الصوفي الفقيه، الزاهد النبيه، المشتغل بأخراه عن دنياه، المتوكل على مولاه، إمام الطريق، وعمدة أهل التحقيق، مربي المريدين بالهمة والحال، وموصلهم إلى مقامات الرجال، العارف الرباني، والولي الصمداني، سيدنا ومولانا الأستاذ سيدي رفاعي أحمد ابن عطاء الله السماني الشاذلي، شيخ الطريقة السمانية، وناشر لواء دولتها بين البرية.
نشأ قدس الله سره في بلدته بلصفورة، وبعد أن حفظ القرآن، وتعلم العلم، اشتاقت نفسه إلى العبادة والأنس بربه، فكان يذهب إلى الجبل الغربي، ويمكث هناك أيام الأسبوع، ولا ينزل إلا لصلاة الجمعة، ومن ذلك الوقت تبعه خلق كثير، وهو متجرد مقبل على الطاعة، وقد هيأ الله له الأسباب، فسافر حاجًّا إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر نبيه عليه الصلاة والسلام، وكان معه من أتباعه ما يزيد عن السبعين، منهم مولانا سيدي أحمد سرحان، وكان من أهل الشهود والعيان. ومنهم سيدي الحاج شيخون، فاجتمع بالمدينة المنورة بقطب الوقت، وصاحب الزمان الأستاذ سيدي أبو الحسن السمان، فأخذ عليه العهد، وأجازه بالإرشاد، فرجع وعين العناية تلاحظه، وقد زاد شوقه وهيامه، فربى المريدين، وأرشد السالكين، وانتشرت الطريقة على يده، وأجاز بالخلافة أهلها في جهات متعددة.
ثم توجه إلى الحج لأداء الفريضة، وكان السفر من طريق القصير على البحر الأحمر، وأقام هناك أيامًا تبعه فيها غالب أهل القصير، وخلف عليهم خليفة مباركًا، هو مولانا طه حمد، وهم لا يزالون على محبته إلى الآن، وقد أخبرنا من كان معه باحتفاء العرب به، وصفهم الموائد لأجله، ومساعدتهم له ولأتباعه.
وبعد أداء المناسك، سافر إلى المدينة المنورة، وبها اجتمع بشيخه أبي الحسن قدس الله سره.
وفي هذا العام اجتمعت الخلفاء السمَّانية من جميع الأقطار في زاوية مولانا، بجوار الحرم المدني، وكان شيخه من أهل الولاية والشهود، فطلب من الخلفاء الموجودين فتح الخلوة بدون مفتاح، وهذه الخلوة هي التي كانت لسيدي محمد السمان الكبير، صاحب الطريقة العلية، فتقدم كل خليفة على حسب الأمر، فلم يفتح الباب، وكان الأستاذ سيدي رفاعي آخر القوم جلوسًا، مُلتفًا بعباءة صوف، فقال له الأستاذ: قم يا رفاعي. فقام متواجدًا، وفتح الباب، وأخذه بعد ذلك حال شديد، فخلع عليه الأستاذ خلعة سنية، وألبسه التاج الذي كان يتبرك به طول حياته، ومن هذه الكرامة توجهت إليه البركات، وتواصل إليه الود الروحاني، فأنشد لسان حاله يقول:
هل يشتروني بعيبي إنْ سألتهمو |
* | أو يصبحوني غدًا للظعن سواق([1]) |
إني رفاعيكم منذ لست أنا |
* | من جملة القوم لي عهد وميثاق |
وهي قصيدة طويلة.
ورغمًا عن تواضعه، وميله إلى الخمول، وعدم الشهرة، اجتمع بمصر مع السيد علي البكري، شيخ عموم المشايخ بالديار المصرية، فأعطاه إذنًا عامًّا على عموم الطرق، وأذنه بأن يكون رئيسًا يرجع إليه في أمر عموم أهل الطريق، وهذه الإجازة محفوظة لدينا إلى الآن، ومن الغريب لم يطلع عليها أحدًا في حال حياته بل كان سيره خاصًّا بطريقته السمَّانية فقط، تأمل.
وفي عام وفاته أخبر زوجته أنه سيتوفى في ليلة النصف من هذا العام، وفي هذه الليلة المعهودة، كان في بلدة أحبابه المزاولة، وبعد انتهاء حضرة الذكر مشى إلى جنينة([2]) حبيبه فرغل بك عبد القادر، وأمرهم باستحضار أهله وولده، فحضروا، فأخذ يقبل ولده الوحيد، وهو مولانا الأستاذ العارف بالله سيدي محمد السمان قدس سره، ويبكي، ويدعو له، وأخذ يتلو في القرآن، يرفع صوته بالجلالة، واشتد عليه المرض، فتوفي سحرًا في ليلة النصف المباركة عام ألف وثلاث مئة وأربعة عشر، ودفن بمشهد عظيم في ضريح وليِّ الله سيدي محمد عبد القادر، بجوار ضريح والده، وعليه قبةٌ معقودة، ومقام يزار، تلوح عليه الأنوار، وتقصده الزوار من كل مكان.
وخلف ولده المشار، فسار بسيره، وسلك مسالك الطريقة، وتبعته تلامذة أبيه، وجددوا عليه الطريق، وكثرت أتباعه، فجمع بين العلم والعمل، واقتدت به الرجال، وخلعت عليه خلع الكمال، وأقام حضرات الذكر، بهمته المعهودة، وتولى خطابة مسجد العدوية، حيث هو الآن، ولقد أحسن إليَّ بتردده لديّ في كل آن، بينا لست أهلًا لذلك، وشاهدت عليه أمورًا سنية، وأحوالًا بهية، وأُعطي رضي الله عنه ونفعنا به القبول الخاص والعام.
لم أر أكثر منه تواضعًا في العلماء، يتواضع للكبير والصغير، في الكرم بحر لا يدرك له قرار، متباعدًا عن الأغيار، أدام الله حياته، وأفاض علينا من فيض مدده آمين، فهو بدر العلوم اللائح، وقطرها الغادي والرائح، وثبيرها الذي لا يزحم، ومنيرها الذي ينجلي به ليلها الأسحم([3])، أما فنون الأدب فهو ابن بجدتها، وأخو جملتها، وأبو عذرتها([4])، ومالك أزمتها، تستخرج الجواهر من بحوره، وتحلى لبات الطروس([5]) بقلائد سطوره، تآليفه غُرزٌ منيرات، أضاءت في وجوه دهم المشكلات، عالمٌ أقلامه نفثات السحر، تآليفه عقائل أصبح الدهر من خطابها، له بدائع مائسات الأعطاف، بحر البيان الزاخر، شيخ المعارف وإمامها، ومن في يديه زمامها، لديه تنشد ضوالُّ الأعراب، وتوجد شوارد اللغة والإعراب، فسبحان المنعم الوهاب.