير إليه، وتكلم، وجلس للوعظ، وتحضير الدروس، فاشتهر أمره، وقصدته العلماء، ونزلت بساحته، واقتبست من علومه ومعارفه، ثم حُبِّبَ إليه التصوف، فانتظم في طريق القوم على يد المسلك مولانا عبد الله المكي، فأخذ عنه الطريقة، ولازم خدمته زمانًا.
واتفق له أنه دخل على شيخه في خلوته يومًا فرأى عنده امرأتين جميلتي الصورة، إحداهما عن يمينه، والأخرى عن يساره، وهو يلتفتُ إلى هذه تارةً، وإلى هذه تارةً، فقال مولانا زروق في نفسه: إن هذا لزنديق([2]). فقال له الأستاذ: اذهب يا يهودي. فخرج من عنده، فكأنه ألقى عليه سمة اليهود، فصار يبكي، ويتضرع إلى الله تعالى، ومشى إلى بعض أحبابه، فسأله أن يمشي معه إلى الأستاذ، ويستعطفه، فمشى معه إلى الأستاذ، فاستعطفه، فعطفَ عليه وقبله، وقال له: بشرط ألا يجلسَ معنا في بلادٍ أنا فيها، ثم التفت إليه وقال له: يا زروق المرأتان اللتان تشبهتا عليك فهي الدنيا والآخرة، فالدنيا تُريد إقبالي عليها، والآخرة تريد إقبالي عليها، وأنا لا ألتفت إلى قولهما.
فبعد ذلك خرج مولانا زروق من مدينة فاس، وقدمَ إلى مصر، وتلاقى مع مولانا سيدنا أبي العباس الحضرمي رضى الله عنه، وأخذ عنه الطريق، وتلقّن الأوراد، وفُتح له على يديه، وصار شيخه في التربية، وانتسب إليه، ولازمه، وهو شيخه الذي لا معول له في الطريق إلا إليه.
ولما سمعت بقدومه العلماء والفضلاء من أهل مصر وفدوا عليه، وتمثلوا بين يديه وحضروا دروسه، وصار يدرس في الجامع الأزهر الشريف، وكان يحضر درسه زهاء ستة آلاف نفس من مصر والقاهرة وأحوازها.
وتولى إمامة المالكية، وصار أستاذ رواقهم، ونصبوا له كرسيًّا عالي الأركان، بديع الإتقان، صار يجلس عليه، ويملي الدروس ويفيد، فانتفعت على يديه الأحرار والعبيد، وهذا الكرسي موجود إلى وقتنا هذا برواق السادة المغاربة بالأزهر الشريف.
وكانت له صولةٌ ودولة عند أمراء المصريين، وله عندهم القبول التام عند الخاص منهم والعام.
ثم توجه إلى طرابلس الغرب فأحيا بها معالم الطريق، وأوضح بيان التحقيق، وأشهر بها الطريقة الشاذلية، ونشر أعلامها السنية، فانقادت إليه المريدون، وهابته ملوك العالمين، واجتمع بسيد المرسلين، ونُسبت إليه الطريقة لما ظهرت عليه أنوار أهل الحقيقة، وأمر بلسان الحال أن يقول في ميدان الرجال ماسكًا بلحيته: لا شيخ بعد هذه اللحية.
كان رضى الله عنه صاحب حال، وبهاء وجمال ودلال، أطلعه الله على المغيبات، فنطق بسائر اللغات، لم يختلف فيه اثنان، ولا تقوّل فيه قولان، فهو صاحبُ التصريف الأكبر، وغوثُ الأنام الأزهر.
وله كرامات خارقة، وأحوال صادقة، فمن كراماته رضى الله عنه: أن قبيلة من قبائل عرب طرابلس كانوا قطاع طريق، لا تمر بهم قافلة إلا نهبوها، فمر عليهم مولانا رضى الله عنه، فنهبوه هو وتلامذته، حتى تركوهم مستوري العورة، فنظر بعض المريدين إلى مولانا، فوجده لم يتغير، فقال لبعض العربان الذين نهبوا مولانا، انظروا إلى ذلك الأستاذ عنده ذهبٌ في سرواله([3])، فجاء البدوي إلى مولانا وقال: انزع السروال. فقال: سبحان الله، العورةُ يحرمُ علينا كشفها. فقال له مرة ثانية: انزعه، وإلا قتلتك، ومولانا يعظُه بقوله: العورة حرام علينا كشفها. فتقدَّم البدوي إلى مولانا، فقال مولانا للأرض: ابلعيهم يا أرض. فأخذتهم الأرض جميعًا، فصاروا يتضرَّعون إلى مولانا، ويقولون: تبنا إلى الله، فقال مولانا للأرض: أطلقيهم يا أرض. فأطلقتهم. فخرجوا منها، وتابوا جميعًا، وصاروا مع مولانا، لم يتخلف منهم أحد، وصاروا خدام الزاوية الزروقية وإلى الآن باقي من نسلهم يخدمون هذه الزاوية ويقال لهم خدَّام الزاوية الزروقية.
ومن كلامه رضى الله عنه في تائيته:
فإني هجرت الخلق طرًّا بأسرِها |
* | لعلي أرى محبوب قلبي بمقلتي([4]) |
وملكت أرض الغرب طرًّا بأسرِها |
* | وكل بلاد الشرق في طي قبضتي |
أنا لمريدي جامعٌ لشتاته |
* | إذا ما سطا جورُ الزمان بسطوتي |
فإنْ كنتَ في كربٍ وضيق وشدة |
* | فناد أيا زروق آت بسرعة |
فكم كربة تجلى إذا ذكر اسمنا |
* |
وكم كربة تجلى بأفراد صحبتي |
توفي رضي الله عنه ونفع به عام ثمان مئة وتسعة وتسعين، ودفن بسملاطة من طرابلس الغرب، وله مسجد كبير، تقام فيه الشعائر، ومقامٌ وضريح يزار، وما توسَّل به متوسل إلى الله إلا ونال ما يرتجيه.
اللهم، إنا نتوسل به إليك في أن تكون لنا ولإخواننا مُعينًا وناصرًا، واحشرنا في زمرة الأولياء، ووفقنا لخدمتهم، وأمتنا على حبهم حتى نلقاك يا ربَّ العالمين.
([1]) أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي، أبو العباس، زروق، فقيه محدث صوفي. من أهل فاس، تفقه في بلده وقرأ بمصر. ولد سنة 846 هـ وتوفي في تكرين سنة 899 هـ. غلب عليه التصوف فتجرد وساح، له تصانيف كثيرة منها: «الاختصار مع التحرير» و«شرح مختصر الخليل»، و«إعانة المتوجه» في التصوف وغير ذلك. [«الأعلام» (1/91)].