[55]
سيدي أحمد ابن عجيبة الحسني([1])
(...- منتصف القرن 13)
الشريف الحسيب، قطب دائرة الولاية الكبرى، ومنبع أسرار أهل الحقيقة، شيخ الطريقتين، وعمدة الفريقين، ولي الله الأكبر، وغوثه الأشهر، سيدنا ومولانا أحمد ابن عجيبة الحسني الإدريسي الشاذلي الفاسي.
كان رضى الله عنه من أهل التمكين، تلقى في بدايته العلوم الشرعية.
وكان رضى الله عنه يلبس الملابس الحسنة، ومال إلى طريق التصوف، فأخذ أنوار الطريقة، وتلقى أسرار الحقيقة من أستاذه فرد هذه الطائفة سيدي محمد البوزيدي رضى الله عنه، ولقنه العهود، والأوراد، والذكر، وقال له: يا أحمد، يا ولدي، شروط الطريق عندنا الصدق والمحبة. وقال رضى الله عنه: فقلت له: يا سيدي، نحب أن تكتب لنا ذلك في كاغد. قال: فكتب لي بذلك، ولما خلوت بنفسي، نظرت إلى الكاغد([2])، وقرأتُ ما فيها، ففتح عليَّ في الحين، وصرت من أهل الحقائق والتمكين.
وبلغ رضي الله عنه وأرضاه مقامات العارفين بصدقه وحبه، فخلع ما كان عليه من الثياب، لما فتحت له الأبواب، وناداه منادي الأحباب: ما هذا الحال يا ابن عجيبة؟ فأفيضت عليه الأنوار، فارتدى مرقعة وإزارًا، وعلق سبحته وقرابه([3]) في عنقه كما هو شأن الأخيار، وصار يمر في الأسواق معلقًا قرابه في عنقه، لابسًا لمرقعته وسبحته، وهو يقول بأعلى صوته: الله الله، أش هادي الغريبة؟ لو كان العلم يغني عن الحال، ما يعلق القراب ابن عجيبة.
واستمر على هذا الحال حتى نال ما نال، وتكلم على أسرار أهل الكمال، فأبدى علومًا غريبة، وأسرارًا عجيبة، وأجمعت على ولايته أهل المغرب بأسرها، وتبركوا بتقبيل يديه، وأقبلت الوفود عليه، وكان قدس الله سره نظره إكسيرًا([4])، إذا أتاه أو التقى معه من يعرفه يرقيه في ميدان «حسنات الأبرار سيئات المقربين»، حتى كثرت على يديه الأتباع والمريدون.
ومن يطالع شرحه على «الحكم» يعرف قدره ومكانته عند ربه، وكان شرحه لهذه «الحكم العطائية» يأمر من لا تسعه مخالفته فرد الطائفة الشاذلية أستاذه وموصله بسلسلة الأنوار سيدي محمد البوزيدي، قال قُدَّس سره: وجلُّ هذا الشرح الذي نقيده إنما هو مواهب؛ لأني أكتب الحكمة ولا أدري ما أكتبُ، فأقف مفتقرًا إلى ما عند الله.
وله تآليف وشروح كثيرة، منها: كتاب «قواعد التشوف في حقائق التصوف»، وله تفسير للقرآن في الظاهر والباطن([5])، قال قدس الله سره: إذا أردت أن نتكلم في التفسير أو غيره نشرع في الكلام، ثم نغيب، فكنت نحس بالكلام يخرج مني من غير اختيار، كأنه السحاب، فتصدر مني علوم وحكم، ولقد حضر معنا ذات يوم رجل كبير السن، فسمع ذلك، فقال: والله، لقد حضرت مجالس العلماء والصالحين، واللهِ، ما رأيت مثل هذه الجواهر واليواقيت التي تخرج من سيدي أحمد ابن عجيبة، وذلك كله ببركة صحبة أشياخنا، فجزاهم الله عنا أحسن جزائه.
ومن تفسيره عند قوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ...﴾ [الأحزاب: 56]: وأما كونها -أي الصلاة- تقوم مقام الشيخ في دخوله مقام الفناء والبقاء حتى تعتدل حقيقته وشريعته، فلا تنقطع رعونات([6]) النفس إلا بآمرٍ وناه من غيره، يكون عالمًا بدسائس النفوس وخدعها، وغاية ما توصل إليه الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يظفر بالشيخ الفناء في الصفات، وينال مقام الصلاح الأكبر، وتظهر له كرامات وخوارق، ويكون من أرباب الأحوال، وإن وصل إلى مقام الفناء، تكون شريعته أكبر من حقيقته، هذا ما ذقناه وسمعناه من أشياخنا، والطريق التي أدركناهم يستعملونها، وأخذنا عنهم أنهم يأمرون المريد إن رأوه أهلًا للتربية أن يلتزم الاسم المفرد، ويفني فيه حتى تنعدم عوالمه، فإذا تحقق فناؤه، وغاب عن نفسه ورسمه، ردوه إلى مقام البقاء، وحينئذ يأمرونه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتكون صلاته عليه كاملة، يصلي على روحه وسره بلا حجاب، ويشاهده في كل ساعة كما شاهد ربه.
أقول: ولهذا كانت الطريقة الشاذلية بدايتها نهاية غيرها، ونهايتها تحقيق فافهم.
وتآليفه قدس الله سره، ونفعنا به عليها لوائح نفثات أهل المعرفة الكمل، فإنه أُعطي رضى الله عنه ناطقة أسرار أهل الله، وأدرك مقامات العارفين بربهم، حتى عُدَّ قطب الزمان، وواحد الأوان.
وكلامه قدس الله سره عال، حل مشكلات القوم، وفك طلاسم أسرارهم، وتكلم بما أبهر عقول الأعيان.
توفي قدس الله سره في منتصف القرن الثالث عشر، ومقامه بالمغرب مشهور يتوسل به إلى الله في قضاء الحاجات، ودفع الكربات، أمدنا الله بمدده، ونفعنا به، وجعلنا على أثره. آمين.