ولد علي بن عبد الله بن عبد الجبار الذي عرف بأبي الحسن الشاذلي، والذي ينتهي نسبه إلى الإمام علي -ولد بقرية تسمى غُمَارَة بالمغرب عام 593هـ، وهناك تلقى من العلوم ما يتلقاه المثقفون في هذا العصر، ولكنه وجد ظمأ شديدًا للمعرفة، فواصل رحلته إلى العراق؛ للتعرف على نوع من العارفين بالله كان يطلق عليه في هذا العصر اسم «القطب»، ويقال أن أحد الأولياء قال له هناك: «إنك تبحث عن القطب بالعراق ولكنه في بلادك».
وبعد عودته إلى المغرب، عرف أن الذي يبحث عنه هو العارف بالله عبد السلام بن مشيش، وكان ساكنًا بمغارة في رأس الجبل، ونراه ينزل فيغتسل ثم يصعد إلى الجبل، وعلى حد قوله: «خرجت عن علمي وعملي، وطلعت إليه فقيرًا».
وفي مدرسة هذا الصوفي تَعَلَّمَ الكثير، ووضع مؤشر قلبه على الكثير، ويمكن أن تتلخص تعاليمه في مدرسة هذا العارف، بما روي عن أبي الحسن الشاذلي من قوله: أوصاني أستاذي، فقال: «حدد بصر الإيمان تجد الله في كل شيء، وعند كل شيء، ومع كل شيء، وفوق كل شيء، وقريبًا من كل شيء، ومحيطًا بكل شيء، بقرب هو وصفه، وبإحاطة هي نعمته، وعد عن الظرفية والحدود، وعن الأماكن والجهات، وعن الصحبة والقرب بالمسافات، وعن الدَّور بالمخلوقات، وامحق الكل بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن، كان الله ولا شيء معه».
وحين امتلأت روح سيدي أبي الحسن من أستاذه، قال له الأستاذ وهو يودعه ويرسم له طريقه: «يا علي، اذهب إلى إفريقية، واسكن بها بلدًا تسمى شاذلة؛ فإن الله عَزَّ وجل يسميك الشاذلي»، وهناك في جبل زغوان تَفَرَّغَ للعبادة؛ لينقي نفسه تمامًا من كل الشوائب، وليتحول إلى طهارة طاهرة، وحين تحقق له هذا، هبط إلى تونس ليباشر حق الولي، وهو يُعَبِّرُ عن هذا الإذن بأنه نور ينبسط على القلب، يخلقه الله فيه وعليه، فيمتد ذلك النور على الشيء الذي يريد، فيدركه نور مع نور، أو ظلمة تحت نور؛ فذلك النور
ينبئك أن تأخذ -إن شئت- أو تترك، أو تقبل أو تدبر، أو تعطي أو تمنع، أو تقوم أو تجلس، أو تسافر أو تقيم.
وما يكاد يتعامل مع الناس بهذا النور الذي يتحدث عنه، حتى يكيد له قاضي الجماعة المسمى بابن البراء عند السلطان، ويحاول السلطان ألَّا يتعرض لأبي الحسن، ولكن قاضي الجماعة يلقي إليه بأن مُلْكَهُ في خطر منه لكثرة الناس من حوله، ولكن شقيق السلطان يتدخل في هذا الأمر لصالح الحسن.
ثم يذهب إلى الحَجِّ، ويعود لتونس مرة ثانية، ويُسأَلُ عن عودته، فيقول مشيرًا إلى ولي الله أبي العباس المرسي: «ما رَدَّنِي لتونس إلا هذا الشابُّ».
ثم يترك تونس للسكن في مدينة الإسكندرية، وقد اجتمع حوله العديد من علماء مصر للأخذ عنه، وقد كانوا يستمعون إليه فيحسنون الاستماع، إلى حد أنه سئل عن عدم تأليفه الكتب؛ فقال: «كتبي أصحابي».
لقد كان القطب الرباني من هؤلاء المتصوفين الذين يتحولون إلى نور خالص؛ فهم يجاهدون أنفسهم كأعظم ما يكون الجهاد، وهم يدخلون في العديد من الرياضيات الروحية والسياحات الربانية؛ ذلك لأن غايتهم الهجرة إلى الله والفناء فيه، والتحليق بأجنحتهم حول أنواره.
وليس معنى هذا أن يصبح الصوفي عدميًّا ضائعًا، ولكن معناه أن يصل إلى مرحلة النقاء ودرجة الإشعاع بالقرب القريب من الله، وفي الوقت نفسه عليه أن يباشر حياته في الحدود المرسومة بالإسلام من غير إسراف، ومن الجميع المرهف بين ما يتطلبه القرب القريب من الله ومباشرة الحياة من غير إسراف -يكمن جوهر التصوف الإسلامي، ويظهر الفرق بينه وبين من يأخذون به من غير المسلمين.
وإذا أخذنا أبا الحسن الشاذلي دليلًا على هذا؛ وجدنا أنه -كما قيل عنه- كان يلبَس الفاخر من الثياب، ويركَب الفَارِهَ من الدواب، ويتخذ من الخيل الجياد، وهو نفسه يقول: «...لا تسرف بترك الدنيا فتغشاك ظلمتُها، أو تَنْحَلَّ أعضاؤك لها، فترجع لمعانقتها بعد الخروج منها بالهمة أو بالفكرة، أو بالإرادة أو بالحركة».
وما أعمق قوله لواحد من تلاميذه: «يا بني، بَرِّدِ الماء؛ فإنك إذا شربت الماء السَّخِنَ، فقلت: الحمد لله. تقولها بكَزَازَةِ، وإذا شَرِبْتَ الماء البارد، فقلت: الحمد لله. استجاب كل عضو فيك بالحمد لله».
فإذا أضفنا إلى ذلك أنه كان عالمًا له الصدارة في عصره، ومجاهدًا له دوره في انتصار المسلمين على الصليبيين في معركة المنصورة، وصَاحِبَ أرض تأتي بالخير الوفير، إذا أضفنا ذلك؛ أدركنا أن التصوف الحقيقي في الإسلام ليس عُدمًا وشطحًا وانسحابًا من الحياة، ولكنه تحويل الطاقة إلى نور، والارتفاع بالقامة إلى الأفُق، وشوق الأعماق قبل الأهداب لسر الأسرار.
يا أبا الحسن، لقد قال عنك ابن عطاء الله: «لم يختلف في قطبانيته ذو قلب مستنير ولا عارف بصير».
وقال تقي الدين محمد بن علي القشيري: «ما رأيت أعرف بالله من الشيخ أبي الحسن الشاذلي».
وقال مَكِينُ الدِّينِ الْأَسْمَرُ: «مكثت أربعين سنة يُشْكَلُ عَلَيَّ الأمر في طريق القوم، فلا أجد من يتكلم عليه ويزيل عني إشكاله، حتى ورد الشيخ أبو الحسن، فأزال كل شيء أُشْكِلَ عليَّ».
يا أبا الحسن، إذا كان كلامك كان يوصف بأنه كان دائمًا قريب العهد من الله -كما قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام- فإن هناك من قال عنك بحق: إن بعض العلماء يدعو الناس إلى باب الله، أما أنت -يا أبا الحسن- فتتجاوز الباب وتدخلهم إلى الله!!.