أحضر بين يديك خريطة العالم الإسلامي، وغمض عينيك، وضع يدك، فما صادفك من مدينة أو قرية أو عاصمة إلا وتجد فيها من إذا تحرَّك، أو سكن، أو نطق، أو صمت، أو سار، أو قعد في ليل أو نهار ينادي من أعماق قلبه: مدد([1]) يا سيدي سلامة، مدد يا أبا حامد، مدد يا سيدي الراضي.
هذا الاسم الشريف المحبوب لكل القلوب، المذكور بكل لسان مع الإجلال والخشوع، هو اسم سليل الرسول صلوات الله عليه وسلامه، وجده الأدنى سيدي حامد صاحب المسجد والضريح بمدينة المنيا، وكذا سيدي أبو طقية الكائن مسجده وضريحه بمدينة الريدة([2]) إحدى ضواحي المنيا.
نشأ السيد سلامة ببولاق، وتعلم القراءة والكتابة إلى السنة التاسعة، ودخل الخاصة الخديوية يومئذ في ابتداء العاشرة، وتوظف في ابتداء الثانية عشرة، ولا يزال موظفًا يأكل بعرق جبينه، وابتدأ بالتأليف وهو بين أيدينا حوالي العاشرة.
واجتمع بالكثير من أهل الولاية والعرفان من مشارق الأرض ومغاربها، وأخصهم سيدي القطب العلامة سيدي الشيخ مرزوق المالكي البحر الجامع بين الشريعة والحقيقة رضى الله عنه.
ابتدأ شيخنا رضى الله عنه بتلقين المريدين في حدود السادسة عشر من عمره، آخذًا بالجدِّ في كل أمره، فربى إخوانًا، وأخرج بتربيته العالية رجالًا هم غرَّةُ الطريقة وبدورها، أسمى طريقته: الحامدية الشاذلية. وبالحامدية الشاذلية أحيا للناس سنة الصوفية الماضين، وأذاق الناس والقاصدين والوافدين من عذب مباني العرفان والتحقيق ما لا يجد الناظر إلا في الأسفار مسطورًا.
ولما رفع شأن الطريق، وأعلى منازلها، وضربت صيتها في البقاع، قرر المجلس الصوفي العالي، برئاسة سماحة السيد البكري طريقتنا ضمن الطرق المعترف بها سنة 1345، ولأنها الطريقة الوحيدة الملتزمة جانب الشرع الشريف، أذنت لها وزارة الأوقاف المصرية بإقامة الحضرات في مساجدها الشهيرة، فتقام حضرةٌ أسبوعية كل مساء أحد بمسجد سيدنا الحنفي رضى الله عنه، ومساء الاثنين بمسجد سيدي علي البيومي، ومساء الثلاثاء بمسجد السيدة فاطمة رضي الله عنها، ومساء الأربعاء بمسجد سيدي عبد الوهاب الشعراني رضى الله عنه، وهلمَّ من الكثير العديد من المساجد في المدن وعواصمها.
أما تآليف الأستاذ فقد زادت على الثمانين كتابًا، طبع بعضها مرارًا، والبعض الغالب بخط يده الكريمة إلى اليوم. فمما طبع: «المنح الحامدية» «الجواهر الحامدية» «الفيوضات الموعظية الحامدية» «نظام الروابط» «الجوهرة» «النفحة المحمدية» «مظهر الكمالات في مولد سيد الكائنات» «نفحات العشاق» «حنين العشاق» «حزب تفريج الكروب» «حزب الإخلاص» «السلسلة الذهبية» «غنية المنشد» «قانون طريقة السادة الحامدية».
ومما لم يُطبع: «شرح الوظيفة» نحو الألفي صحيفة، «أسئلة على البسملة»، «شرح الخمرية» نحو أربع مئة صحيفة، رسالة في معنى ﴿ فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ [الطارق: 5]. إجابة لسؤال بعض الأطباء العصريين. «رسالة في معنى قول سيدنا عمر رضى الله عنه: نعم نعم العبد صهيب». «إجابة لسؤال بعض علماء الصعيد». «رسالة المنتظر». «رسالة لبعض الدكاترة اللاتينيين المستشرقين»، حضروا لمصر خصيصًا للأستاذ، واستأذنوا وزارة الأوقاف المصرية، فأذنت لهم بحضور حضرات الأستاذ بالمساجد، ثم سألوه أسئلة صوفية دقيقة، فأجابهم رضى الله عنه بهذه الرسالة، وقد تُرجمت إلى الإنكليزية، ولها شهرةٌ في أوروبا كبيرة، ولو شئنا أن نسرد بقية المؤلفات والرسائل لضاق بنا الكتاب.
أما طريقة تأليف الأستاذ فإنه إذا خطر له تأليف أي شيء أو الكتابة عن موضوع، فما هو إلا أن يأخذ القلم والكراس ويكتب ما شاء الله أن يكتب في وسط إخوانه: يذاكر هذا، ويجيب ذلك، ويؤانس ثالثًا، ويأذن لرابع بالدخول، وهلمَّ.
وهذه نتف من بعض كتاباته:
قال رضى الله عنه ص42 كتاب «النفحة المحمدية» (193): إذا سكن النور في أرواحكم ظهر على ألسنتكم، فيخلو كلامكم، وتذوق القلوب له طعمًا لذيذًا تتغذى به، فتحيا به بعد موتها.
وفي ص58 منها (234 الشرائع): كل مجموعة في النهي عما يباعد عنه، والأمر بما يرضاه ويقرب إليه، فكل ما يقربك إليه طاعة، وكل ما يباعدك عنه معصية، ولما كان وضع شرع لكل فرد خارجًا عن الحصر، ويتعذر على الخلق تمييزه، كان التشريع بحسب الوسط العرفي، فكلُّ ما ظهر سر التشريع فيه ندور فيه مع حكمة التشريع، وإلا كان الأسلم لنا وقوفنا مع الوارد من غير تأويل ولا توجيه، ولذلك قالوا: كلُّ ما ذكَّرَك ربَّك، وأخذَ قلبك إليه فهو ذكر. اهـ.
وكتب رضى الله عنه هذه الرسالة إجابة لأسئلة وردت عليه، وهي:
1- هل الذاكر عقب الذِّكر يكون في قرب مقدس؟
2- ما يَشعرُ الذاكر عقب الذكر؟
3- إذا كان في قرب وتقديس في المرة الأولى، فلم يكرر الذكر بعد ذلك؟
4- هل القرآن كافٍ في التقرب، أو يحتاج إلى تكملةٍ؟
5- هل يمكن لرجلٍ ما أن يرى الله؟
فأجاب رضى الله عنه، لَمَّا كانت الحضرة الإلهية مقدسة، ولا يدخلها إلا مقدس، كان مقصد السائرين إلى الله تطهير نفوسهم عن شوب الهوى الناشئ عن المعاصي، وعن الظلمات المتراكمة على القلب من أثر الخواطر السيئة التي تتولد في النفس بحب الشهوات الدنيوية، والميل إليها، وذلك هو الخاطر النفساني، وهو يحدث نكتة سوداء في القلب، أو تقول ظلمة أو تقول إن القلب يتكيف بذلك الخاطر، وذلك يعميه عن غيره، والشيطان الذي يظهر بظلمة البعد عند ما يبصر تلك النقطة السوداء التي حدثت في القلب، يتخذها مركزًا له بحكم التناسب، فيتصل بجوهره الظلماني بتلك النقطة السوداء ويُلقي وسوسته، ويزين للإنسان ذلك الخاطر النفساني، فإذا تخلت العناية الإلهية عن ذلك العبد سار في طريق البعد تبعًا لنفسه وشيطانه، فازداد بعدًا، وانحط إلى مصاف البهائم، إن كانت شهواته بهيمية، أو إلى مصاف الشياطين إن كانت شيطانية، فإذا أدركته العناية ورد على قلبه خاطر ملكي، مُلقى بواسطة الملائكة من العالم الأعلى، وهنالك يتعالج خاطر النفس والشيطان، أو أحدهما مع الخاطر الملكي، فأيهما غلب كان القلب لأحدهما، إما لجنود الظلمة أو جنود النور.
وهناك خاطر رابع، يقال له الخاطر الرباني، هذا الخاطر لا يقاومه شيءٌ، ويمحق ما عداه من الخواطر، ويحصل عند الإنسان يقينٌ بأنه خاطر رباني، فإذا صحبه ظنٌّ، أو شك، أو وهمٌ في أنه رباني، أو ملكي فليس بخاطرٍ رباني.
وقد اختلفت طرق الأشياخ في تطهير القلوب، فمنهم من سلك طريق قراءة القرآن، وهي أعلى الطرق لأهلها، وبعضهم سلك من طريق الذكر، وبعضهم من طريق تصفية الأخلاق بالسفر وخدمة الفقراء والصدقة، وبعضهم من طريق قراءة العلم، والعمل به، وبعضهم من طريق الأحزاب، والطرق كثيرة جدًّا، وكلها ترمي إلى التخلي عن الشهوات المبعدة عن الله سبحانه وتعالى، وأن يسير فيما فيه رضاه، ولكن أكثر الأشياخ وجدوا الذِّكرَ أقرب طريق للوصول إلى حضرة جناب الحق سبحانه وتعالى، وذلك لا يتم للسالك في بدء سيره متفرق القلب، ممتلئًا بالخواطر، مشتغلًا بالدنيا، وقلبه ليس مجموعًا على ربه، فإذا قرأ القرآن في بدء سيره، كان في أثناء القراءة متفرقًا فإذا مر بقصة موسى وفرعون ذهب مع ظاهر القصة، وتفكر في سحرة فرعون، وفي الآيات التي نجا بها موسى، وغرق قوم فرعون، وهذا كله مما يزيد قلبه تفرقةً، أما إذا كان التالي يستشعر في حال التلاوة تعظيم القرآن، ويستغرق في الحضور بين يدي المتكلم بالقرآن، ويستحضر عظمة الحق بحيث أن ذلك يأخذه من خواطره، ويبعده من تفرقته، فذلك هو الجمعية الكبرى للقلب، وبها يزداد قربًا لا يعادله قرب الذكر، ولا الأوراد ولا غيرها.
ولما كان غالب الخلق في أسر نفوسهم، وهم عبيد لشهواتها، وقلوبهم متفرقة عن ربهم، فهم في مقام الضعفاء لا الأقوياء، وإذن يؤمرون بقراءة شيء من القرآن؛ لئلا يتصفوا بهجر القرآن، ثم يؤمرون بذكر اسم واحد، وتنوعت طرقهم في ذلك، لكن الكل يرمي إلى حصر بصر القلب في نقطة واحدة لا يتعداها. فيقول مثلًا بلسانه: (الله) وبقلبه: (الله) لا يحيد عنه في ليل أو نهار، يكون ذلك ديدنه بقيامه وقعوده، ليله ونهاره، ويلتزم ذلك السنين العديدة، فيمتزج ذلك الاسم بروحه، ويسري فيه، وإذن تنقطع الخواطر التي تبعده عن حضرة ربه، ويُسمى ذلك بالجمعية القلبية، ومع كل هذا لا يفارق الذكر خوفًا من ضياع جمعيته؛ لأن بحار التفرقة تتلاطم أمواجها حوله.
ولما كان التزام الاسم الواحد لا يكون منتجًا، ولا يتحقق للسالك جمعيته، وهو يخالط الناس؛ لأن ذلك يفرق عليه جمعيته، اضطر السالكون للعزلة عن الناس، أو دخول الخلوة، حتى تنقطع عنهم مادة التفرقة، فإذا انقطعت عنه الخواطر السيئة، تجوهرت روحه، وصارت طاهرة من الشهوات، وظهر حكم الروح بسريان الاسم في الروح، ومعنى السريان أن الإنسان الطاهر يكون فيه مجانسةٌ ومناسبة، وتألف بالملائكة كأنه أحدهم، فتظهر الملائكة، ويفيضون عليه العلوم اللدنية من غير تعلم سابق، وتظهر قوة روحه، فتعمل الأعمال العجيبة، وتتصرف في الأكوان بقوتها، ويندرج الجسم في الروح، فيظهر حكم الروح، ويبطن حكم الجسم، فيكون الشخص كأنه ملك من الملائكة، ظهر في عالم البشر بقوة، فإذا فرح الشخص بذلك، واطمأنَّ إليه، وأخلد إلى عالم الملائكة، واقتنع بأن كشف له عن عوالم الجن وخواص النباتات، ووقف مع ذلك، كان هذا قاطعًا له عن السير إلى ربه، ومهما تبرجت ظواهر المكونات إلا نادته حقائقها: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ [البقرة: 102].
ومن أدركته العناية، وعلم أن من كان مراده الحقَّ لا يقف مع سواه، ولا يقر له قرار حتى يصل إلى مولاه، وعلم أن الوقوف مع الأنوار حجابٌ عظيم له عن ربه، لم يلتفت إلى كل ذلك، ووصل التيار بتوجه قلبه إلى ذكر ربه، ولا يترك التزام اسم من الأسماء، فيذكر مثلًا اسم (هو) وهو ذكر الضمير، فيزداد استغراقًا في ربه، ويتوالى الاستغراق حتى يسري الذِّكرُ في أنفاسه، وحركاته وسكناته، وخواطره، وكليته ظاهرًا وباطنًا، فإذا اشتد الاستغراق غاب عن نفسه ولم يشعر بها، وذلك هو مقام الفناء، وحينئذ يتولاه الحق بعنايته، فيقلبه ذات اليمين وذات الشمال وهو متقلب في يد مولاه، ولا يشعر بتصاريف الأقدار التي تسري فيه، وربما كلمك وفهم منك وهو لا يشعر، والحق متوليه، فإذا مَنَّ الله عليه بالبقاء أقام فيه وعاء وجوديًّا، يشعر به وهو مع ذلك في مقام الفناء، فينظر الأشياء بنظر الله تعالى لا بنظره، ويشهد الأشياء فائضة من الحق مخلوقة له، ويعرف الفرق بين مرتبة الرب ومرتبة العبد، ولا يزال يتدرج في درجات البقاء، ويقوم بالعبودية لله بالله من الله، ولا يترك أفعال القربات من الصلاة والصيام، فتراه كأنه من العوام، لا يتميز عنهم.
ومن كان صاحيًّا حاضر العقل، وقال بإسقاط التكاليف الشرعية، كان زنديقًا، ويخرج من الدين، أما من ذهب عقله في الله، لا يحسُّ بالظواهر، فهذا لا حكم للشرع عليه، ومتى ذهب العقل فلا تكليف على ذاهب العقل.
ومتى علمتَ أن العبد يصل بعد الفناء إلى البقاء، يتجلّى الله له، فيشهد ربه في حال البقاء الغارق في الفناء، بلا كيف، فلا يحجبه الفناء عن البقاء، ولا البقاء عن الفناء، ولا تحجبه وحدته عن كثرته، ولا كثرته عن وحدته، وهو مجموع في تفرقته، ومتفرِّقٌ في جمعيته، فيشهد بقلبه أنوار ربه، ويشهد تجلياته بصفاته من غير حلول، ولا اتصال، ولا انفصال، ولا يشهد الحق عين الأشياء، ولا يشهد الأشياء عين الله، ويشهد الأشياء والأعيان ثابتة في الحضرة العلمية من غير قدم للعالم مع كون الحق في أبده وأزله يشهد الأشياء في دائرة إمكانها، تنتقل من عدم إلى وجود، ومن وصف إلى وصف، ومن حركة إلى سكون، وعكسه، ويعلّمُ أن الحضرة العلمية ليست محلًا للحوادث، جل علم الله عن أن يكون ظرفًا للمحدثات، وإذن يقال: إن العبد لا يرى ربه إلا بربه، ويكون مشهد ذلك القلب الذي هو وجه من وجوه الروح التي تطهرت من الأغيار كلها، فإذا عمَّ ذلك التطهر كل وجوه الروح، ولم يبق فيها خاطر للأغيار ألبتَّة، وغاب حكم الجسم كله، لا غياب الجسم، وارتقت عن العوالم كلها، ونفذت من عالم الظلمات والأنوار، جاز أنه يرى الحق عيانًا بعين رأسه، وعين قلبه في دار الدنيا، وقد منع العلماء ذلك لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجازه القليل، وبعضهم قال: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه إلا بعين قلبه، وبعضهم قال: إنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، وهو حديث عائشة رضي الله عنها. ولما سُئل صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أرأيت ربك؟ فقال: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ». وإنكارُ المعراج من بيت المقدس إلى العرش ليس مكفِّرًا. وإنما الكفر هو إنكار الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ لأنه إنكارٌ لصريح القرآن، فإن قيل: كيف يرى ربَّه بربه؟ قلنا: إن للإنسان بصرًا، والبصر وإن كان قوة في الروح آلتها العين الباصرة، ولكن تلك القوة لا تبصر بنفسها، بل بالله تعالى، فبالله تبصر لا بعينك. وإن قيل: إن في العين أو في الروح قوةً مودعة بها يبصر الإنسان لا بالله. قلنا: هل تلك القوة منقطعة عن الله وخارجة عن دائرة قدرته، وتركت تفعل ما تشاء؟ وكلُّ هذا باطل؛ لأنها لو لم تكن مستمدة بالأمر الإلهي في كل لحظة لتلاشت، ولم يبق لها أثر، فهي إذن مستمدة من الله، وهل تستمد قوة مخلوقة تفعل وتبصر بها؟ هذا لا يصح؛ إذ فيه الدور أو التسلسل، وهما محالان، فلم يبق إلا أن حقيقة البصر لله تعالى، ولكنه يظهر في الروح والعين، بحسب استعداد كل منهما، فإذا علمت ذلك عرفت أن العبد لا يشهد الحق إلا بالحق.
فالذاكر عقب الذكر يشعر بخشية، أو خشوع، أو بعلم، أو بنور، أو بغيبة عن الخلق، أو بجذبة إلهية، تأخذه عن نفسه، أو تمر عليه بروق نورانية، أو لوامع، لذلك أمر الأشياخ أن يسكن الإنسان عقب الذكر سكونًا تامًّا؛ حتى إذا ورد عليه وارد يتمكن منه، ويسري في عوالمه، وربما عمره الوارد الواحد ما لم تعمره العبادة في ثلاثين سنة، والعبد عقب الذكر ما دام متفرغًا للتعرض لنفحات الله، تائبًا من ذنوبه، مقبلًا على ربه، غير مصر على المعاصي يكون بالطبع قريبًا من ربه، وإن لم يشهده، لأن كل مطيع قريبٌ من ربه. وذلك نوعٌ من التقديس، وهذا ليس بأعلى المقامات، ولا نهايتها، فيعاد الذكر، ويكثر منه كثرة زائدة حتى يدوم ترقيه، ويسري الذكر في كليته، وتشرق أنواره في عوالمه، وبها يفنى عن نفسه، ويبقى بربه، وإذن لا بد أن يذكر الله كثيرًا كثيرًا. فالقرآن كاف للقرب، فمن التزمه بشرطه الذي تقدم كان كافيًّا في الهداية، ولا يغيب أن في القرآن كليات قد بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمر الحقُّ في القرآن أن نأخذ بما يأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر:7]، فهو صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ للناس ما نزل إليهم من ربهم، فأصل الدين عندنا هو القرآن، ثم أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأوامره، فلا يقال إنَّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكملةٌ لنقصٍ في القرآن، وإنما هو بيان لما أبهم علينا في القرآن. اهـ.
وأما ما نظمه فهو كثير جدًّا، وهذه بعض أبيات من شعره رضى الله عنه:
سكرنا بخمرِ الحبِّ في العالم الأسنى |
* | وفي حُسْنِ سَلمى مُذْ تجلَّت لنا هِمنا |
فنينا بها عنَّا وعن كلِّ كائنٍ |
* | فأَصبحتُ لا أدري وفي نورها غبنا |
وصرتُ غريقَ الحُسنِ في كلِّ وجههٍ |
* | وحفَّتْ بنا أنوارها حيثما كنا |
تعالت عن الأشياء نزِّه جمالها |
* | عن الغير والأنوار لكنْ بها قمنا |
ومنها:
وروحك قد كانت ولا قيد عندها |
* | فقيدتها لما رأيت بها الكونا |
عليك بطي الكون وامح نقوشه |
* | ولا تبق كيفًا في الوجود ولا أينا |
وكنْ فارغًا من كل علمٍ وصورةٍ |
* | وعنك وعن زهدٍ وعما تفكرنا |
تكن ذاهبًا بالرُّوح نحو جمالها |
* | ولست ترى ذاك الذهاب ولا رينا |
هنالك تصفوا الرُّوحُ عن وصمةِ السِّوى | * | وتقييدها بالغير كان لها غينا([3]) |
فتخرجَ عن كل الجهات وقيدها |
* | وتخرج عن جسم وعما تخيلنا |
يكونُ لها الإطلاقُ والحق خالقٌ |
* | ومن نور أمر الله كانت فخذ عنا |
وبالحقَّ قامَ الكلُّ والحق قائمٌ |
* | على كل نفس بالكتاب تحققنا |
فيشرق قلبٌ قد تسمى بصيرةً |
* |
وتشهد ذات الحق والنور والحسنا |
ومنها:
فإن كنتَ من أهل المحبَّة والصفا |
* | ففي لحظة يبدو الجمال ولا مينا |
فلا تلتفتْ للنَّفس واطرح مقالَها |
* | فمشربنا عذب وفيه تمكنا |
فأَقبلْ تجدْ سرَّ المحبَّة ظاهرًا |
* |
وعم جميع الكون والحق نزهنا |
وهذا موال([4]) من كثير:
إن كان يقول ليلى |
* | وإلا هند أو سلمى |
أو دعدًا وزينب |
* | أو عزة أو سلمى |
دي ستاير والقصد |
* | في الحقيقة هو المحبوب |
إن كنت منا تفهم كلامنا |
* | وقل للخليِّ دعنا |
ومن الأدوار:
ياللي على روحي حَكَم |
* | كلّك جميل كلّك حكم |
بسِ البعاد جسمي انضنى |
* | يكفي دلال بقيت عدم |
إن كنت تبخل باللقا |
* | فامنن بطيفك وحبني |
هجرك يشمت بي العدى |
* | يعطف حبيبي يا ترى |
إن كان دلالك يأمرك |
* | بالهجر دا لطفك غلب |
هنيت كتير من غير تعب
|
* | مين دا يقول حبي ظلم |
واخضع لأمرك وامتثل |
* | وكل دا قصدي الرضا |
وأما كراماته رضى الله عنه: ادخل أي مدينة أو قرية أو مِصْرًا من الأمصار، واصغ إلى من شئت منهم، يحدثك بالكثير الطيب الخالد من كرامات مولانا الراضي رضى الله عنه.
فمن شفاء لمريض حارت فيه الأطباء.
من ردِّ ضائعٍ غاب السنوات.
من حضور عند مناداة بنجدةٍ في خلوات.
من تعسر عيشٍ، فدعا الله ببركة حبيبه سلامة، ففتح الله الباب.
من متهم في قضية وهو مظلوم، فنجاه الله من شبكة الظالمين.
من نار اشتعلت، فكادت تهلك الحرث والنسل، فأطفأها الله ببركة شيخنا.
من غريق في النهر، فوجد شيخنا رضى الله عنه بشخصه الروحاني ينتشله من وسط اللُّجَّة([5]).
من قوم ركبوا مركبًا، فانقلبت بهم، فاستغاثوا باسمه الشريف، فاعتدلت المركبُ، ولم يضع منه شيء أبدًا.
وهل هناك أكبر كرامةٍ وخارق للعادة، من مثل ما ترى من قيام رجلٍ فرد بإيجاد طريقة وبنشأتها، ورفع رايتها إلى السماء، وتضربُ شهرتها في المشرقين والمغربين، ويفتخر بالانتساب إليها كل سريٍّ وصاحب جاه ومنصب، ويسعى كل زعيم وأميرٍ إلى التعرف بشيخها، وإذا سار شيخها، بموكب فلا يقلُّ عدد الموكب عن الاثني عشر ألفًا أبدًا طريقة ينشئُها فردٌ، فتبتلع في أحضانها كلَّ طريقةٍ أخرى. مضت المئات من القرون وهي قائمةٌ، وهذه الحامدية الشاذلية ومنشئها قائمٌ بيننا خلَّدَ الله عمره، يبلغ عددها نحو المئة ألف أو تزيد. بربِّك، أليست هذه هي الكرامة المُضيئة كالشمس؟!.
ولكني لا أتركك حتى أذكر لك بعضًا من بسيط الكرامات وعاديها، والتي أُبصرُها كلَّ يوم، أو أسمعها من أفواه من وقعت لهم، من ذلك:
1- أحد الإخوان كُفَّ بصره فذاكر حضرة الأستاذ، فقال له: إن كتمتَ الأمر أبصرت، فرضي بالشرط، فمسح على عينيه فأبصر، ولكنه بعد أيام أخبر بما كان، فكُفَّ بصره ثانية.
2- بعض الإخوان توجَّه إلى مسجد سيدي أبي العلا ليُصلّي الظهر، حينما دخل المسجد مرَّ على الضريح، فخطر له قراءة الفاتحة لسيدي أبي العلا، ولكن قال في نفسه: أقرأُ الفاتحة أولًا لشيخي قبل السلطان أبي العلا، ثم لم يقرأ له، فلما دخل إلى المرحاض([6])، ما يشعر إلا وقد سقط في المرحاض إلى رقبته، وكان يومئذ من غير منجنيق، فنادى شيخنا، فحضر، وجذبه إليه من تحت إبطيه حتى أخرجه، وكانت إحدى نعليه غاصَّةً، فأحضرها له، ثم إنَّ هذا الأخ لما قابل شيخنا بعد المغرب، قال له: يا فلان، ما جرى لك اليوم؟ يا فلان، لا تترك قراءة الفاتحة لهم.
3- حملت إحدى زوجات الإخوان، وفي التاسع مات الجنين، وبقي عشرة أيام ميتًا ببطن أمِّه، وعند الوضع ذاكر هذا الأخ شيخنا، فعندما سمع شيخنا مُذاكراته قال: كذلك يا فلان، وبتمامها تمَّ الوضع للأمِّ طبيعيًّا، كأن لم يكن هناك وليد مات منذ عشرة أيام.
4- كان أحد إخوان إمبابة متوجِّهًا بعد المجلس إلى منزله، كان وقتها تصليح خشب الكوبري، فسقط هذا الأخ إلى الماء من فُرجةٍ بين لوحين، فما هو إلا ونادى شيخنا، فحضر، وأطلعه من الماء، وناوله عصايةً، وأخذ بيده حتى انتهى من الكوبري، وسار إلى منزله، والتفتَ فلم ير شيخه.
5- كان هذا الأخ متوجِّهًا إلى منزله، وكان الوقت بعد منتصف الليل، والظلامُ حالكٌ؛ لأنه آخر شهر عربي، فاستغاث بشيخه، فوجد أمامه إنسانًا يحمل فانوسًا، ويسير أمامه، فتبعه حتى إذا قارب البيت سلَّم عليه حاملُ الفانوس، فردَّ عليه السلام، وسأله عن اسمه، فقال: عبد القادر، وسلّم على شيخك.
6- كان بعض إخوان جزيرة ميت عقبة أرمدَ العينين، وفيما هو جالسٌ بمنزله يتأوَّه سمع امرأةً تقول: مدد يا أبا حامد، مناديةً شيخنا، فقال: أُمال، إحنا ما لنا؟ فما أتمَّ الكلمة حتى انشقت الحائط، ودخل منها شيخُنا، وقال له: نعمل لكم إيه في اعتقادكم؟ ثم مسح على عينيه، فبرئ لوقته.
7- كان لبعض وجهاء بندر الجيزة([7]) ابنةٌ وحيدةٌ، أصابتها حمى، وبعد شفائها خرست، فلم تتكلّم أبدًا، فعرضوها على الأطباء سنوات، فلم تُشفَ، فأحضروها لشيخنا، فما حكوا له حكايتها حتى تألَّم لها، ونظر إليها نظرةً، فسألها عن اسمها، فنطقت به، وهكذا استمرَّ يسألُها، وتجيب، وذهب في الحال خرسُها، وكانت هذه الكرامة سببًا في دخول والدها وأقاربها في طريقنا.
8- كان بعض الإخوان موظفًا بالحكومة، وأرادت المصلحةُ تثبيته، فطُلب منه الدخول للكشف الطبي، فذاكر شيخنا عن ذلك، وإنه متخوّفٌ من بصره، وقال له: يا فلان، نجاحك متوقف على صدقك في محبَّتنا، فأنت وصدقك. وعند الكشف على بصره وجدَ لوحةَ العلامات أمامه على بعد شبرٍ من عينيه، وبذا نجح في الكشف ببركة شيخنا.
9- كان بعض الإخوان بأسوان([8]) وهو أعزب، فحضر لمصر، وتذاكر مع شيخنا ليأذنه بالتزوج، فقال له: تمهَّلُ. فعاوده مرتين، فلم يأذنه، فقال لشيخنا: إني مسافر، وسأزني. فقال له: إن قدرتَ. وهو بأسوان تهيَّأت له الفاحشةُ، فلمَّا همَّ، تمثل له شيخنا، وربطه من ذَكره بحبل، وسحبه، فأخذ في الاستغاثة، ومن حوله يعجبون، فأخبرهم، فرموه بالجنون، فلم يسعه إلا الحضور لمصر، ووقف أمام شيخنا باكيًّا مُستغيثًا تائبًا، فلمَّا صفح عنه، انحلَّ الحبلُ، وذهب الألم، ثم لم يمض إلا أيام وزوَّجه الله زوجةً صالحة شريفة.
10- حدَّثَ بعض الأحباب قال: كنت في داري ذات يوم، فأخذتُ أُقلِّبُ في خزانة كتبي علّي أجدُ كتابًا أطالع فيه ما ترتاح إليه نفسي، فوقع في يدي كتابُ تصوف، فقرأت فيه طائفةً، وطلبت الفهم، فلم أهتد إليه، فطويتُ الكتابَ، وخرجت من البيت، فقصدتُ ترويح النفس، فخطر لي زيارة سيدي الشيخ سلامة الراضي، فيمَّمتُ مكانه، واستأذنت في الدخول، ودخلت، فبادرني رضى الله عنه بقوله: ليس المُرادُ من مطالعة كتب التصوف ألا يهتدي الإنسان إلى المعنى، ويقف على ما انطوى في إشاراتهم، بل المراد فهمُ كلام القوم، والذي رأيت في هذا الكتاب -وسماه لي باسمه- هو كذا، والمُراد منه كذا، وأخذ يشرح لي، ويبيّن، ويُورد لي ويصدر، فأخذَ مني العجب مأخذه، وقلت: واللهِ، هذا هو الولي العارف، وهذه كرامة.
وكراماته رضى الله عنه كثيرة وهذه واللهِ قطرةٌ من بحرّ، وزهرةٌ من بستان.
مجلسه رضى الله عنه: يجلس رضى الله عنه للإخوان بعد الخلو من أعمال وظيفته، فيأخذُ في تعليم الإخوان وإرشادهم، وتهذيبهم وملاطفتهم، فتارةً يطرح السؤال العلمي، ويطلب الإجابة، فيجيب كل أحدٍ بما يحضره، فيناقشه، ويحرر له إجابته، ويُربيّه على ألا يُلقي القول جزافًا([9])، بل يزن الكلام، ويتخير من الألفاظ ما يؤدي المعنى تمامًا، غير مشتت الفكرة، ولا مبدَّد الفهم، حتى إذا انتهت إجابات الإخوان، أخذ رضى الله عنه في الشرح والبيان بقول عذب، ولفظ سمح، سهل يفهمه العامي، ويرضاه العليم، فإذا رأى تعطُشًا عند الإخوان، واستعدادًا لفهمٍ أعلى، أخذ في ذلك، وهكذا تعلو العبارة، فيعلو فهم الإخوان، وتتسامى هممُهم، ويتكامل فهمهم وشربهم، وتزاح الجهالة منهم، وتتبدَّدُ الغشاوة عن أعين بصائرهم.
مجلسُه رحمةٌ، وعلمٌ، ونور، وتهذيب، وتواضعٌ، وتربية للعقول والوجدان، فلا تجدُ مريدًا غير بصير بمناحي القولِ وخفيّه، لا تجدُ مريدًا غير حول، ولا متين الفكر والتبصرُّ.
يخرج المريدُ من المجلس وكلُّه إقبالٌ على الله، وهيامٌ فيه، وحب له، ولا تجد مريدًا غير متولّه في محبَّة النبي صلوات الله عليه، ولا شغوفٍ بذكره، والتعلّق بجنابه الشريف، ولا تجدُ مريدًا يقلّدُ في التوحيد، أو في فهم سقيم من علمٍ، أو مُتّبعِ لرأي غير ناضج، فمجلسُه مدرسةٌ عالية صوفية علميةً سامية.
أخلاقه: هذه والله الحيرةُ بعينها أن أُحدّثك عن أخلاقٍ محمدية، متجلية واضحةٍ محققة في ذاتٍ حامدية، حياءٌ في أدب، وصراحةٌ في حقِّ، وعزَّةً في تواضع، وكرمٌ شامل، ومواساة للفقير، وإعانةٌ للعاني، وعطاء ولا خشيةَ لفاقةٍ، ونجدةٌ هاشمية للقاصد، وحلمٌ مع غفران، ومسامحةٌ مع ستر، وذكاء نادر مكين، من حفظ ألفية ابن مالك في عشرة أيام، ومع الشغل، وفراسة وفصاحة مع سهولة إفهام، وبسطٌ مع حشمةٍ، وصبر مع رضا، وشجاعةٌ وشهامة وثباتٌ على مبدأ، ورباطةُ جأشٍ([10]) في الأهوال، ومداراةٌ وتحمّل، ونزاهة، وعفاف، وتدين مع كمال ائتمان.
أما علمُه، فماذا أحدثك عن إنسان هو معارف جامعة؟ من أيِّ جهاتِ العلم قصدته أفتاك، وأفادك وأرشدك، وقوَّمَ فهمك، وردَّكَ عن حيرتك، ودفع عنك أوهامك، وسوء ما علمت واعتقدت، وكم رأينا عالمًا ممن يُشار إليهم بالبنان حضر لديه، وهو يقصد تجهيله، فسير معه شيخُنا واحدةً واحدة حتى ينتهي ما بيد العالم من معلوم، ويسقط في يده، ثم يأخذ شيخُنا في الإفادة والمحاضرة حتى يقوم ذلك العالم فيقبِّل يدي شيخنا، ويتتلمذُ، ويُحسب من مريديه، والقولُ كثير، والشيخ رضى الله عنه جليل جليل.
حليته رضى الله عنه: شيخنا نفعنا الله به معتدل الطول، ملفوف الجسم، أسمرُ اللون قليلًا عربيه، عظيم الهامة، واسع الجبهة، طويل أصابع اليدين، يده ليِّنةٌ كأنهال الحرير، يمشي تكفُّأً([11])، تطوى له الأرض، وراثةٌ محمدية، فإذا تأخر عنه من سار معه ولو خطوة أجهد نفسه حتى يلحق به، يدخل البيت، فيملؤه شذا المسك، قويُّ البصر، قويُّ الشمِّ، قوي السمع، ينطق قلبه في نومٍ ويقظةٍ، يذكر الله نفعنا الله به وأطال في عمره.
أما تربيتُهُ للمريدين فبالحال والنظر، وفيهم من المباركين والصلحاء والأولياء، وأهل الخير والاستقامة حشرنا الله في زمرته وزمرة أحبابه، ولا حرمنا عطفهم ومددهم، ونظرهم إلينا، وأدخلنا في جاههم وبركاتهم، وأنالنا بصادقٍ أنفاسهم وتوجهّاتهم آمالنا في خير وسلامة آمين.
([7]) البندر: البلد الكبير يتبعه بعض القرى.
الجيزة: بليدة في غربي فسطاط مصر قبالتها [«معجم البلدان» (2/200)].