[44]
مولانا عبد العزيز الدباغ([1])
(1095- 1131)
الولي الكامل، الغوث الحافل، الصوفيُّ الباهر، نجم العرفان الزاهر، صاحب الإشارات العلية، والعبارات السنية، والحقائق القدسية، والأنوار المحمدية، والأسرار الربانية، والهمم العرشية، منشئ معالم الطريقة بعد خفاء آثارها، ومبدي معالم الحقائق بعد خبو أنوارها، الشريف الحسيب، الوجيه النسيب، ذو النسبتين الطاهرتين الجسمية والروحية، والسلالتين الطيبتين الشاهدية والغيبية، والولايتين الكريمتين الملكية والملكوتية، المحمدي العلوي الحسني، قطب السالكين، وحامل لواء العارفين، شيخنا وسيدنا ومولانا سيدي عبد العزيز بن سيدنا ومولانا مسعود الدباغ بن سيدنا ومولانا أحمد بن سيدنا ومولانا محمد بن سيدنا ومولانا محمد بن مولاي أحمد بن عبد الرحمن بن قاسم بن محمد بن أحمد بن سيدنا ومولانا قاسم بن محمد بن محمد بن إبراهيم بن عمر بن عبد الرحيم بن عبد العزيز بن هارون بن فنون بن علوش بن منديل ابن عبد الرحمن بن عيسى بن أحمد بن محمد بن عيسى بن مولاي إدريس الأزهر بن مولاي إدريس الأكبر بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن سيدنا الحسن السبط بن سيدنا ومولانا علي رضي الله عنهم أجمعين.
ولد قدس الله سره بفاس، وكان قبل ولادته أوصى لأبويه سيدي ومولاي العربي الفشتالي بأمانة، وقال لهما: سيزيد عندكما عبد العزيز، فأعطوه هذه الأمانة، وكانت هذه الأمانة هي شاشيةٌ وسباطٌ، فحفظوهما حتى حملتْ به أمه الشريفة، فلما حملت به، ووضعته، تربى في حجريهما، حتى بلغ سن الرشد، وصام من ذلك العام، وألهم الله سبحانه وتعالى أمه، فأعطته الأمانة التي أوصى بها مولاي العربي، وقال قدس الله سره: فأخذتها، وجعلت الشاشية على رأسي، والسباط في رجلي، فحصلت لي سخانةٌ عظيمة حتى دمعت عيناي، وعرفتُ ما أشار به سيدي العربي، وفهمتُ إشارته والحمد لله رب العالمين، ووقع لي الفتح منذ لبستها، وألقى الله في قلبي التشوف إلى العبودية الخالصة، فجعلت أبحث عنها غاية البحث، فما سمعت بأحد يشيخه الناس إلا ذهبت إليه وشيخته، حتى تم الفتح على يد سيدنا الخضر —، ولقنني الورد عند السدرة المحررة بضريح الولي الصالح سيدي علي بن حرزم، وقطعت ما أمرني به في ثلاثة أيام، واجتمعت بسيد الأنام، عليه أفضل الصلاة والسلام بعد ذلك، وصرت أراه يقظة لا منامًا، وكنت قبل ذلك أُلازم سيدي عبد الله البرناوي قدس الله سره، فقال بعد الفتح: يا عبد العزيز، كنت أخاف عليك قبل اليوم، واليوم حيث جمعك الله مع رحمته تعالى وسيد الوجود صلى الله عليه وسلم أمن قلبي، واطمأنَّ خاطري، فأستودعك الله عزَّ وجلَّ، فذهب إلى بلاده وتركني.
قال قدس الله سره: ومن جملة من لقيته من المشايخ، سيدي محمد اللهواج وبلاده بقرب تطاون، وسيدي عبد الله البناوي، وسيدي منصور، وسيدي عمر قيم الروضة، وكل هؤلاء ورثتُ أسرارهم، والحمد لله.
قلت: وقد اجتمع قدس الله سره اجتماعًا آخر مع جماعة من الأولياء منهم: سيدي أحمد بن عبد الله، وكان من أهل الدائرة، ورجال الديوان، وبسبب صحبته له أطلعه الله تعالى على أسرار القرآن، حتى حل مشكلاته، وفك طلاسم آياته، ونطق بالمغيبات، وشاهد أسرار الملكوت، وجالت روحه في ميدان الجبروت([2])، وظهرت له كرامات، ونطق بسائر اللغات، ودانت له ملوك الأرض، ونزلت بساحته الأولياء، واستمدوا منه بسائر الإمدادات.
ومن كراماته قدس الله سره، تأثير كلامه في القلوب، فقد جاءه فقيه من الفقهاء ذات يوم، وقال له: يا سيدي، ادع الله لي بقطع الوساوس من قلبي. فقال قدس الله سره: الوسواس([3]) لا يكون إلا مع الجهل بالطريق، فمن قصد مدينة، وهو جاهل بطريقها، فإن الخواطر تختلف عليه، ويقول له خاطره: الطريق هكذا، فيتبعه، ثم يقول له آخر: بل الطريق من ها هنا، فيبقى حيران، ولا يدري أين يذهب، والعارف بالطريق يسير، وقلبه سالم من ذلك، وطريق الدنيا والآخرة هو الله تعالى، فمن عرف هذا ربح خيري الدنيا والآخرة، وأحياه الله حياة طيبة، ومن جهل هذا كان على الضد. قال الفقيه: فلما سمعت هذا الكلام رحمني الله به، فصار الخاطر إذا توجه لقضاء حاجة من غيره تعالى جذبه جاذب من غيره، ورده إلى الله عز وجل.
وكراماته قدس الله سره لا تنحصر، فهو البحر الزاخر، والسر الباهر، والكنز المطلسم، والغوث المفرد والعلم.
وقد أطال في كراماته تلميذه في «الإبريز» فراجعه تفز بعناية الملك العزيز.
وكان قدس الله سره يقول لتلميذه سيدي ابن المبارك: يا ابن المبارك، لو عاش إبراهيم الدسوقي من زمانه إلى الآن ما أدرك صاحبك عبد العزيز من الصباح إلى الآن.
أقول: الأولياء رضى الله عنهم وإن علت مراتبهم فهم فوق ما ندركه، سيما وعلمهم هذا لا يحاط بالفكر، ولا يقتضي للعقل تصوره، وإنما علمهم هذا وراد العقل؛ إذ قد تقرر عند علماء هذا الفن أن العقل وراءه أطوارٌ، وهذه الأطوار تنطوي تحتها علومٌ وأسرار، هي علوم الخواص، فيجب علينا إذن التسليم، فقد قالوا: التسليم ولاية، ونعني به الولاية الصغرى، وكقول القائل:
وإذا لم تَرَ الهلالَ فسلِّمْ |
* | لأناسٍ رأوه بالأبصار |
ومثل هذه المقالة لا تحط قدرًا من العارف سيدي إبراهيم الدسوقي، فإن مثال هؤلاء علومهم علينا مبهمة، ولا يمكننا فهمها، وأيضًا لما يتكلمون به في بعض الأوقات بلسان الحال، وما من وليٍّ إلا وله شطحات ومشاهدات، انظر كتب الصوفية ساداتنا تجدها مشحونة بهذه الأقوال، نفعنا الله بهم، ورزقنا التسليم لأقوالهم وأفعالهم. آمين.
وكانت وفاة مولانا عبد العزيز الدباغ قدس الله سره سنة إحدى وثلاثين وألف، عن ستة وثلاثين عامًا.
وكان قدس الله سره أميًّا، لا يقرأ ولا يكتب، ومن أراد الوقوف على شريف حاله، وخصائص سره، وعلو مقامه، فليطالع «الإبريز» فقد جمع فيه تلميذه المشار مناقبه وفضائله، والحق ما هي إلا قطرة من بحر فضائله.
وضريح مولانا سيدي عبد العزيز بحضرة فاس من أعظم الأضرحة وأجلها، ومقامه بالمغرب كمقام أكبر ضريح بمصر، تشد إليه الرحال من أقصى البلاد، وتتزاحم عليه العباد، ويرجون عنده خيرًا كثيرًا، وضريحه تلوح عليه الأنوار، ويراعي زائريه، ويمدهم بالنفحات، اللهم احشرنا في حزبه، وأمتنا على حبه وحب أتباعه. آمين.