يكاد ينفرد الصوفيون، وهم جمهور الأمة الأغلب، غير منازع، ثم من والاهم من بقية المذاهب الإسلامية، بكثرة التوسل إلى الله بقراءة الفاتحة في قضاء حاجات الدنيا والآخرة، ولهم في ذلك برهان لا يدفع قررناه غير مرة، وأسلفنا ذكر بعضه في هذه الرسالة.
ومن أدلة استحباب الفاتحة علىٰ اختيارها بالذات أنها الكم المشترك حفظه بين أهل القبلة جميعًا، على اختلاف الثقافات، والألسن، والأعمار، والأوطان، والألوان؛ بسبب أنها فاتحة الكتاب، ومادة الصلاة. وهي خمس وعشرون كلمة، جمعت علوم القرآن ومعانيه حتى سميت أم القرآن. وآياتها السبع تتجاوب مع الألسنة والقلوب، والعواطف والعقول جميعًا، بالوراثة، والثقافة، والنور الإلهي، مع ما فيها من العذوبة، والطلاوة، وحلاوة الإيمان، ثم سبق الإرادة الإلهية على استفاضتها بهذه الصورة الفريدة في مجتمع الإسلام.
وقد أحصى لها القرطبي في تفسيره أربعة عشر اسمًا لم تحص لغيرها؛ مما يدل على زيادة شرفها وخصوصيتها.
وقد جاء ثابتًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في فضلها شيء كثير، نذكر منه ما يأتي:
أ- في البخاري قال صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد بن المعلى: «لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن». قال: «﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١) الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 1-7]، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته»([1]).
ب- في الموطإ والترمذي بسند حسن صحيح قال صلى الله عليه وسلم: «مَا أَنْزَلَ الله عَزَّ وَجَلَّ فِى التَّوْرَاةِ وَلاَ فِى الإِنْجِيلِ مِثْلَ أُمِّ الْقُرْآنِ وَهِىَ السَّبْعُ الْمَثَانِى وَهِىَ مَقْسُومَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»([2]).
جـ- وفي مسلم: أن مَلَكًا نزل من السماء لم ينزل قط إلا في هذا اليوم، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: «أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلاَّ أُعْطِيتَهُ»([3]).
د- وفي البخاري([4]) وبقية الصحاح حديث الرقية بالفاتحة، وكيف شفى الله اللديغ ببركة قراءتها عليه، وكيف استهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع النفر الذين رقوا بها فيما أهدي إليهم.
أخيرًا، لهذا ولغيره التزم السادة الصوفية بقراءة الفاتحة في مجالسهم، توسلًا إلى الله على نياتهم أو منطوقهم.
وأهل العلم يعرفون أنه ليس كل ما لم يأت به نص يكون حرامًا ولا مبتدعًا، وشر الفقه فقه الجمود أو الجحود.