[34] سيدي شمس الدين الحنفي (775- 847)
[34]
سيدي شمس الدين الحنفي([1])
(775- 847)
قطبُ الزمان، وواحدُ الأوان، وشيخ أهل العرفان، سلطانُ الأولياء، وسكردان الأصفياء، منبعُ الأسرار، ومظهر شموس الأنوار، خامس الخلفاء، ووارث أسرار الأولياء، من أقامه الله رحمة للعباد حيًّا وميتًا سيدنا ومولانا تاج الملَّة والدين، موصل السالكين، ومرشد الهالكين، آية الله في أرضه المتوج بالأنوار، المتحلّي بلباس أهل الصدق الأخيار، الآتي في الطريق بالعجب العجاب، الذي تحيرت من فهم معاني كلامه أفهام أولي الألباب، سيد الفتيان والشيوخ، وملاذُ أهل التمكين والرسوخ، القطبُ الفرد، والغوث الجامع الأوحد، مولانا شمس الدين السلطان أبو عبد الله محمد بن الحسن بن علي الشاذلي الحنفي رضي الله عنه وأرضاه، وأمدَّنا بمدده، وحفنا برضاه.
كان رضى الله عنه من أجلاء مشايخ مصر، وسادات العارفين، صاحب الكرامات الظاهرة، والأحوال الفاخرة الخارقة، والمقامات السنية، والهمم العلية، صاحب الفتح المؤنق، والكشف المخرق، والتصدر في بواطن القدس، والرقي في معارج المعارف، والتعالي في مراقي الحقائق.
كان له الباع الطويل في التصريف النافذ، واليدُ البيضاء في أحكام الولاية، والقدمُ الراسخ في درجات النهاية، والطود السامي في الثبات والتمكين.
وهو أحد من ملك أسراره، وقهر أحواله، وغلب على أمره.
وهو أحد أركان هذه الطريق، وصدور أوتادها، وأكابر أئمتها، وأعيان علمائها علمًا، وعملًا، وحالًا، ومقالًا، وزهدًا، وتحنيفًا ومهابة وجلالة.
وهو أحدُ من أظهره الله تعالى إلى الوجود، وصرَّفه في الكون، ومكنه في الأحوال، وأنطقه بالمغيبات، وأجرى على لسانه الفوائد، ونصبه قدوة للطالبين، حتى تلمذ له جماعة من أهل الطريق، وانتمى إليه خلقٌ من الصلحاء والأولياء، واعترفوا بفضله، وأقروا بمكانته، وقصد بالزيارات من سائر الأقطار، وحل مشكلات أحوال القوم.
وكان رضى الله عنه ظريفًا جميلًا في بدنه وثيابه، يلبس ملابس الملوك والأمراء، وكان الغالب عليه شهود الجمال، وقد أفرد الناس ترجمته بالتأليف، وألفوا في مناقبه مجلدات، وأنى لمثلي يحصر مناقبه، وكيف أحوم حول هذا الحمى؟ فهو سيد الملوك بأسرها، وغوث الأولياء من مشرق الأرض إلى مغربها، سهلها وبرها وبحرها، ولكن نذكر لك جملة من مناقبه الشريفة فأقول:
ولد رضي الله عنه ونفع به في مصر عام سبع مئة وخمسة وسبعين، ونشأ في حجر خالته، ولما ترعرع مضت به إلى الكتّاب، فحفظَ القرآن، وأخذ العلم عن ابن هشام، وسمع على مولانا العراقي، وبعد ذلك ظهر له أن يكفَّ عن طلب العلم، فجلس في حانوت أعده له، وصار يبيعُ الكتب إلى أن أتاه داعي الرحمن: يا محمد، ما لهذا خُلقت، فاترك الدكان، فمثلك لا يصح لهذا الشأن، فأنت عندنا كبير الشأن. فترك الدكان وما فيه، وهام على وجهه محبة في خالقه ومنشيه.
واختلى سبعَ سنين، فأظهر المكتوم، ونطق بأسرار العلوم والفنون، وفهم أسرار معاني القرآن، وخضعت لسطوته ملوكُ الإنس والجان، وأتوه حبوًا، وتذلَّلوا بين يديه، وشهدت له الأعلام بأن سيكون له شأنٌ عظيم بين الأنام، وقد كان ما قالوه بفضل ربِّ الأنام، وبعد أن خرج من الخلوة أخذ الطريق، وصار من أهل ذاك الفريق، عن شيخه ومربيه، وموصله ومُدنيه مولانا ناصر الدين بن الميْلَق، عن جده مولانا شهاب الدين بن الميلق أبي العباس الواعظ المذكر المربي صاحب الكرامات والإشارات، المدفون بقرافة الشاذلية الكبرى، عن مولانا ياقوت العرشي، عن مولانا أبي العباس المُرسي، عن مولانا أبي الحسن الشاذلي رضى الله عنه.
وكان رضى الله عنه له أصحاب، كالنجوم في السماء، منهم: مولانا أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الغني السرسي، كان رضى الله عنه في منزلة مولانا الحنفي، وكانت له مكاشفات، وتوفي رضى الله عنه عام ثمان مئة وواحد وستين، ودفن بقرافة الشاذلية.
ومنهم: مولانا شمس الدين بن كتيلة المحلي.
ومنهم: صهره مولانا عمر المدفون بمسجده.
ومنهم: قاضي القضاة شرف الدين يحيى بن محمد المناوي([2]) الشاذلي كان رحمه الله من الأعيان، تولى مشيخة الجامع الأزهر، ولقب بشيخ الإسلام، وكان يحضر مجالس مولانا الحنفي، فأخذ عنه: وانقطع إليه، وصار يتردَّدُ عليه كثيرًا المرة بعد المرة، توفي رضى الله عنه اثني عشر جمادى الآخرة عام ثمان مئة وواحد وسبعين.
ومنهم: مولانا سراجُ الدين أبو حفص عمر بن الملقن صاحب «طبقات الأولياء» المتوفّى في ربيع الأول عام ثمان مئة وأربعة.
ومنهم: السِّراج البُلقيني مجتهد عصره، وعالم المئة الثامنة، المتوفى رحمه الله عاشر ذي القعدة عام ثمان مئة وخمسة، ودفن بوسط مسجده بباب الشعرية بجهة بين السيارج، ومقامه ثم يزار.
ومنهم: البدر العيني شيخ الإسلام، وقاضي القضاة الأعلام، المتوفى رابع ذي الحجة عام ثمان مئة وخمسة وخمسين، ومدفون بمسجده المعروف بحارة كتامة، المعروف الآن بحارة الأزهري بالرحاب الأزهري.
ومنهم: ولده حسًّا ومعنى مولانا محمود الحنفي المدفون خلف مسجده.
ومنهم: مولانا أبو مدين الأشموني من ذرية أبي مدين التلمساني، جاء رضى الله عنه إلى مولانا الحنفي وجلس عنده أربعين يومًا وكمل، وصارت له أصحاب وتلامذة أخيار، ومقامه هو المشهور باسمه جهة باب الشعرية بخط المُقسم بالزقاق الضيق، ومدفون معه من أولاده مولانا أحمد الشويمي قبالته، ومولانا أحمد الحلفاوي رضي الله عن الجميع. وله أصحاب لا يحصى لهم عدد، اقتصرنا على ذكر هؤلاء.
وكانت وفاة مولانا شمس الدين الحنفي بمصر في شهر ربيع الآخر عام ثمان مئة وسبعة وأربعين، ودفن في مسجده المشهور، ويُعدُّ مسجده من أعظم مساجد القاهرة، مبنيٌّ بالحجر الأبيض، وبه محراب كبير، عليه نقوشٌ جميلة بجوار منبره، مصنوع من الخشب المحشي بالصدف([3])، وبصحن المسجد قبة معقودة بمنافذ من الزجاج الملون، وسقف المسجد مبني باللازورد([4]) والزجاج الملون، وعلى يمين الداخل من الباب الكبير المقصورة الشريفة، التي فيها ضريحه الشريف، وعليه قبة متقنة البنيان.
وهو أحد الأقطاب المدفونين بمصر، تقصده الناس من الأماكن البعيدة، ومن أقاصي الأقاليم والبلدان، ويرجون عنده خيرًا كثيرًا، وبه تقام حضرة شاذلية في البكرة والعشية.
وعلى هذا المسجد تجليات ونفحات، وروائح المسك والكافور عطرت ذلك المسجد من بركة ساكنيه رحمهم الله، وما قصد هذا الضريح مكروب إلا أعانه الله ويسر عليه طلبه، ومما جُرّب لقضاء الحاجات أن من كانت له حاجة إلى الله تعالى، وأراد قضاءها، فليقصد زيارته ثلاثة أيام متوالية بعد صلاة الصبح تُقضَ في الحال، وهذه المسألة متواترة بين خواص المصريين وعوامهم، وهي من المجربات، ولا شكَّ أنها كذلك، اللهم أمدنا بمدده، وأسكنا بجواره، ومتعنا برضاك عنا، يا الله يا أرحم الراحمين.
([1]) محمد بن حسن بن علي التيمي البكري الشاذلي، أبو عبد الله شمس الدين الحنفي: صوفي مصري، من أهل القاهرة. اشتهر بأخبار حكيت عنه مع السلطان فرج بن برقوق وغيره. له «الروض النسيق في علم الطريق» توفي سنة 847 هـ. [«الأعلام» (6/88)، «دار الكتب» (1/314)].
([2]) يحيى بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، أبو زكريا، فقيه: شرف الدين بن سعد الدين الحدادي المناوي. شافعي، من أهل القاهرة، منشأه ووفاته بها، ولد سنة 798 هـ، ونسبته في الصعيد، أصله من منية بني خصيب، ولي قضاء الديار المصرية، وحمدت سيرته. توفي سنة 871 هـ ولما مات رثاه كثيرون. [«الأعلام» (8/167)، «شذرات الذهب» (7/312)].
[35] مولانا علي السدَّار الشاذلي (...- 778)